أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
استيحاء تاريخ النقب من خلال الأدب,وجذور هذا الأدب الجاهليّة..[ الجزء الرابعّ] !!

بقلم : زهير ابن عياد ... 19.03.2009

*اضاءات حول التجربة الشعريّة الحديثة لبدو النقب
الشعر عند البدو
الشعر هو فيض من ذاك الخاطر المتفرق والخواطر المتدفقة من حميم الاحساس, نسجها البدوي بصدق المشاعر والاخلاص فاتت كتعبير واقعي صادق هادف خرج من القلب ليصل إلى قلب المتلقي نأمله بوجدانه وفكرة وعاطفة مع حزة نفسية مؤثرة وصاغه في تراكيب وصور وأخيلة وإيحاء معيّن.
في زحمة الحياة عرف بدوي النقب كيف ينفّس عن حالته المتضاربة وذلك بالرجوع إلى التراث, واطلاله علينا بإشارات اسقطها على الحياة المعاصرة مع ربطها بالعمق الوجدانيّ له كبدويّ, اجبرته الحضارة على الاستقرار والتقيّد بها.
اتى الشعر هنا كحالة وحيدة للاستقرار في الماضي وتصور معانيه واللجوء إلى مخيّلات فكريّة ربّما تساهم في ايصال فكرته المعيّنة لبني جنسه, فحقّاًَ أنه باحث عن قضية ويحمل اخلاص تجاهها لذلك تمكّن من الوحي الصادق والتعبير الجريء الذي يقنع الباقين بجديّة الفكرة واصالتها, فحن وحي الماضي التقط اضاءات معيّنة جذابة في هذه الحياة ومشاغلها, ورسمها في غاية الروعة محاولاً ربط بين حياتنا الحاضرة وماضينا العريق فرمى بسهمه واصاب. والنفس بطبيعتها تنزع للماضي بما يحمله من راحة وسكون يطغى على البادية. نعم قد جاءت التجربة الشعرية لبدو النقب لايقاظ السبات حول ذاك المجتمع كمجتمع تقليدي يحمل ابعاد مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية, وانه في القدم قد ملك مقوّمات أهلته ليشمل بصمته في ذاك التاريخ, أن فكرة البات تلك جوبهت بصحوة علميّة بواسطة الشعر الذي بالطبع يساهم في الحفاظ على الهوية الخاصة المميزة لنا كشعب اصلاني عريق بما يحمله من نموذج كلاسيكي للطباع البدوية والقبيلة والانساب والرؤى والاعتقادات وقد يشكّل مدخل تاريخي مهم لما يتم فيه من استذكار للماضي وتحوير احاديث الشيبان والحديث عن ماضي القبيلة ومآثرها, فالشاعر يجبر للبحث عن نقاط مهمة في تاريخ عشيرته ويحاول جاهداً صياغتها في قالب شعريّ مفتخراً بذلك.
إذا الشعر اتى كدافع للبحث عن الذات ما بين الاصالة والتجديد, ما بين طبيعة الفطرة البدوية وبين الظروف السائدة, فالفطرة البدوية تتماشى مع الكرم كاسس اجتماعية ثابتة لا بدّ منها, اما الظروف السائدة من تغييرات على اسلوب الضيافة فقد اضفت حالة التخبط تلك عند البدوي ما بين المحافظة على الموروث الشعبي, والتماشي مع الأساليب العصرية. الثأر كمعيار آخر اعتبره البدوي احدى الواجبات الرئيسية اما اليوم فقد اجبرته القوانين العصرية على التقيد بنظام محاسبة وقصاص مغاير كليّاً, فشعر البدوي المعاصر يؤدي وظيفة يمكن وصفها بتوظيف ارضية فلكلورية تاريخية يمكن الارتكاز عليها ومحاولة النهل منها كمعين متجدّد يحمل في طيّاته اصالة الانتماء وروح التجديد ويحدّ من الصراع الداخليّ في نفس الشاعر ويحدّد مسؤوليّته تجاه ماضيه وحاضره وعليه يقوم ببناء فلسفته التاريخية المليئة بدواعي الشوق والحنين لما مضى من ذاك الزمن.
