بقلم : محمد جميل خضر ... 11.02.2013
- في مسلسل «سلطانة»، كما في مسلسليّ «العوسج» و»عائد إلى حيفا»، يتجلى جهد كاتب السيناريو الراحل غسان نزال كمدماكٍ محوريٍّ من مداميك الدراما التلفزيونية. فنزّال الذي مضى على رحيله سبعة أعوام (مات في 28 كانون الثاني من العام 2006)، لم يتعامل في أعماله التلفزيونية سواء المسلسلات المنتجة في زهاء 30 حلقة أو السهرات التلفزيونية (المقتربة من فكرة فيلم تلفزيوني)، أو البرامج أو التوقيعات (اللوحات) الشبيهة بـ «بقعة ضوء»: «نقطة وسطر جديد» و»شو هالحكي»، بصفتها مصدر رزق وكفى، متجاوزاً هذه الدافعية إلى أفق الإبداع الفسيح، الذي جعله (رغم الإهمال الإعلامي والنقدي الذي تعرض له) رقماً صعباً في الكتابة الدرامية على صعيديّ السيناريو (بمعالمه الواضحة وتفاصيله الدقيقة) والحوار (بذكائه وفهمه أبعاد الشخصية الاجتماعية وقدراتها الذهنية والمعرفية وسماتها النفسية)، وبقدرته على توقع ردود فعلها بناء على مجمل المعطيات السابقة.مسلسل «سلطانة».. نقلة نوعيةهو رقمٌ صعبٌ بابتعاده عن التكلّف الكتابي وتحميل الشخصية ما لا تطيقه ولا يتناسب مع مجمل مكوناتها كما يفعل بعض كتّاب الدراما التلفزيونية محلياً وعربياً، وينخرطون أحياناً في حوارات أعمالهم إلى حدّ التماهي، فتصبح لغة الحوار وثقافته ومستواه، لغتهم هم ككتّاب ومثقفين، لا لغة شخصياتهم. في مسلسل «سلطانة» الحائز على جائزة الإبداع الذهبية من مهرجان القاهرة بتوقيع المخرج إياد الخزوز وإنتاج المركز العربي للإنتاج الإعلامي في العام 2007، وبطولة عديد نجوم الدراما المحلية والعربية: قمر خلف، وائل نجم، لارا الصفدي، زهير النوباني، نادرة عمران، عبد الكريم القواسمي، ياسر المصري، كندة علوش، محمد القباني، نادية عودة، ناريمان عبد الكريم، أحمد العوري، محمد المجالي، أيمن غرير ويوسف كيوان وغيرهم، يشيد نزال المولود العام 1953 في جنين، سيناريو المسلسل وحواراته مستفيداً من روايتيْن للروائي الراحل غالب هلسا، في مقدمتها بالطبع رواية «سلطانة» التي حمل العمل اسمها، وكذلك رواية «زنوج وبدو وفلاحون» إضافة إلى استفادته من قصة هلسا «وديع والقدّيسة ميلادة وآخرون». وهنا يظهر أول ما يظهر الجهد الذي بذله نزال مقلّباً صفحات الروايتين والقصة، ومقلّباً أبعادها، وأبعاد شخصيات النصوص، وقارئاً المراحل الزمنية التي تعالجها الروايتان والقصة، ومحاولاً خلق تقاطعٍ بنائيٍّ دراميٍّ دلاليٍّ معرفيٍّ مثمرٍ مع صاحب النصوص، متلمساً ما أراد هلسا أن يقوله، وما يريد أن يقوله هو عبر اختياراته تلك، ليصل أخيراً إلى بناء جديد لا يلغي ما أنجزه هلسا، ولكنه يمنحه دماءَ تَجُدُّدٍ وروح بقاء عبر عمل تلفزيونيّ يحيط بمجمل مشروع هلسا الإبداعي والمعرفي، ومجمل مواقفه السياسية، ويحاول تتبع مسيرته الإنسانية والاجتماعية من خلال شخصية (جريس) الحاملة لكثير من ملامح هلسا، والمتقاطعة مع مصائره.إجمالاً، يجسد المسلسل الذي يمثل نقلة نوعية في الدراما المحلية، التطورات الاجتماعية والسياسية التي شهدها الأردن منذ تأسيس الدولة، ويرصد التحولات الاقتصادية والانتقال من نمط البداوة إلى النمطين الريفي والمدني وما صاحبها من تحول طبيعة الحياة في عمان التي انتقل إليها البدو والريفيين مشدودين لمغريات الحداثة أو لحاجات اقتصادية وتعليمية، وانخراط قسم منهم بالنشاط السياسي لتغدو عمان مركز الثقل الاقتصادي والسياسي في البلاد.