أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الفيلم الفلسطيني بين التّسجيلي والدرامي!!

بقلم : رجاء بكريّة ... 6.1.08

[ رأي نقدي ]
*تطرح هذه الورقة هواجس كثيرة تتعلّق بمرجعيّة التّعرف الرّائج لما يعرف بالفيلم الفلسطيني. هل شرط الإخراج الفلسطيني سبب في تبعيّته للهويّة الفلسطينيّة أم أنّه شرط المضمون ، وأيّ التبعتين أكثر مصداقيّة في تقديم عمل سينمائي فلسطيني؟ وإذا سجّلت المصداقيّة لأحد الشّرطين فأيّ منهما سيفصل في اعتبارات هذا التّعريف الضّبابي؟
في صلب هذه الهواجس المسجّلة عن ومن الفيلم الفلسطيني تقف الطّروحات الكثيرة الّتي عمّمت هذا التّعريف فأحدثت خللا وبلبلة لدى المهتمّين بمسيرته حين جعلته فضفاضا، وأضافت كلّ فيلم يشرف على إخراجه مخرج فلسطينيٌ إلى هذا التّعريف، بينما ظلّ الفيلم الفلسطيني يطمح إلى إخراج موضوعته من قبل مخرج فلسطيني، السياسيّة والإجتماعيّة المشوّهة والغائبة غالبا لدى كلّ المهتمّين بمسألة وجوده وحضوره إعلاميّا وفنيّا. وظلّت المعالجة الفنيّة ثانويّة في اعتبار الشّارع الفلسطيني الّذي ظلّ يبحث عن أدوات مفترضة لطرح إشكاليّة هويّته السّياسيّة بالدّرجة الأولى. لكنّ الطّرح السياسي لمسألة الهويّة يعاني هو الآخر من إشكاليّة على جانب كبير من الأهميّة يتعلّق بهواجس هذا الطّرح السياسي، وهو يشبه ولحدٍّ بعيد هواجسنا نحن حين بدأنا الإعداد لهذه الورقة.
أيجب أن تظلّ إشكاليّة الحصار والمعاناة وأحداث القتل والإغتيال والتّشابك مع المحتل الإسرائيلي بالحجارة والرّصاص والقذيفة مرجعا مفترضا للموضوعة الفلسطينيّة، أم أنّ للمضامين الحسيّة شأنٌ في هذا الخليط العجيب؟ هل يمكن الحديث عن الحبّ والعشق والجنس في منطقة ملغومة بسلب الحريّات ومصادرة الحقوق من محتلٍّ يصرّ على إلغاء الفرد لمجرّد أنّه يحمل هويّة فلسطينيّة؟ وحين سينتهي مسلسل القتل بماذا ستنشغل الموضوعة الفلسطينيّة، هل سنعرف الخوض في منطقة الجسد دون الإحساس بحاجة لقذيفة هنا ودسيسة هناك؟
حاصرتني مثل هذه التّساؤلات، وأنا أفسح مساحة للفكرة, وعليه ليس من السّابق لأوانه أن نختلق الأعذار لنفي حاجة السيناريو الفلسطيني لتصوّرات الحلم الرّوحيّة والجسديّة، وأقصد العشق والجنس مثلا مقابل القتل والمقاومة والرّفض. ولسنا نعتبر العشق أو الجنس هنا رديفان محتملان للقتل والمقاومة كهروب مؤقّت إلى إسقاطات الفرضيّة، ولن نستعير الفضاءات الشّعريّة كي تشفع لما نحبّه عمّن لا نحبّه، ولما نخافه عمّن يخافنا.
وعودة على أطروحة هذه الورقة فإنّنا نضع الطّريق الشّاق الّذي عبره هذا اللّون من الفنون المرئيّة أمامنا كي نلاحظ في مرآة الآخر أنفسنا كفاعلين ومنتجين للغة حضور مختلف، ليس كما أراد الشّريك السّياسي في اختلال الهويّة، ولكن كما لم يتوقّع.
