بقلم : مسلم محاميد ... 02.11.2012
في سلسلة قادمة من المقالات –قد تكون متفرّقة- سأتناول بعض "أعراض" مرض عقدة الخواجة الّذي يصيب كثيرين منّا ويجعل أعناقهم تشرئبّ توقًا لهذه الثّقافة الغريبة الدّخيلة، وهاماتهم تنحني خجلًا من ثقافتهم. وفي هذا المقال سأتناول الأسماء الّتي نطلقها على أولادنا، مستوردين إياها أحيانًا، ومغرّبين بعضها أحيانًا أخرى، ظنًّا منّا أنّ هذه الأسماء هي غربيّة.
فكثيرًا ما نجد من أسماء العَلَم العربيّة ما هو غير عربيّ أو مستورد، أو عربيّ مغرّب، فكأنّي بكثير من حَمَلة هذه الأسماء أو ممّن أطلقها عليهم، يخجل من عروبته أو يتوق إلى ثقافة الآخر، لأنّه يجد فيها رقيًّا ولا يرى هذا الرّقيّ في ثقافة الأجداد وإرثهم. وهذا من منطلق عقدة الخواجة النّاتجة عن عدم الثّقة بالنّفس.
لقد حُقّ للوالد أن يطلق على ولده اسمًا يليق به ويشرّفه، وحَقّ للوليد أن يحظى باسم يلقى فيه الناس في دنياه بفخر وربّه يوم الدّين بكرامة. وفي هذا السّياق، جاء في بعض الكتب (مثل: حياة الحيوان للدميري وبر الوالدين وابن الجوزي)، أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شاكيًا إليه عقوق ولده، فاستدعى عمر الولد العاقّ وساءله لائمًا في أمر عقوقه والدَه، فبرّر الولد عقوقه قائلًا: يا أمير المؤمنين: أليس للولد على أبيه حقّ؟ فأجابه عمر: بلى، فقال: ما هي هذه الحقوق يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر – رضي الله عنه-: أن ينتقي له أمّه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، أي: القرآن، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، إنّ أبي لم يفعل شيئاً من هذا. وذكر من بين ما ذكر، تقصير والده في انتقاء اسم يليق به قائلًا: قد سمّاني "جُعَل" (واسم جُعَل يعني حشرة سوداء هي الخنفساء أو كما يطلق عليها أيضا "أبو جعران" .هذا ما تذكره أمّهات المعاجم العربيّة، لا سيّما لسان العرب والصّحاح في اللّغة والقاموس المحيط). فأنّب عمر الوالد لأنّه لم يعط للولد حقوقه، ومن بينها اسم يليق به. ولا يعني سردنا مثل هذه القصّة تبريرًا لعقوق الوالدين –لا سمح الله-، بل هو إبراز لأهميّة اختيار الاسم الجيّد والمشرّف للولد.
والأسماء، إنّما تعبّر عن البيئة الّتي يعيشها المرء، فقد لا تفي بعض الأسماء بما يليق بعصر دون آخر. فلقد لاءمت أسماء عربية كثيرة البيئة الجاهليّة لأنّها عبّرت عن المفاهيم والثّقافة المحيطة في حينه، غير أنّها لا تتناسب اليوم مع البيئة المعاصرة. فاسم صخر مثلًا يدلّ على القوّة والصّلابة، غيرَ أنّه لا يناسب ثقافتنا المعاصرة، بل قد يعدّ مثل هذا الاسم اليوم انتقاصًا من حقوق الولد. هب أنّ هنالك من يطلق على ولده اليوم اسم كلب أو جحش أو غيرها من الأسماء الّتي لا تليق بعصرنا.
من هذا المنطلق، دأب الآباء على انتقاء أجمل الأسماء لأولادهم وبناتهم. ولقد لعب المجاز دورًا هامًّا في تشكيل مفاهيم الأسماء العربيّة المعاصرة. وهذا شيء جميل يُرصد لصالح نيّة الآباء إعطاءَ أبنائهم وبناتهم أفضل الحقوق.
لكن، هنالك من الآباء من يخجل في إطلاق الأسماء العربيّة على أبنائهم، فيعمدون إلى طريقتين لإبعاد هذه الأسماء عن العروبة. فإمّا أن يطلقوا عليهم أسماء غير عربيّة، تيمّنًا بمشاهير غربيّين أو غير ذلك، أو أن يحاولوا تغريب الأسماء العربيّة، وهذه هي المشكلة الأشدّ.
فاسم "لينة" على سبيل المثال، يُكتب عند البعض "لينا"، وهذا دليل على جهل من تحمل الاسم أو من أطلقه عليها بمعناه وبعروبته. وإنهاء كتابة هذا الاسم بالألف، يدلّ على تغريب الاسم، فليس من المتّبع في نقل الأسماء الغربيّة المؤنّثة استعمال التّاء المربوطة، بل الألف، مثل: ديانا، صوفيا، كلارا وغيرها من الأسماء الغربيّة. ومن الأسماء العربيّة الّتي ينهيها بعض العرب بالألف بدلًا من التّاء، كخطأ شائع مقصود: نادية، فادية، رانية....
وعودةً إلى ثقافتنا العربيّة الأصيلة، فإنّ اسم لينة، هو عربي محض لا تشوب عروبته شائبة، ولقد ورد ذكره في القرآن الكريم: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين" (الحشر:5)، واللينة هي النّخلة الكريمة كما تروي كتب التّفسير والمعاجم. فمجازًا، من أراد أن يسمّي ابنته لينة، فإنّ هذا الاسم يعني النّخلة الطيّبة، كناية عن الكرم والجمال وما إلى ذلك. ثم نادية وفادية، وما شابههما من الأسماء، فهي أسماء فاعل مؤنّثة تحمل دلالة الجذر الّذي منه بُنيت، فنادية من النّدى وفادية من الفداء.
إنّ قافلة الأسماء الّتي تندرج في هذا الباب كثيرة، وإنّ ما ذكر هنا، هو شكل من أشكال التّحريف في الأسماء لتغريبها. وهنالك الكثير ممّا قد يُعدّ من وسائل التّغريب للأسماء –لا مجال لذكره هنا-.
ويبقى أنّ العربيّ ما إذا أطلق العنان لأذن واعية وعين مراقبة وعقل متفكّر ولُبّ متدبّر، فسيخلص حتمًا إلى أنّ ثقافته العربيّة هي أصل عزّه وعزّته، وفخره ومفخرته. فالعربُ ما قصّروا في بناء الأمجاد لهم ولغيرهم، ولا في خدمة مجتمعهم ومجتمعات غيرهم يومًا، إلّا بعضهم ممّن فقدوا ثقتهم بأنفسهم، وباتوا كالأغصان الضّعيفة تتلاعب بها رياح الاستعمار، ويتشبّثون بذيول الحضارات الأخرى، يتبرّكون منها ويصبون إليها، ويخجلون من كنوز الأجداد وإرثهم العريق. فما يزال العرب منذ أن انفرج جفن التّاريخ وانبلج صبح الحياة، خيرَ أمّة أخرجت للنّاس، يكفكفون دموعهم ويضمّدون جراحهم ويدعون إلى الإنسانيّة الخالصة، عملًا بمواثيق الرّجولة العربيّة، وتطبيقًا للنّاموس الإسلاميّ العظيم. فلا داعيَ إثر ذلك إلى البحث عن البخس ما دمنا نمتلك النفيس، ولا داعي للبحث عن المزيّف ما دام الأصل بين يدينا، ولا داعي للإعجاب بالغير ما دام الجمال من أبرز شمائلنا وخلالنا.