كما يعاين الترابط الاجتماعي والتكافل المجتمعي، والتعايش والتسامح الديني في الأردن، من خلال ابراز العلاقة الحميمة التي جمعت المسلم بالمسيحي (علاقة آمنه بجريس وعلاقة زيدان بأم الياس نماذج).«عائد إلى حيفا»: لقاء الغسّانيْنفي مسلسل «عائد إلى حيفا» العلامة المهمة الثانية في مسيرته الدرامية، يعيد نزال الحاصل على بكالوريوس جغرافيا من جامعة بيروت العربية، قراءة رواية الراحل الآخر غسان كنفاني التي يحمل المسلسل اسمها، بعين جديدة، ووعي جديد، ويبني من رواية لا تتعدى صفحاتها 80 صفحة، عملاً تلفزيونياً من 25 حلقة أنتجتها شركة عرب للإنتاج الفني، وعرضتْ المسلسل غيرُ قناة تلفزيونية، بانتظار أن يفعل ذلك التلفزيون الأردني، وينال العمل أخيراً وبعد أعوام من الإهمال، ما يستحقه من اهتمام ومتابعة محلية. نزال ولغايات درامية بنائية سياسية، ولضرورات إيصال رسالة الرواية وبالتالي العمل، يخلق للسيناريو شخصيات ليست موجودة في الرواية، ويركز على وجه الخصوص، على ما فعلته العصابات الصهيونية (الأراغون والهاغانا وشتيرن وغيرها) من أجل تحقيق مآربها ومآرب الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. في هذا السياق، يبتعد نزال عن الصورة النمطية، ويقدم عديد الشخصيات الصهيونية واليهودية المتنوّعة في قدراتها وتفاصيلها وفي مرجعياتها وثقافتها وقيمها الأخلاقية. وينحاز قدر المستطاع إلى موضوعية مهنية ترى أن ما حققته تلك العصابات في فلسطين لا يمكن أن يكون مصادفة، ولا بالاستناد إلى الصورة السخيفة والركيكة السائدة في وجدان كثير من العرب عن الصهيوني (الجبان الشرير تماماً والنذل والخسيس). لا شك أن بعض هؤلاء يتصف بكثير ما ورد أعلاه، ولكنهم يخططون، ويفكرون، ويخلصون لحلمهم وغايتهم الكبرى. كما يركز العمل الذي أخرجه الفلسطيني المقيم في سوريا باسل الخطيب وأدى أدوار البطولة فيه عدد من نجوم الدراما السورية مثل سلوم حداد ونورمان أسعد وسامر المصري وغيرهم، على طبيعة الحوارات التي دارت بين زعماء هذه العصابات، وبين عدد اليهود ممن غررت هذه العصابات بهم وجلبتهم إلى فلسطين، مما جعل اللغة العبرية لغة رئيسية ثانية في المسلسل الذي تجلّت في نهايته رسالة المقاومة كخيار لا يمكن الالتفاف عليه أو إدارة الظهر له.حلم السينماأعمال تلفزيونية كثيرة كتبها غسان نزال صاحب المجموعة القصصية «نعي بائع كعك»، وفي مسلسل «العوسج» إخراج نجدت أنزور، يتقاطع مع روائي ثالث هو التركي ياشار كمال، مختاراً له روايه «ميميد الناحل» أو «ممد الناحل» كما في طريقة أخرى للفظ اسم محمد تركيّاً، محاولاً عبر اختياره هذا خلق تقاطع إنسانيٍّ مع قاطع طريق شنفريّ أو صعلوك طيب؛ يسرق الأغنياء ليطعم الجياع والفقراء. وفي سهراته التلفزيونية (الساعة التلفزيونية) تتململ نوازع سينمائية كان يمكن أن تتحول إلى حقيقة وأفلام تعرضها الصالات لولا الرحيل المباغت في عز العطاء، وتحديداً أثناء كتابته سيناريو وحوار رواية «ذاكرة الجسد» للجزائرية أحلام مستغانمي، التي تروي مصادر معنية أنها أعجبت كثيراً بالحلقة الأولى التي أنجزها نزال قبل أن يسرقه المرض العُضال دون إمهال، وهي التي يقال إنها صعبة المراس ولا ترضى بأي شيء. الموت لم يسمح لنزال بكتابة باقي حلقات العمل الذي تعثّر كثيراً بعده، إلى أن رأى النور قبل زهاء عامين بروح لا تشبه الروح التي يبدو أن نزال أنجز من خلالها حلقة يتيمة من حلقات المسلسل، قبل أن يفرض الجسد إيقاعه ويمعن في الضمور والوهن حتى لحظة الصمت الأخيرة والنهائية.