والشّوط الّذي أنجزه السيناريو الفلسطيني منذ الثّمانينيّات يجب اعتباره ذريعة لتأكيد حضوره على المستويين الحسّي والفكري. الحسّ الفكري والفكر الحسّي، وكلاهما يرسمان نضال الأمكنة والأزمنة بأدوات فاجأت الإحتلال بسبب النّفق الّذي دُفع إليه الفيلم الفلسطيني عموما ولزمن طويل داخل الخطّ الأخضر ضمن من يسمّون فلسطينيّو أل 48 وضمن حدود أل 68 . وصحيح أنّ التّسجيل الواقعي للهويّة أحدث سبقا في مناطق أل 67، لكن غالبا لدى القلّة الّتي تمكّنت من تجنيد الأموال والميزانيّات خارج الضفّة وغزّة، أي في الشَّتات. وغالبا جنحت هذه الأفلام ، كما أشرنا سابقا إلى توثيق المعاناة وإشكاليّة الهويّة . وقد شكّلت حالة البحث عن الهويّة لدى الرّعيل الأوّل في الإخراج السينمائي الفلسطيني، في الثّمانينيّات، في مناطق أل 48 وأل 67 حاجة للثّوثيق والتّسجيل خشية ضياع الشّواهد، وفيما بعد هاجسا. فكان أن لجأت الأفلام الأولى في الثّمانينيّات إلى تسجيل تاريخ الهويّة الفلسطينيّة، والإنتماء ومفردات أخرى على نهجها، حدث هذا غالبا لدى مخرجي الشّتات، فلهم نمنح السّبق في إثارة إشكاليّة الهويّة سينمائيّا . هم الرّعيل الأوّل الّذي أثّر في شريحة واسعة من الشّباب الفلسطيني في مناطق أل 48، ويمكن هنا أن نشير إلى الدّور الفاعل للحزب الشّيوعي في دعم الفعل الثّقافي الفلسطيني الفقير عبر البعثات الّتي نظّمها بتمويل من الدّول الإشتراكيّة، الإتّحاد السوفييتي، في حينه.
في هذا السياق سنؤكّد على حضور المخرج علي نصّار كأوّل مخرج سينمائي فلسطيني في مناطق أل 48 حاز على رعاية الحزب الشيوعي في خوض عالم الإخراج، وأنّه يعتبر أوّل من أحدث حِراكا لتاريخ الفيلم داخل أل 48 ، سواء على المستوى التّسجيلي أو الدرامي. ويبدو أنّ تجربته الفنيّة رغم الصّعوبات الّتي واجهها قد دفعت بغيره إلى هذه المغامرة ممّن وجدوا أنفسهم في حالة بحث عن كينونة مختلفة في دولة لا ينتمون إليها حسيّا، داخل إسرائيل تحديدا..
**مغامرات التّسجيل في الفيلم الفلسطيني
مغامرة، لأنّ فكرة الإخراج الفنّي في ظلّ انعدام الميزانيّات يظلّ حلما معلّقا. فالفنّان الفلسطيني داخل أل 48 يعاني على عدّة مستويات. البلبلة على صعيد الهويّة، التّمييز على خلفيّة كونه عربيّا وليس يهوديّا، وفلسطينيّا وليس صهيونيّا، يضاف إلى ذلك خلل التّواصل بينه وبين المؤسّسة الإسرائيليّة، وغياب الجهات الدّاعمة. هذه الأسباب مجتمعة تحدِث قلقا في حضوره الفردي داخل زمانه ومكانه المصادرين أوّلا، ومع الآخر ثانيا. وهما مادّة كافية لتشكيل عالم آخر خلف الواقع بالكاميرا. لكنّ الحاصل أنّ الحصار السّياسي الّذي عاناه ويعانيه، والإعلامي قبل الإنفتاح التكنولوجي وضعه داخل علامة سؤال كبيرة، لذلك بقي تحليقه موضعيّا بسبب غياب مصادر التّمويل. في ظروف كهذه شكّلت البعثات خارج إسرائيل، مناطق أل 48 منجى.
ونحن إذ نستعرض حيثيّات هذا الضياع نعتبر إشكاليّة الهويّة مصدر إلهام لجميع الأفلام التّسجيليّة والدّراميّة المحتملة. وفي هذا الظّرف سيكون مجرد التّفكير بإخراج فيلم درامي يتعامل مع فعل الحبّ والجسد شيئا من قبيل التّخريف أو الخيانة. التّخريف لأنّ حيثيّات الواقع المعاش تستدعي تيّارا فكريّا ملتزما في التّعامل مع الواقع الصّعب، والخيانة لأنّ من سيمتلك ميزانيّات لمعالجة حكايا الحبّ وحاجات الجسد في ظلّ الإضطهاد والقتل الّذي يعيشه الواقع الفلسطيني يجب أن يكون متعاونا.وفكرة الخيانة أرعبت الفرد الفلسطيني بمجرّد أن لمح اليهودي الّذي سلبه أرضه شريكا تحت عين الكاميرا. ورغم ذلك شهد فيلم الدّاخل تجربة أولى في الإخراج الدرامي والتّسجيلي وقف خلفها المخرج علي نصّار، عبر عمله التّسجيلي، حكاية مدينة على الشّاطىء، الجليل.
