بقلم : خالد الحروب.. ... 20.12.07
«كنائس وكاتدرائيات أوروبا العريقة، تشكو قلة المصلين والمرتادين، على عكس كنائسنا «في الولايات المتحدة» التي يزداد عدد مرتاديها». بهذه الكلمات ينعى مرشح الرئاسة الأمريكي المتدين جورج رومني ما آل إليه وضع الكنائس والدين في أوروبا. وهو في الآن ذاته يبشر ناخبيه بأن كنائس الولايات المتحدة الأصولية تمتلىء بالمصلين. ليس ما يقلق هنا هو خواء أو إمتلاء أماكن العبادة أيا ما كان دينها، لكن ما يخيف حقاً هو هذا الهوس بإعادة خلط الدين بالسياسة والتبجح بذلك. ما يحدث في حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية هو إرتكاسة قروسطية مرعبة، وتواصل للإنهيار الذي دشنه المحافظون الجدد في مجال تديين السياسة ليس المحلية فحسب بل والعالمية. والنعي الذي يعلنه رومني، الأصولي العريق وأحد أتباع عقيدة المورمن المتعصبة، إزاء أوروبا وعدم تدينها هو في الواقع نعي للولايات المتحدة وتفاقم أصوليتها. صحيح أن علاقة الدين بالسياسة في الغرب ظلت ملتبسة بعد الهزيمة المدوية التي تلقاها الدين في أوروبا في أعقاب الحروب الدينية الطويلة والإستبداد البابوي وتحالفاته مع الإقطاع والملكية. وصحيح أنه يستهوي البعض الجدل هنا بأن الدين ظل قابعا في خلفية الصورة، ولم يغادرها بالمطلق، وأن الكنيسة، حتى وإن كانت رمزية، فإنما ظلت مجاورة للسياسة وإن أخذت على نفسها أن تكون جاراً غير مزعج. لكن في نهاية المطاف كان فصلها عن السياسة أوقع بكثير من أن لا يُعتبر واحدا من أهم الإنجازات الفكرية الكبرى لمشروع الحداثة الغربي برمته.
الزحف الديني على موقع الرئاسة الأمريكي ليس حدثاً فجائياً، ولا يبدو عابراً أيضاً. فلئن كان ذلك الزحف يتربص بالموقع الرئاسي منذ عقود طويلة ويحفر خنادقه حول البيت الأبيض سنة بعد سنة، فإنه في السنوات الأخيرة أحكم الحصار ورفع رايات الظفر بلا مواربة. ولعل أجلى صور ذلك الظفر هو ما نراه الآن من تصريحات متلاحقة على ألسنة المتنافسين على الرئاسة و هم يستبيحون كل ضروب العقلانية والسياسة الراشدة بغزلهم السمج في التيارات الدينية الكنسية يمينا ويساراً. ينطبق هذا على المرشحين الديموقراطيين إنطباقه على منافسيهم الجمهوريين. فلئن كان رومني الجمهوري لا يمل من استسخافه من يظنون أنه سيخلق مسافة بينه وبين الكنيسة التي يتبعها بمظنة التخفف من أعبائها وتحييد مساهمتها في خسارته أصوات غير المتدينين، فإن المرشح الديمقراطي باراك أوباما يكرر في خطاباته الانتخابية على العلاقة الخاصة بينه وبين المسيح، وعلى انتمائه للكنيسة الموحدة. وأمام صلافة المرشح الجمهوري الآخر، جون مكين، الذي يصرح بأنه يعتقد بأن الشعب الأمريكي فريد وأن الرب يمحضه حباً خاصاً، هناك المرشحة الديموقراطية هيلاري كلنتون التي أنجرت هي الأخرى للمزايدة الدينية لتفاخر بتربيتها الدينية وإنتمائها لكنيستها الخاصة. كل ذلك يذكرنا بالعبثية الدينية المدمرة التي أقحمها جورج بوش في السياسة الأمريكية، والتي خاض بناءً عليها حروباَ ضد أفغانستان والعراق لأن الرب كان يصادق على قرارته!
ربما يمكن القول أن أحد أسباب «الإستسلام الرئاسي» المدهش لنفوذ التيارات الدينية في الولايات المتحدة هو تلاقي صعود قوة اليمين المسيحي مع تضاؤل الفروقات البرامجية بين الجمهوريين والديمقراطيين، بما يدفع كلاهما لتقديم تنازلات كبرى لكسب أصوات القوة الصاعدة. ولهذا فإنه من المثير أن تحتل قضايا الإجهاض وحقوق المثليين رأس الأجندات والموضوعات الانتخابية، وهي ما يقض مضاجع اليمين المسيحي، لتتفوق على قضايا ملحة أخرى كالتعليم والصحة، حتى لا نذكر قضايا السياسة الخارجية التي يبدو أنها آخر ما يقلق الناخب الأمريكي.
