بقلم : سهيل كيوان ... 30.05.2013
في كل فتاة مراهقة سورية مشرّدة أرى والدتي يوم كانت مثلها قبل خمسة وستين عامًا.
لم يكن وقتها مخيمات داخل الوطن، فأقامت مع أسرتها تحت شجرة زيتون حنون، وقبل حلول شتاء عام النكبة ،انتقلت وأسرتها للعيش في القرية المجاروة (مجد الكروم) التي تزوجت فيها هي وشقيقتها، وكانتا الأغلى مهرًا في حينه من بين بنات البلدة.لم يسمح لأسرتها بالعودة إلى قريتها وبيتها أبدًا إلا كغرباء.
كلما مضى بي الزمن، أكتشف أن والدتي أهم مصدر لقصصي الحقيقية الواقعية، التي كانت تتفنن في سردها، فقد كانت حافظة لأهازيج النسوة في الأفراح، تنشدها وهي تحممني في اللّجن، وأنا أصرخ ألما ورعبًا بسبب رغوة الصابون الحارقة في عيني، وهي تفرك وجهي بالليفة بقوة، وتحثني على الصبر.
كان هذا بعد انتهاء الحكم العسكري كما يبدو، عام 1965 ذهبت معها بمرافقة شقيتها وأولاد خالتي إلى قريتها المهجّرة، والتي لا تبعد هوائيا أكثر من ثلاثة كيلو مترات عن قريتنا، لا يفصل بين القريتين سوى جبل زُرع في العقود الثلاثة الأخيرة بالمستوطنات.
عندما وصلنا إلى بيت والديها أشارت إليه قائلة’ هذا بيتنا إنه بيت جدكم ‘،كما يبدو كان هذا في تموز، وأكواز التين ناضجة مشهيّة، فهجمنا على التينة، فهجم علينا سكان البيت الجدد، وطردونا شرّ طردة، كانوا عربًا مثلنا.
كان لدي فضول لأعرف من هؤلاء الناس، ولماذا سكنوا في بيت جدي المصادر! حملت عليهم، وشعرت تجاههم بعداء.
خلال هذه العقود مررت كثيرًا من جانب البيت الذي طرأت عليه تغييرات كثيرة وإضافات، رأيت ساكنيه من بعيد، ظهرت وجوهٌ جديدة واختفت وجوه، قبل أسبوعين فقط، قررت الدخول إلى البيت للتعرف على ساكنيه، لقد تم ترميمه وتوسعته، صار معاصرًا مصفحًا بالحجر والبلاط وحوله حديقة جميلة، وأمامه سقيفة جميلة من الخشب الأحمر.
ربما كان هذا (الدكتور) الذي استقبلني مرحبًا واحدًا من الأطفال الذين طردوني عن تينة جدي قبل خمسة وأربعين عامًا!
عرّفته على نفسي، وطلبت أن أعرف كيف ولماذا يسكن أهله في هذا البيت! كان خاله ما زال حيًا وذاكرته ممتازة، فاقترح أن نذهب إليه كي أسمع القصة منه!
حكى لي الشيخ الجليل:’ كانت قريتنا في سهل الحولة اسمها (أكراد الغنامة)، يبدو أن أجدادنا من أصل كردي ولكنهم تعرّبوا، جاؤوا إلى فلسطين مع جيش صلاح الدين الأيوبي، في عام النكبة وبسبب مجزرة صغيرة في القرية القريبة( الحسينية)، التي هدمت عن بكرة أبيها، نزحنا شرقًا مسافة ثلاثة كيلو مترات إلى منطقة معزولة السلاح بين سوريا والدولة الجديدة (إسرائيل)، والبعض منا ابتعد وتوغل في الجولان وحتى العمق السوري.
في العام 1951 أي بعد النكبة بثلاث سنوات، جمع الجيش الإسرائيلي سكان المنطقة المنزوعة السلاح بشكل منظم في حافلات، بحجة الخوف على أرواحنا بسببتوتر مع سوريا، نقلونا ليلا إلى هنا إلى قرية (شعب)، كانت الطرق وعرة والسيارات قديمة ،واستغرق نقلنا طيلة الليل، أما الحلال من ماعز وأغنام فقد تبعتنا بعد مسير ثلاثة أيام.
مكثنا على بيادر القرية أسبوعًا، -حيث بناية المجلس المحلي الآن- كان الخوف شديدًا، وقبضة الحكم العسكري ثقيلة، وكل من تحدث عن العودة إلى القرية، جاءه بعد أيام مستعربون وضربوه وأهانوه أمام الناس حتى لو كان عجوزًا، وما لبثوا أن أسكنوا كل أسرة في بيت من بيوت أهل القرية المهجرين، مقابل إيجار رمزي للحكومة حتى يومنا هذا!