وضمن السّياق التّجريبي تسجَّل لصالحه الإنجازات الدّراميّة الأولى الصّادمة للمجتمع الفلسطيني في الدّاخل بسبب جرأة موضوعتها، وعدم استجابتها التّامة لإيقاع الشّارع تماما، إذ أنّها غامرت بموضوعة الجسد والحاجات الرّوحيّة الأخرى من خلال الموضوعة الإجتماعيّة الفلسطينيّة عن طريق فيلمه الأوّل، المرضعة،1994 .
ونحن لن نسارع للخوض في الدراما قبل أن نتوقّف عند أهمّ الأسماء الّتي أخرجت وأنتجت أفلاما تسجيليّة.
**إشكاليّات الفيلم الفلسطيني
يترادف الإخراج السينمائي مع مصطلح الإشكاليّة لأنّ دوافعه اللاحقة في التّسعينيّات والقرن العشرين لم تبق على مادّتها الأولى، وأريد أنّ موضوعة الهويّة شهدت تكرارا كاد يتلف مشهدها الجمالي الفكري رغم قلّة الأعمال الّتي عالجتها بشكل مباشر، ربّما لأن صناديق إسرائيليّة وقفت خلف تمويل هذه الأفلام بالأساس، وكان لها الحق في رفض سيناريو لا يلائم سياستها. ولولا الوعي الّذي توفّر عليه المخرجون الأوائل الّذين غامروا في الدّراسة داخل المعاهد الإسرائيليّة بضرورة إعادة صياغة الرّؤية الفنيّة الإخراجيّة للهويّة الفلسطينيّة كالإلتفاف عليها مثلا لما حظيت بالحضور الإعلامي الّذي نراها عليه اليوم. فإلى جانب التّجارب الواقعيّة الأولى خرجت رؤية جديدة تحاول أن تعالج الهويّة بالإستناد إلى مرجعيّاتها الإنسانيّة أوّلا بهدف تعميمها على مستوى الإعلام الغربي، ثمّ اعتماد نماذج خارجة عن إطار الأنا الّذي شكّل مادّة أساسيّة في صناعة المقاطع التّسجيليّة القصيرة.
**الفيلم التّسجيلي
إجمالا شهدت التّسعينيّات وأوائل القرن العشرين تحديدا انتفاضة عارمة للفيلم التّسجيلي الفلسطيني داخل أل 48 ، ومعه مجموعة من المخرجين الشّباب الّذين حاولوا أن يقودوا مرحلة جديدة تلتفّ على إشكاليّة الهويّة بمثل ما تحاورها. فالفيلم "أحمر أزرق" الّذي أخرجه خالد إدريس في محاولة للبحث عن هويتّه المنقسمة بين عالمين إسرائيلي وفلسطيني مشكوك بأمرها، يجسّد الدّوامة الّتي يذهب إليها معظم الشّباب الفلسطيني في مرحلة البحث عن أناهم الحقيقيّة. والضياع الّذي صوّره في فيلمه الأوّل قبل سبع سنوات لا يمكن اعتباره مرآة لحالة البحث الّتي سجّلها في فيلمه الأخير "ذاكرة مكان" 07. إذ يستحيل الذّاتي مع اختبار التّجربة ونضوجها إلى رؤية أكثر شموليّة واتّساعا، وينتقل من لغة الواقعيّة المبسّطة إلى الواقعيّة المركّبة ذات التقنيّة الفنيّة المزدوجة. وهو هنا يمتلك تصوّرا فكريّا وحسيّا لافتا ذا أبعاد وأدوات.