أن قراءة سريعة في ملامح هذا الشعر لَتُنبّئنا بانه يحمل في خفاياه قضية هادفة في محاولة منع لذاك الانقراض الكلّيّ لأدب وثقافة البداوة, لذلك نرى الشعراء اليوم يحاولون لملمة كلّ الخيوط الرمزيّة للثقافة الشعريّة القديمة للبدو من النصيحة وذكر الدنيا وزوالها, والنزوع إلى الاختلاء والتفكُّر ومخاطبة الجماد والاستكانة لنجوم السماء خاصةً سهيل, والتوجه بالدعاء إلى الله... وكل ذلك ياتي في محاولة جادّة لمنع ذلك السقوط المشرف على بوتقة المدينة والتحضُّر للبداوة... لذلك قام هؤلاء الشعراء باسهامات تُحسب لهم بالتذكير باطر البداوة الأُولى وابعاد شبح طمس الهوية البدويّة التي بالطبع ما زالت ولو في سياقات مختلفة, فمع التحوّلات القائمة لتلك الهوية وجد عندنا شعراء ياخذوا بايدينا خطوة خطوة إلى الامام, في محاولة ربط معقدّة وشديدة الحساسية بين الماضي بما يحمله من داعي نفسية واجتماعية والحاضر بما يحمله من تطوُّر برؤى مختلفة ونفسيّة تتعارض مع أفكارهم... لقد ساهم هؤلاء الشّعّار في عملية التأثير والتأثُر واتجهوا بنا بديناميكية الهويّة المتحوّلة إلى سياق غير سلبيّ وبكل هدوء التعاطي مع كافة الأمور, وصياغة الهويّة الجديدة للبدو.
بالتعمُّق في هذا الشعر نجده استعمل كاداة للتواصل الثقافي بين القديم والجديد, القديم باعتباره المهد المتواجد في اعماق الصحراء, واظنّه يحمل ابعاداً قوميّة بحيث يصل في عملية بحثيّة إلى الجذور والاصول بتذكّر الانساب واصول العشائر ومواطنها القديمة وتاريخها وحكايتها وتراثها, وكبقيّة وصولها لموطنها الجديدة وتعاطيها مع القضية الحاضرة في المحافظة على الارض وانهم من أهلها الاصلانيّون, فنحن اما تكوين ثقافي مزجي نشأ بالصدفة الهادفة لكي يمنع اللهجة والفكر والثقافة القديمة من الذوبان والانصهار الكامل.
نعود للقول أن هذا الشعر المقدم لم يكن بكراً في نشوته ولم يسلم من اغواءات العالم الجديدة وهذه لفتة ذكيّة من الشعراء الذي لم يرغبوا أن يعيش القارئ في عصر آخر من العالم وكانهم يفتعلوا اساطير, إذ أن هذا الشعر تكوّن في بيئة متعددة الافاق, إذ اتجه في الشاعر إلى الحراء وتوغّل فيها أدرَكَ السراب وشعر بالعطش وحمل الياس وعاين الجفاف, وهناك افق آخر اجبرته الظروف للاتجاه إليهِ, افق تنازعه مع الاخر, افق المدينة الذي لا يُدرك منه سوى حدّ البصر.
هذا الشعر تجد فيه الصدق الفنّي بحيث ينبع من صدق الشعور نتيجة الانفعال بتجربة يُعبّر عمّا بخاطره وفكره, هذا هو ابعد ما يكون من التقليد والمحاكاة, فنجد به الحسّ المرهف والتصويرات الحيّة المؤاثرة. من ما بني على تجربة وحادثة معينة زمنها ما بُني على الخيال مع الادراك العميق للهدف وتكوين الصوروالؤية بصورة متجانسة. اريد القول أن هذا الشعر في بعضه يصوّر حياة البداوة الأُولى تصويراً حيّاً بحيث تعتقد انك كقارئ متذوّق تعيشها في تلك البيئة. فالشاعر يستعمل الحواس الخمس النظر والشم "روائح الشيح والقيصوم" اللمس السمع "عواء الذئب" والذوق... بحيث تكون صور متزامنة في حالة تشخيص.