أسطورة مخيم جنين«أجزم أن هذا الجيش لم يقهره عناد المقاومين فحسب، بل قهرته مريم الوشاحي وفدوى الجمال، وقهرته مفرقعات العيد التي صارت بيد الأشبال أكفأ من سلاحه، وأجزم أن هذا الجيش استفزته تغميسة الزعتر وقطعة الخبز المبللة، وأصوات المآذن والعتبات والسقوف الدالفة، استفزته «أم علي» التي حاكت من بقايا بيتها راية رفعتها فوق الركام.. وأجزم أن هذا الجيش خرج وقد التصق في ذاكرة جنوده من أفراد جولاني وجفعاتي و»ايجوز» عارٌ أبديٌّ لا يُمحى». في هذه فقرة من مقدمة كتابه «مخيم جنين: أسطورة هزت العالم» الذي أنجزه في العام 2002 إثر الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين والضفة الغربية المحتلة، يكشف نزال صاحب رواية «التشريق» عن وجه آخر من وجوه كتابته، كما يكشف عن فهم للواقع السياسي والاجتماعي والعسكري الميداني على الأرض، فهم عبّر عنه بلغة أدبية إنسانية راقية، ولم يُضِرْهُ في سياق عرضه لما حدث في المخيم آنذاك، أن يشير إلى ممارسات فردية لبعض جنود جيش الاحتلال اتسمت بمسحة إنسانية. كما عرض الكتاب قصصاً ملحمية حقيقية وبطولات مقاومة خارقة، تصلح في مجملها لأن تكون نواة أعمال درامية كان الراحل بارعاً في صنعتها.في الانتظارأعمال مهمة أخرى كثيرة في رصيد نزال الذي يتمتع برؤية ثاقبة وقدرة على التحليل العميق والعلمي والتناول الموضوعي، ويملك ناصية صنعة السيناريو والحوار، إلى القدر الذي جعل فناناً من طراز السوري أسعد فضة يظن أنه درس فن الإخراج، لما كان يظهره من دراية بحركة الكاميرا. كان في أعماله يهتم كثيراً بتفاصيل المكان ويصفها بدقة لافتة، إضافة للبناء الدرامي الدقيق لشخصياته وحتى العناية الفائقة في اختيار أسماء هذه الشخصيات. ولم تخل كثير من أعماله من نَفَسٍ كوميديٍّ ساخر كما في «نقطة وسطر جديد» و»شو هالحكي». ومن سماته الفذة اعتماده على نهج علمي وتقني في الوصف كوصف آلية عمل البندقية بدقة في «عائد الى حيفا»، وما يتعلق بميكانيك السيارات كما في الجزء الثالث من مسلسل «حارة أبو عواد». السيناريو الخاص بالتمثيلية التلفزيونية «بائع الماء» عن قصة الراحل الآخر غسان كنفاني «موت سرير رقم 12»، «شاحنة الملح»، «رحلة العودة»، «زواج سائق تكسي»، «ليلة عيد»، «المولود أنثى»، مسلسل «شباب قدكم» و»شقة على الرصيف» أعمال وسهرات تلفزيونية أنجزها نزال. وفي الانتظار مخطوطات أعمال كتبها نزال وظلت حبيسة الأدراج بعد رحيله: «بنات المختار»، «ضيعة الأفندية»، المسلسل الكوميدي «خيرها بغيرها» و»درب الحصى». هي مشاريع أعمال تنتظر من يعيد الروح في عروقها، وفي عروق طريقة مغايرة في كتابة السيناريو التلفزيوني. ورغم أنه كان قليل الكلام، كما يكشف أهل بيته، إلا أنه كان يخوض في أدق التفاصيل عندما يبدأ كتابة السيناريو بجَلَدٍ استثنائيّ واستمتاعٍ عميق مع فنجان قهوته وأوراقه وسجائره، وربما هذا ما يفسر (بيتوتيّته) وقلّة ظهوره في الساحة الأدبية والفنية الأردنية.