هذا يعني أنّ الفيلم التّسجيلي يعبر مرحلة هامّة عل صعيد تذويت الرّؤية وتحديد التوجّه، امتلاك التقنيّة وتطوير آليّاتها. وضمن هذه الخطّة البحث عن النّوعيّة والمضمون، وبالقدر الّذي يُسمح لعين الكاميرا وعين الذّاكرة اعتماد المصداقيّة الجارحة. ونقول بالقدر، ذلك لأنّ سيناريوهات الأفلام لم تعد إنتاجا ذاتيّا بحتا، إذ خرجت شركات إنتاج صغيرة، معظمها إسرائيليّة بعروض مغرية على مخرجي الدّاخل ومع إملاءات مفترضة يجوز معها الإحتيال على صياغة النّص، كما حاول المخرج خالد إدريس في فيلمه التّسجيلي "سفيرة على الخطّ الإستوائي" بهدف عرض الموقف الفلسطيني السياسي والإجتماعي مثلا من الموضوعة المُخرجة. ففي وضعيّة كهذه يجب العمل بحذر وانتقائيّة، وضمن أطر لا تتوفّر على مساحات معقولة من الحريّة في تحديد مضامين السيناريو السينمائي.
في السّنوات الأخيرة خرج الفيلم الفلسطيني بأعمال كثيرة بعد إعلان المؤسّسة الإسرائيليّة عن دعمها للفيلم التّسجيلي من منطلق توفير فرص متساوية. ورغم المآخذ الكثيرة على هذه المبادرة لكونها تمنح ميزانيّات ضحلة لعدد كبير من الإنتاجات، إلا أنّها دفعت إلى الأضواء قطاعا كبيرا من الأعمال السينمائيّة، ليس بالضّرورة اعتبارها سيّئة. ونحن نستذكر في هذا المجال مرحلتين من الأعمال التّسجيليّة، الأوّلى وسيناريوهاتها قليلة نذكر منه، "حكاية مدينة على الشّاطىء" لعلي نصّار، "ياسمين" لنزار حسن"، " النّاصرة 2000 " لهاني أبي أسعد. أمّا الموجة الجديدة فتشمل عددا لا بأس به من الأعمال مثل، "عرس الجليل" لباسل غطّاس، " عبر الحدود" لبلال حسن، " أون هولد" لرقيّة صبّاح، "بدل" لابتسام مراعنة، "نازك"، لرامز قزموز. "سفيرة على خطّ الإستوائي" لخالد إدريس، "واحدة في الإجِر، وواحدة في القلب"، سهى عرّاف، "مشاهد منسيّة" لتغريد مشيعل. بغضّ النظر عن التّفاوت في جودة الإخراج والرّؤية الفنيّة المضمونيّة.
ولعلّه من المهم أن نذكر أنّ العرض إلى مقارنات مفصليّة لكلّ من هذه الأعمال يستدعي الكثير من الحذر لأنّ الثّقافة الذّاتيّة، الفكريّة والحسيّة تشكّل حكما في الرّؤية الإخراجيّة لكل من المخرجين الّذين تعرض إليهم هذه المداخلة، وهي تتفاوت شكلا ومضمونا. ولذلك يمكن أن نجمل بأنّ ما يذهب إليه الفيلم التّسجيلي يبدو محاولات تجريب جديّة على صعيد المعالجة الإنسانيّة بالدّرجة الأولى وسط خفوت حدّة الخطاب الفردي، وتحاشي إثارة إشكاليّة الهويّة والنّضال وفق خطاب مباشر.
فالهويّة هنا تلبس شكل الأماكن والشّخصيات المقهورة، أو ذات الإشكاليّة كما يحدث في "عروس الجليل" لباسل غطّاس، وانقسام الذّات ضمن قصّة زوج ضائع الإنتماء داخل الزّمان والمكان لرقيّة صبّاح. وحكاية ثلاث نساء مقهورات سياسيا واجتماعيّا في " عبر الحدود". وشخصيّة امرأة مزدوجة الإنتماء تحت المجهر في "نازك" لرامز قزموز. وحكايا نساء مضطهدات عبر تفنين سيرتهنّ الذّاتيّة لابتسام مراعنة. ومشاهد مكثّفة عن حياة الآخر الإفريقي اليوميّة من خلال قصّة إمرأة أعمال إسرائيليّة تنشىء مشاريع تطويرية مع الحكومة الإفريقيّة.
لكنّ المساءلة تحدث حول المساحة الممكنة لهؤلاء المخرجين للتغريد خارج السّرب، وأعني صناعة رؤية ذاتيّة خارجة عن البنود الّتي تنصّ عليها الجهة الإسرائيليّة المموّلة لأمثال هذه المشاريع. وضمنها سلطة البثّ الإسرائيليّة الّتي منحت ميزانيّات قليلة لعدد كبير من الأعمال السينمائيّة القصيرة، وتمّت إحالتها إلى شريط أحداث طويل دون تغيير جوهري بمضامين مادّة السيناريو، كتقنيّة الإنتركت مثلا،[مقاطع حياتيّة حيّة]!!