البيئة التي وُلِد فيها هذا الشعر:
يتأرجح هذا الشعر في منطقة ما بين البداوة والحضارة, تحديداً في القرى غير المعترف بها إذ أن ابرز رواد هذا الشعر ترعرعوا فيها وعايشوا بقايا من ظروف صحراء اجدادهم فصدى تلك الحياة ما زال يتردّد في اروقة تلك البادية من ثقافة الحِلّ والترحال وثقافة العشيرة كوحدة متارصة "وحدة دم" بالإضافة إلى محافظة تلك القرى على العادات والتقاليد... في هذه البيئة نشأ اغلب الشعراء تلك البيئة المشابهة إلى حدّ بعيد لظروف نشوء الشعر الجأهلي من الاتفاق في أنه شعر شعبي يزدهر على رقعة جغرافية صحراوية ومن أنه يروى شفهيّاً ليحفظ عللا الالسنة ويروى في المجالس اضافة إلى التشابه إلى حدّ بعيد في المناخ الاجتماعي والبيئة الثقافية, والقرى غير المعترف بها هي اقوى مثال حيّ على كيفيّة تحوّل المجتمعات, إذ أنها تعتبر بيئة خصبة لعلماء الاجتماع في البحث عن التحولات الرئيسية في نواحي الحياة لمجتمع اصلاني منفرد بخصوصيات معيّنة.
ما ساعد هؤلاء الشعراء في ظهور شعرهم كشعر يحمل مسحة شعبية فلكلورية خاصة, هو هؤلاء الشيبان الذي ما زالوا يملكون لغة البدو القديمة وتكلموا بها. فيسمعها هؤلاء الشّعّار ويلتقطوا كلمات رنّانة ضاربة في عُمق البداوة ويبنوا عليها قصائدهم مثلاً ما زلنا لنسمع في لغة الشيبان كلمة "الدمنّه" للبرهة الأُولى تشعر بان الدمنه هي مكان بعيد مرتفع وعالي, والدمنه ما هي إلاّ ترسبات جأهلية لوقوف القدامى على الاطلال والرسوم.
أن بروز الشّعّار لم ينبع من فراغ, بل أنه تحصيل حاصل لتراكمات عديدة, ساهمت في بناء صرة تلائم الذائقة البدوية تبعاً لتلك الخلفيّة المستقاة من حياة الحلّ والترحال. وشعر هؤلاء لم يصل لمرحلة يكون فيها كظاهرة اجتماعية فهو ما زال في بدايات الطريق. واخذ يعالج تلك الظروف السائدة بكلّ جوانبها سواء اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية, فيقوم بتجسيد ثلاثي الإنسان والمكان والزمان وردّات فعله تجاه هذه الأمور بما يكتبه للتاريخ ولا يرضاه الستقبل, هذه التجربة لم تصل بعد في عُرف المفاهيم الأدبية إلى مرحلة النضوج, لأنّها تجربة تعتمد بالاساس على الفكرة والعاطفة والمؤثرات النفسية ولم تاخذ بالحسبان الايقاع الموسيقي والوزن الشعري والبحر الملائم والاغراض الأُخرى بقدر ما تريد أن توصل فكرة معيّنة تحوي ارث البدوي القديم من الصحراء بترجمته لتلك التفاصيل اليومية التي تتجسد بشكل غير محسوس, ذلك الارث الذي كان القدامى يرسلوا ابناءهم نحوه لتعلم العربية واسس البلاغة.
نتائج هذه التجربة على المدى الطويل:
لا شكّ أن هذه التجربة اخذت في طريق التطور وستشكّل ابعاد مختلفة كونها من افرازات هذا المناخ المتضارب. تجربة تغوص في اعماق التراث وتستنطق التاريخ وبالامكان اعتبارها مستقبلاً كوثيقة لرصد الوقائع التاريخية, ووثيقة اثنوغرافية تعكس جوانب الحياة المتعدّدة لأنّها بواسطة الشعر ما هي إلاّ نشاط ذهني تنكشف من خلاله ديناميكيّة العقل البدوي وخفاياه الاجتماعية فيؤدي احدى وظائفه كابرز معلم للثقافة الشعبية في المجتمعات التقليدية.