كما يمكن المجادلة هنا بأن التجربة الأمريكية فيما خص علاقة الدين بالسياسة اختلفت دوما عن التجربة الغربية في جغرافيتها الأم، أي في أوروبا. ففي الأولى ظل تجاور الدين مع السياسة أقرب بكثير من الثانية، خاصة وأن النشوء التاريخي «للعالم الجديد» الذي أراد المهاجرون الجدد أن يروه في الاراضي التي استكشفوها «وتخلصوا من سكانها الأصليين» له جذوره الراسخة في «البيوريتانية البروتستانتينية» التي أرادات أن تخلق عالما مثاليا بعيدا عن صراعات أوروبا. وقد ظلت «الطهرانية» المعلنة، أو المزعومة، للمهاجرين الجدد الذين تشكل منهم «العالم الجديد» راسخة الجذور في الوعي الشعبي والنخبوي، رغم أنها تناثرت عملياً على سفوح الجبال التي سفكت عليها دماء الهنود الحمر، وكذا على طول حدود الولايات والمصالح المتنازع عليها خلال الحرب الأهلية الطويلة.
لكن الأهم من التأمل في أسباب الردة الدينية الأمريكية وإبتلاعها للسياسة هو تحليل تأثيراتها العديدة والواسعة النطاق على التسيس والتدين العالمي. ففي وقت تتصاعد فيه الأصوليات في العالم، من المسيحية، إلى الإسلامية، إلى اليهودية، إلى الهندوسية، ويتربص كل منها بالمجال السياسي الأقرب لها، فإن التدين المتصاعد للسياسة الأمريكية يقدم لها مسوغات ذهبية على أطباق من حرير. ولئن كانت الأطروحة التي تنسب كثيراً من صعود تلك الأصوليات إلى عنجهية السياسة الأمريكية ونزعتها الأمبريالية الأحادية بالغة الصلف تتمتع بقدر كبير من الصدقية، فإن لنا أن نتخيل ما ستنتجه تلك السياسة على مستوى عالمي عندما تتبنى إضافات أصولية مسيحية صهيونية وخلاصية.
نسمع كثيراً في هذه اللحظة السوداء، شرق أوسطياً وعالمياً، مبررات وتسويغات وتأييدات عديدة للمد الأصولي الذي يضرب يميناً ويساراً. ولنا أن نتوقع أن يزداد ذلك وهو يعتاش على ما توفره له الأصولية الأمريكية المتصاعدة من مسوغات وتفسيرات: كيف لا نلجأ لقوة الدين عندنا ونجعله يقود السياسة والدولة العظمى في عالم اليوم تقوم بذلك خطوة بخطوة؟ هذا ما سنسمعه من اليوم فصاعدا. وسنسمع فوقه أسئلة الإستفهام: كيف يُطالبنا العلمانيون بأن لا نقحم الدين في السياسة وأرباب العلمانية في الغرب صاروا يخضعون لتعاليم الدين عندهم ويفتحون له أبواب قصورهم وجلسات صناعة قرارهم؟
وكما يحدث في كل طامة تحدثها الدول المتقدمة ويتم تصديرها بالتأثير إلى بقية دول العالم، فإن الدمار المترتب عليها يكون أضعاف ما يكونه في «بلد المنشأ». إذ عندما تصل معضلة من الحجم الثقيل كالتي نناقشها هنا إلى مجتمعات ما يزال يغلب عليها التقليد الديني اصلاً ولم تنفتح لآفاق ما وراء التدين، فإن تديين السياسة يعني إيغالاً في تقليديتها وهزيمة مبكرة لقوى التنوير فيها. وإن كان الغرب، اوروبا أو الولايات المتحدة، يتمتع بطبقة عريضة وسميكة من ثقافة ما بعد تقليدية يمكن أن تصمد في وجه ردة عابرة فتعاود الكرة وتعيد مسار السياسة إلى ما يجب أن يكون عليه، فإن الأمور ليست مغزولة على ذات المنوال في بقية مجتمعات العالم. وهكذا فإن تمت معالجة الخراب هنا بعد حين قصير، مثلاً، فإن الخراب المتضاعف هناك سيحتاج إلى أحايين مديدة كي تتم معالجته. ترى هل يرى مرشحو الرئاسة الأمريكية في مناماتهم رؤىً دينية وأطياف آلهة تنبئهم بالخراب المعولم الذي يقومون به وهم يتسامجون دينياً في سباقهم نحو البيت الأبيض؟