ونحن نعرض إلى هذه الموضوعة بتذكير واضح إلى الإشكاليّة الّتي أثارها فيلم "نازك" التّسجيلي لرامز قزموز قبل عدّة أسابيع، الّذي تقف خلفه شركة إنتاج صغيرة متواضعة، الأرز للإنتاج، وبتمويل من صناديق إسرائيليّة. وإشكاليّة نازك مصدرها هويّة المرأة الّتي يسجّل الفيلم سيرتها الذّاتيّة، فهي امرأة من عيلبون، الجليل تلتحق بجهاز التّحقيق في الشّرطة الإسرائيليّة في مرحلة تشكّل مسألة الخوض في شكل هذا التّعاون شيئا من قبيل الخيانة. خلال العمل يتمّ تسليط الضّوء على مقاطع كثيرة من علاقاتها اليوميّة مع المجتمع، البيت، والأصدقاء من جهة، وجهاز الشّرطة من جهة. ورغم أنّ التوجّه لدى قزموز اعتمد التّسجيل المشهدي لحياة نازك دون تقرير موقف شخصي من عين الكاميرا الملفتة إلا أنّ مشروع هذه الشّراكة بين الفنّ وسلك الشّرطة اعتبر في عرف المجتمع الفلسطيني والحركات السياسيّة اليساريّة محرّضا على خيانة الهويّة والقضيّة والإنفلات الأخلاقي، ولدى قطاع لا بأس به من الأوساط الثّقافيّة. لقد ظهر الفيلم في مرحلة حسّاسة تدعو فيها الحكومة الإسرائيليّة السكّان الفلسطينيّين أن يكونوا شركاء في الحفاظ على قوانين الدّولة عبر الإلتحاق بجهاز الخدمة المدنيّة، لذلك وجدت الجهات الكثيرة المناهضة للفكرة نازك مصدرا للتّحريض على التأسرل. وعليه، يبدو أنّ إشكاليّة الهويّة ستظلّ مصدرا للخلافات والإضطرابات في الجهاز الثّقافي العام لفلسطينيّي الدّاخل لأنّهم لم يحصلوا على حدّ معقول من المساواة مع الوسط اليهودي من جهة، وظلّوا بالتالي مستثنين من الحقوق المدنيّة الّتي تبدو شرطا من شروط الإحساس بالأمن والإنتماء. ورغم التغاء فكرة المواطنة لفلسطينيي الدّاخل إلا أنّ المؤسّسة الإسرائيليّة للآن لم تفقد الأمل بالعثور على مبرّرات لتجنيد الفعل الثّقافي الفلسطيني، ولو بثمن إيجاد صناديق لأعمال سينمائيّة مستقبليّة لا يملك المخرجون منها القليل.
"جنين جنين"، وأولاد أورنا
مقابل نازك يقف الفيلم التّسجيلي للممثّل المعروف محمّد بكري كنقيض مضموني ومشهدي لفيلم نازك. ورغم عدم رغبتنا التّامة برؤية هذا التحوّل لممثّلين إلى عالم الإخراج إلا أننا سنتعامل مع دوافع هذا العمل برويّة. فهو يعتبر التّجربة الثّانية لبكري بعد فيلمه " من يوم ما رحت". وهو يقارع المؤسّسة الإسرائيليّة الحكومة والجيش ويحاول أن يقدّم شهادة عن واقع مذبحة جنين الّتي نفّذها الجيش الإسرائيلي في جنين قبل عدّة سنوات. أثار العمل الرّأي العام الإسرائيلي بسبب ادّعاءات فبركته، ورفض عرضه في صالات العرض. لقد قدّم مادّة غنيّة وبضمنها شهادات من أرض المعركة سجّلت صوتا وصورة من وعن المذبحة. ومادّة الإدهاش في كلا العملين مرجعيّتها حضور الفكر الحسّي والحيثيّات المزدوجة بقوّة. فتأكيد حضور الهويّة لدى نازك يحدث عبر تأسرلها، وانضمامها لسلك التحقيق الشرطوي، هذا مقابل تأكيد مرجعيّة الفكر الحسّي النّضالي من منظار سياسي لدى بكري صوتا وصورة. فتأكيد الهويّة في نازك يحدث عبر محوها الأيديولوجي بينما يحدث تأكيدها لدى بكري عبر محوها الجسدي والإجتماعي. وبقاء نازك وثباتها الإجتماعي والسياسي يقابل تصفية سكّان المخيم المشتبكين مع الجيش، وإلغاء حضورهم التنظيمي والإجتماعي.