اننا نقف امام محاولة لاعادة البيئة الاصلية للمنطقة من ثقافة وفنون وأدب وحضارة, واعتقد اننا وصلنا إلى ظلال التاريخ... لما نشهده من نماذج حيّة تبرهن على تلك العودة إلى عالم الحنين للجذور. قد ساهم اجدادنا في اثراء المدونة الشعرية بما قدموه لها من ابداعات فنيّة رائدة, ابداعات ما زالت تفتقر للدراسات الجادّة والعميقة التي تكشف ذخائره, كذخائر تدلّ على تجربة انسانيّة راقية تحمل ايقاع جماليّ مميز بصدق الشعور والاحساس... ذخائر على حفا الهاوية هي في حالة شبه اندثار مع الشيبان الاوليّين.
اسباب الصحوة الشعرية:
في مرحلة التضارب بين القديم والجديد تنشأ عوامل عديدة تحاول اثبات نظريتها, هذه العوامل تكون نتاج مُفعم بالتفاصيل المؤيدة لفكرتها بواسطة البحث عن الماضي الحضاري والتاريخ واللغة والأدب. وهذا بالضبط ما يحصل في النقب إذ حدث هناك وعي بالدور الأدبي القديم لهم واطلعوا على الثقافة البدوية البائدة, فحاولوا استدعاء مناخها برسم لوحات شعرية غلبت عليها سمة الحنين للجذور وحياة الحلّ والترحال, في اعتقادي أن هذا هو السبب الرئيس لهذه الصحوة إلاّ أن هذا لا يمنع وجود اسباب ثانوية مساهمة إلى حدّ بعيد في عودة تعاطي الشعر عند بدو النقب اذكر منها:
1) أنه وفي سياق المحافظة على الموروث الشعبي, اتى الشعر كمطلب للحفاظ على الروح التقليدية لشخص البدوي, كرجل له ميزته الخاصة.
2) اطّلاع هؤلااء الشعراء على الصحوة التراثية في بلاد الخليج من خلال وسائل الاعلام,من ندوات شعرية ومسابقات لمزاين الابل, فقام الشّعّار بدورهم باستدعاء ذلك المناخ بما أنه يلائم فطرتهم وطبع ذوقهم.
3) الشعر استعمل كاداة فعّالة تجاه الحوادث الآتية وردات الفعل تجاهها وكنتيجة للتطوّر في الادوات الفنيّة خصوصاً "الدحيّة" أصبح لزاماً على المتذوقين ارجاع الشعر وقرضه كالية ملازمة ومصاحبة وحيويّة لفنّ تراث الدحيّة. فن لا غنىً له عن الشعر لتلائم المناخ المسلّي في كليهما.
4) اتساع رقعة الابحاث عن المجتمعات التقليدية, ارسى عند الشعراء بُنية ثقافية كان لها دور في اكتشاف الماضي.
دور هذا الشعر كمعلم ثقافي وقيمته:
عُرِفَ عن الشعر أن "ديوان العرب" في تفاصيل نظرتهم وفلسفتهم تجاه أمور الحياة, بل أنه المعين التاريخي لحياتهم, فكما كان دور هذا الشعر القديم في الحياة الجاهليّة وكشف لنا اسرارهم, واطلعنا على أمور لم نكن نجدها حتى في الحفريات الاثرية, هكذا الشعر الحديث لبدو النقب يؤسس ارضية جادّة بقيامه باداء وظائف مهمة في حقول الثقافة الانسانية, منها:
1) الشعر كمطلب لاختلاق أو بالاجدر سرد لذاك التاريخ المغيّب لا سيّما أن بدو الجنوب في حالة تخبّط وعندهم اعتقاد بانهم ليسوا بأهل تاريخ عريق يحمل امكانيات يمكن الارتكاز عليها نحو عجلة التقدُّم والرُّقيّ. فعليه يمكن القول بان الشعر الشعبي في النقب اخذ بالعودة باتخاذه منحىً تاريخياً بالحنين إلى الجذور.