ومضت السنون، كانوا خلالها يفاوضوننا على استبدال أرضنا في قريتنا في سهل الحولة مقابل أرض هنا، ولكننا رفضنا وما زلنا نرفض، ولا أعلم عن أي واحد من قريتنا باع أو بادل بالأرض، لكنهم لم يرجعونا كما ترى، رغم قرار من هيئة الأمم المتحدة بإعادتنا الى المنطقة المعزولة السلاح في العام 1951 ورقمه 93.
لدى الشيخ الذي تجاوز التسعين دفتر يدوّن فيه مذكراته، خطه جميل جدًا ويتقن القراءة والكتابة بشكل ممتاز.
تصفحت في دفتره بسرعة، في إحدى الصفحات كتب ما يلي’ مهر زوجتي 4500 قرش فلسطيني، وخُلعة لخالها، ولعمها ولشيخ البلد!’. -الخُلعة هي قطعة قماش لكل منهم كي يفصّلها قمبازًا-.
توقفت عند قصة ثانية كتبها’ في عرس ابن شيخ محمود من آل الرفاعية، حضر رجل من القرية الفرح ولكنه لا يملك نقدًا للنقوط، فما كان منه إلا وأن أشارإلى أربعمائة دونم من الأرض للعريس كي يفلحها ويعيش منها’. قلت للشيخ..لعلها أربعون أو أربعة دونمات! فأكّد لي الشيخ أنها كانت أربعمئة دونم فلحها العريس حتى عام النكبة. هذا دعاني للتفكير بمساحات مخيمات اللاجئين التي لا يصل أكبرها إلى مائتي دونم.
رافقت الدكتور وشقيقتيه إلى قريته أكراد الغنامة في سهل الحولة، التي يزورها كل شهر، أطلالها مسيجة بسياج شائك علقت عليه يافطات ‘الدخول ممنوع، المخالف يعاقب’!
لافتة أخرى على السياج حول المقبرة الدارسة التي تسرح فيها الأبقار ‘لا تزعجوا الأبقار”! قال لي الدكتور’: منذ سنوات جئتإلى لجنة كيبوتس(أييلت هشاحر) الذي استولى على أراضي القرية، وفاوضتهم ليسمحوا لي بصيانة المقبرة، ولكنهم رفضوا وقالوا لي:’ إذا سمحنا لك بتصوين المقبرة سيأتي يوم وتطلب أن تعود إلى قريتك’!
أمامنا سهل الحولة وسفوح هضبة الجولان المحتلة من الجهة الغربية.
مضينا بالسيارة حتى قطعنا سهل الحولة ووصلنا نهر الحاصباني، هناك يوجد نبع مياه كبريتية، أطلق عليه الأجداد اسم (الحمام)، وجدنا عنده رجلا يهوديًا ومعه طفلان!
دار حوار بين الدكتور وبينه..الدكتور تحدث عن حق المهجرين بالعودة إلى قراهم، واليهودي الذي اتضحأنه أستاذ جامعي وخبير في أساليب البناء حسب الحقب التي مرت فيها مدن فلسطين، يعرف المنطقة جيدًا، وجاء خصيصًا إلى (الحمام) كي يستحم فيه بسبب مرض جلدي كما يبدو، قال: قبل شهر تم إدخال جريحين سوريين عن طريق الصليب الأحمر لعلاجهما في صفد ،فقامت الدنيا ولم تقعد، فما بالك بعودة المهجرين!.
معظم أهل أكراد الغنامة وأكراد البقارة وغيرها من قرى الحولة التي كان عددها حوالي ثلاثين قرية يعيشون الآن في مخيمات سورية، جرمانة،النيرب، سبينا، اليرموك!
اليوم وبعد خمسة وستين عامًا ما زالوا لاجئين هناك، وبعضهم يُهجّر مرة أخرى، وما زال الجولان محتلا، وأسوأ من هذا، في العام 1965 انتهت حالة الطوارئ في قرى الجليل، ولكنها استمرت في سورية، والأسوأ أننا نرى مراهقات في مثل سن والدتي يوم هُجّرت، من السوريات والفلسطينيات يتحولن إلى لاجئات، وعلى يد ذوي القربى هذه المرة،وكأن الدنيا لم تتغير، بل ازدادت سوءا، وهذا لن يغيره إلا استمرار ما بدأه البوعزيزي حتى نصر شعوبنا على أنظمة الفساد في كل الوطن العربي…