في نفس السياق التسجيلي نعرض إلى الفيلم التّسجيلي " أولاد آرنا" وهو من إخراج الممثّل مير خميس، ويتناول فكرة الهويّة من منظار فكري حسّي سياسي. إذ يشكّل حسّ التضامن الفكري دافعا لمشروع هذا العمل. إذ تنظّم أمّه آرنا مجموعة من الصبية داخل حلقة مسرحيّة تشكّل نواة لمسرح فلسطيني للأطفال في قلب جنين ولسنوات عدّة. يكبر الصبيان على أحداث الإنتفاضة والظّلم الإجتماعي ثمّ السياسي من خلال تقتيل الجيش لعائلاتهم واضطهادهم وملاحقتهم.
يستحيل فعل المسرح كفكرة تجريبيّة في ظروف كهذه إلى مسرح شوارعي، مسرح الصبيان الكبار. ينتقل إلى الشّارع في محاولة مساندة لفعل النّضال اليومي ومواجهة المحتل. وأعتقد أنّ النهايات الحزينة الّتي يذهب إليها أولئك المسرحيّين الصّغار تسجّل الرؤية الفنيّة والفكريّة لمخرج العمل. تجربة مثيرة للإهتمام لأنّها مغامِرة واقتحاميّة وتنطوي على نسيج قصصي فنّي محبوك بعناية رغم تسجيله في ظروف صعبة توخّت قبل كلّ شيء توقيع حركة الواقع المعاش. هذا النّوع من الفنّ التّسجيلي لا يريد الموضوعيّة بقدر ما يستدعي تجنيد تضامن عالمي حسّي مع الهويّة، ودفع منظوماته إلى إيقاف سيناريو القتل والإضطهاد لعموم الشّعب الفلسطيني في الضفّة وغزّة.
وواضح أنّ ذهاب المخرجين إلى أرض مشتعلة استدعى مقاومتهما إسرائيليّا ونفيهما من اعتبار المؤسّسة الرّسميّة، لكنّ فعل النّفي هذا بالذّات يؤكّد أثرهما في المحيط الثّقافي الإسرائيلي، وإخلالهما بخطط الجهاز الثّقافي الإسرائيلي تجاه الأقليّة الفلسطينيّة. هما يثيران أيضا الشّارع الإسرائيلي بين متضامن ومعارض، ويفتّح وعيه على حقيقة ما يجري من مواجهات في الضفّة وغزّة. هذا ما يطمح إليه هذا النّوع من السيناريوهات المسجّلة، إحداث قلق في نظام المؤسسّة الدّاخلي وتحريض الشّارعين اليهودي والفلسطيني ضدّ الظلم والإنتهاك للحقوق، ثمّ إثارة الشّرعيّة الدوليّة ضدّ خرق نظمها ودستورها من قبل إسرائيل.
في هذا المضمار يشكّل الفيلم التّسجيلي الفردي المدعوم خارجيّا أداة ردع ومقاومة بالدّرجة الأولى مقابل الآخر المدعوم إسرائيليّا عبر صناديق التّمويل المختلفة لتحديد مضامينه وتوجّهاته، بل وأسرلته أحيانا.
ولا بدّ لي من تذييل هذا الإستعراض التّسجيلي بتأكيد حضور المخرج كمال أبو شارب الّذي يكاد لا يذكر في معرض الحديث عن الفيلم التّسجيلي الفلسطيني الّذي سجّل مجموعة أفلام تسجيليّة عن معاناة أهل النّقب البدو تحت بطش المؤسّسة الإسرائيليّة الرّافضة لوجودهم، والسّالبة لحريّاتهم الوجودية والدّأب على ترحيلهم وتهميشهم. فهم مجموعة مشتّتة وبلا حضور إعلامي لولا الجهود الفرديّة الّتي بذلها المنبر الإعلامي، الشّمس، لرفع أصوات معاناتهم وسلّط الضّوء على فكرة تهميشهم ومصادرة بيوتهم رغم التحاق النخبة الكبيرة من شبابهم في الجيش!