2) هذا الشعر ياتي كآلية تاريخية تترجم ذاك الرباط الثقافي القديم بين المنطقة وبلاد الحجاز ونجد.
3) الشعر كمطلب للحفاظ على الأدب الشفهي المتواتر من الامثال المتداولة وصياغتها في صور شعرية لا تبلى مع الزمن, وحكايات مستقاة من التاريخ الاجتماعي تُرجمت احداثها باخذ العبر وصياغتها كقالب قصصي شيِّق.
4) الشعر كاساس اولي للحفاظ على التراث الشعبي من خلال تشكيلات فنيّة جماليّة شديدة الخصوصية كطرح الالغاز والنوادر والدلالات الايماءية.
5) الشعر كمطلب حضي للبوح بالاعتقاد الفكري والاجتماعي الملائم للخيال الاسطوري, بزج بعض الرموز المبهمة والتي لا يعرف الشاعر غايتها, إلاّ أنه ورثها عن اسلافه كحكايات الغول, التي يهدف في نهايتها ارساء الحكة والفطنة في النصّ.
6) الشعر كمطلب للحفاظ على المفردة الشعبية من الزوال, تلك المفردة التي مال زالت تتداول في لغة الشيبان واتت من صميم البادية التي عايشوها.
7) الشعر كوسيلة اتصال بين المجتمعات البدوية, يظن الناس أن الشعر من الشرق فقط اعني نجد, صحيح أن منبعه من هناك إلاّ أن المجموعات المذكورة استقطبته واضفت عليه مسحة من البداوة الترحالية استقطاب دلّنا على الرباط الازليّ بين تلك المجتمعات أيّاً كانت, فالشعر في نجد تطوّر نتيجة الاهتمام الحكومي والشعبي به ودعمه بقوة, وبهذا الدعم فانه حوى صور حديثة ابتعدت به عن خطّه الأوّل حيث كان على السن البدو الأمر الذي لم نلحظه عندنا فبقي الشعر هنا يحمل صداه البدوي الأوّل, لهذا ما زالت جغرافية الجذور تتجذر بصورة عير مقصودة عن شاعر النقب.
كيفية تجلّي هذا الشعر
المتمعّن في هذا الشعر تتضارب في ذهنه رؤى وتأويلات عديدة حول الوظيفة الشعرية لهذا النوع من القصائد, تقول نظرية المحاكاة الافلاطونية أن مصدر الشعر هو القوى العليا وان الشاعر يصدر عن الهام محض من هذه القوى وهو بغض النظر عن كونه محاكاة فهو مغامرة لغوية أيضاً أتَتْ للمنفعة باحتوائها هوى وخيال ورموز وإسقاطات تاريخية بشخصيات هي بمثابة رمز للشخص العربي البدوي. اعتقد أن هذا الشعر قلباً وقالباً هو نتاج لخيال واسع بُني على أُسُس تاريخية استذكارية في مواصفات النظرية البرناسية تاتي للعمق الفنية ولها بنية مغلقة تتحكم بها قوانين خاصة يستطيع المتلقي تأويلها من كلّ صوب, وهذا الشعر اختصره بقول كوليردج "النص العظيم هو الذي يبقى مفتوحاً لكل التأويلات".
من خصائص هذا الشعر الفكرية:
اغلب الشعراء يقرضوا شعرهم على السليقة والسجيّة الخاصة بهم دون ادنى تكلّف وجهد, مما يعطي القصيدة زخمها في جذبها للعاطفة, فالشعراء لم يطالعوا مؤلفات الجاحظ أو الاحمد بن خليل في الاوزان الشعرية بحورها وحدة البيت... ولا هم من اتباع المدرسة الحديثة رومانتيكيّة كانت أو نيوكلاسيكيّة فامتاز شعرهم بالبساطة والوضوح والبعد عن الرمزية, وبنيت اوصافهم على خيال حقيقي يستذكروه أو أنهم ربّما قد عايشوه فتاتي اوصافهم من بحر الصحراء ليحاولوا نحت تصويرات من ذلك الزمان, نشاهد فيها مسحة الحزن المعبرة, وكأن الشاعر يلوذ بهذا النوع كركن شديد يتشوّق إليهِ في صدى البداوة ومن الخصائص لهذا الشعر أيضاً:
1) يمثل البيئة البدوية القديمة بمعانيها وتشبيهاتها وخيال ابنها
2) شعر يعتمد على الايجاز في العبارة الايحائية.