**المغامرة الدراميّة في الفيلم الفلسطيني داخل أل 48
قلّة الأعمال الدراميّة إذما قورنت بالأعمال التّسجيليّة يجعلها مغامرة مضاعفة. وفكرة المراهنة على نجاحها أو فشلها يشكّل ذريعة للتردّد والإحجام عنها، خصوصا وأنّنا نتحدّث عن سيناريوهات ذات مضامين مختلفة ليس بالضّرورة أن تشكّل الهويّة فيها مرتكزا، ويجوز للأفكار ممنوعة التجوّل في الأعمال التّسجيليّة الملتزمة أن تصبح محورا للعمل، أو أحد المحاور الأساس. ونعني موضوعة الجسد وتبعاته، الجنس والعشق، والشّوق الإنساني.
هذه الأعمال تستدعي ميزانيّات كبيرة، لذلك لا يخاطر مخرجون كثر فيها ولا يعتدون على مجالها قبل أن يضمنوا صندوقا داعما لها. وغالبا تدخل إشكاليّة الهويّة فيها من الأبواب الخلفيّة لاستصدار تأشيرة انتماء للقضيّة لأنّ خلوّ الأعمال الدراميّة الفلسطينيّة من قلقها الوجودي فكرا وانتماء يؤدّي بمخرجها إلى الإحساس بالنّقص أو الإخلال بولائه لانتمائه وشعبه. لكنّ التجاوز حدث لدى بعض المخرجين لفكرة الإلتزام بإشكاليّة الهويّة عبر تحديثهم للحالة والموقف، وإِحداث أبعاد حكائيّة غرائبيّة للشّخصيّة البطلة كما حدث لدى علي نصّار في "درب التبّانات"
وأعتقد أنّه من المناسب هنا التوقّف عند الأسماء الّتي سجّلت لمشروع الفيلم الدرامي الفلسطيني كتوطئة للأعمال الّتي سنذكرها. فإلى جانب علي نصّار الّذي يمتلك رصيدا نوعيّا في تجربته الإخراجيّة ضمن أعمال أربعة منذ الثّمانينيّات، هي : المرضعة، درب التّبانات، الشّهر التّاسع، وصلاح الدّين يحضر إيليا سليمان ضمن فيلمه اليد الإلهيّة كي يعيد الذّاكرة إلى إشكاليات الهويّة والصّراع الدائر بين الأرض والإحتلال. ثمّ هاني أبي أسعد في فيلميه ، بيت من ورق، والجنّة الآن.
ولعلّ الموضوعيّة وحدها ستدفعنا في عرضنا إلى الفيلم الدرامي الفلسطيني لتسجيل لفتة على صعيد التّجربة الغنيّة فنيّا ومضمونيّا للمخرج علي نصّار في أفلامه الأربعة. إذ استطاع أن يخرج عن القاعدة وأن يسجّل لنفسه خطوة نوعيّة في معالجة سيناريوهات تدمج بين الإتّجاه النراتيفي القصصي والديكومنتاري التّسجيلي من خلال نسيج حكائي غني يمتلك رؤية فكريّة شموليّة وحسيّة عميقة. وهو يحرص في إخراجه الفنّي على المعالجة التّصويريّة متوخيا الإنحدار إلى الوعي الحسّي لشخصيّاته خصوصا في فيلمه درب التبانات الّذي اعتمد مصادر إدهاش ملفتة في بناء إحدى شخصيّاته المركزيّة، وأدّاها سهيل حدّاد.
لقد انطوت المعالجة الفكريّة لديه على أبعاد حسيّة مدهشة فيها من الغرائبيّة بقدر ما فيها من الواقعيّة.
ولعلّني سأعزو التفوّق النّوعي لإنتاجات علي نصّار في الدّاخل وتضارب الآراء بصددها إلى الصّدام الحسّي الّذي أحدثته شخصيّات أفلامه للمشاهد. وهي إنتاجات عالقة في ذاكرة المشاهد خصوصا درب التّبانات الّذي مهّد لإنجازاته أرضا خصبة حيث أنّ الحكاية الجميلة لبطل درب التبّانات سجّلت تاريخا فنيّا طريفا لاحتلال فلسطين، وبضمنه العلاقة غير السويّة بين الفلسطينيّين واليهود. بين ثنايا الحكاية يمرّ العشق مرورا سريعا أو بطيئا. ويسجّل على امتدادها علاقة حبّ خفرة شاهدة على كون الحكاية الفلسطينيّة لأفراد يحبّون ويعشقون ، ويمارسون الجنس والغضب، المقاومة والنّضال كغيرهم من شعوب الأرض . نقيض هذا السيناريو فيلم " الشّهر التّاسع" الّذي لم يتعب من البحث عن الشّهوة والجسد، وانشغل بهما حدّ أفقد فعل المقاومة المصداقيّة. لقد بدت فكرة الصّراع والمجابهة بين الجيش والبطل مبتذلة ومقحمة في السيناريو لإثبات التبعيّة وردم النّقص الّذي سيؤدّي إليه غيابها. ورغم ذلك يظلّ نصّار صاحب سبق في تسجيل الحكاية دراميّا والسّعي لإِحداث تغيير على صعيد الرّؤية العامّة للهمّ الوجودي الفلسطيني في مناطق أل 48.
أمّا هاني أبي أسعد فسوف نشير إلى إنجازه النّوعي في " الجنّة الآن" الّذي اقتحم الدراما من منظوره الفردي للعدالة السياسيّة. ورغم أنّه لم يتجاوز الموضوعة التّقليديّة لمسألة الهويّة والنّضال إلّا أنّه سجّل تجاوزا حين ذهب إلى منطقة الصّراع غزّة على نهج ما فعل خميس وبكري، وألقى بشخصيّاته إلى نيران المحتل كي يجسّد رؤيته الذّاتيّة للعدالة الإجتماعيّة، والغبن السياسي الّذي يلحقه الجهاز المخابراتي الإسرائيلي بالشّعب الفلسطيني جيشا وحكومة. وهو لم يتورّع خلال شريطه الحكائي عن دفع شخصيّاته إلى التيّار الأكثر تطرّفا في الرّد على ممارسات الجيش في شوارع غزّة عبر إحالتها إلى قنابل موقوتة، مشروع انتحاريّين على الحواجز وأمام الجيش. هذا التطرّف الفكري في منطق السيناريو أراد أن يرفع شهادة عجز وانسداد المنافذ أمام الجيل الجديد الّذي لا يعثر على مستقبل أفضل من نسف وجوده ووجود الآخر. وبلا شك فإنّ تطرّف الفكرة يشكّل تجاوزا حتّى لفكرة التّسجيل النّضالي ويمنحها تفرّدا وتجاوزا لمنطق المألوف، ونوعيّة في المعالجة المضمونيّة والحسيّة.
إذن يمكننا أن نخلص إلى كون التّجربة السينمائيّة الفلسطينيّة لفلسطينيّي أل 48 في طور البلورة والصّقل، والتفوّق على المنطق التقليدي الفكري والجمالي. فالتّجارب السينمائيّة التّسجيليّة والدراميّة على قلّتها تتوخّى الآن تجاوز التوجّه التّسجيلي إلى تفنينه أوّلا، وإحداث خلل في مفاهيمه الرّائجة لصالح تفعيل الحوار الفردي الحسّي ضمن الخطّة العامّة للسياق التّأريخي على مستوى الشّخصيّات والأمكنة.
إلى ذلك نضيف أنّ التحدّي القادم للتوجّه التّسجيلي يعتمد على تطوير أدوات التّوثيق وإحالتها إلى أدوات تثوير ضمن المنطق الحسّي الجمالي العام للسيناريو، ودفع الذّات إلى خضمّ العمل كشريك في فعل الحدث.
ولا بدّ من التّفكير جديّا بمنافذ جديدة لرسم هويّة المرحلة الرّاهنة بكاميرا لا تحرص تماما على الضّوابط في مرجعيّاتها المضمونيّة والجماليّة مع الأخذ بعناية اتّساع الرّؤية ومساحة الحلم في نسيج الواقع. ربّما نؤسطر حينذاك واقعنا ونخرج بحكايا جديدة تصهر الحكاية الفرديّة داخل الرّواية الجماعيّة لسؤال الهويّة من خلال النّسج الحكائي السّريع. والمطلوب تكثيف رؤيتنا للرّواية من مصادرها المختلفة.
وباعتقادنا السّؤال المطروح الآن، كيف يمكن أن يصير التّسجيلي إلى حالة دراميّة مسجّلة عن هويّتنا الممزّقة!

*هذه المداخلة قدّمتها رجاء بكرية-باحثة في مجال الفن المرئي- في سينما آسترا، نابولي، إيطاليا.