3) فيه نوع من التشبيهات والاستعارة ومحسنات البلاغة.
4) نفس شعري تلمس فيه حنيناً للجذور.
5) لوحة خطابية تقريرية تحاول ايصال فكرتها.
6) يمتاز بنوع من الثقافة الدينية, باحالات معينة كالدعاء من الله والثناء عليه أو طرح لقصص دينية, والثقاقة الدينية في الشعر البدوي المعاصر هي مضامين تقليدية لرجل مؤمن ومسلم عليه أن ينهل من القاموس الديني كي يثبت قناعته للاخرين: كما قال احد شعراء النقب:
يا الله يا الّي كلّ حكمك عداله يا اللّي جدت على الخلق واعطيت
يا الّي دعاك ايوب والخير ناله عقب المرض حرت له واشفيت
تفرج على الّي غيّر الوقت حاله وتغفر ذنوبي أن كني تُهت واخطيت
7) يحوي تعابير لغوية مستقاة من التراث الشعري والأدبي القديم, ويستمدّ موروثه اللغوي من وحي الحياة العربية البدوية الجاهليّة, كأقوالهم قدح الزناد-الثنايا-اللهيب-ناحت حمامة-عد ما لاح برق-النيب.
8) إشارات ثقافية من واقع بيئة الصحراء كما يتردد في قصائدهم, سقى الله وهو دعاء بالخير, وزجر الطير كنعيق الغراب, طلّة النجم اليماني نجم سهيل, برق السحاب, هبوب الشمال, صباح البين وهي عبارة قديمة نجد ذاتها ومصدرها جأهلي وتُقال عندما يصبح قوماً قوماً اخرين بالغزو. وكل هذه العبارات كما نلاحظ متجذرة في الأدب الجأهلي.
نظام هذا الشعر
رواد هذا الشعر اتبعوا المدرسة الكلاسيكية التي تحافظ على القواعد القديمة للقصيدة العربية, من خلال تقليد القدامى في صياغة القصيدة بحيث تكون عمودية محافظة على القافية الواحدة وتعدد الموضوعات في القصيدة والتزام وحدة البيت وطرق موضوعات الرثاء والوصف والغزل... بل أن هؤلاء الشعراء بصورة غير مقصودة وصفوا الاطلال والظعن والرسوم الدوارس وهي التي تمثل في حياة البدو المشراف والرقاب والدمنة, ووصفوا الدنيا وزوالها وتأففوا منها, ومارسوا اسلوب النصيحة وبث الحكمة في قصائدهم, وصوّروا البيئة الحاضرة وكيف غدت الدنيا بأهلها, وسباهم نوح الحمامة على الغصن وكسرتهم لحظة الغروب... وغير ذلك مما يلهب نفسية الشعراء القدامى, وعلى هذا الخطّ صار النقب متّبعين لأساطين الشعر من زهير بن ابي كعب وامرؤ القيس...
مظاهر الحنين في هذا الشعر
امتاز القدامى بالحنين والشوق إلى الديار والاحبة, ذاك الحنين الذي ترسب في الاذهان البدوية حتى وصلنا اليوم على صورته المحكومة ببعض الميكانيومات ذات العلاقة بالذات أو بالمحيط الطبيعي والمناخ النفسي والعاطفي, وسنجمل هذه الأمور كالتالي:
1) ظاهرة الرحيل وزوال المعالم واختفاء الناس والبعد عن الحياة الأُولى, جعلت هذا الشعر ينبض بالحنين والعبرة والتوجع, فتجده مليء بالآهات, يتردد به صدى الانين والشوق إلى البساطة والهدوء والخلاء.
2) العتاب على الايام, ومناجاة الدهر باعتباره المسؤول المباشر عن الزوال المادي للاشياء وللحياة بما فيها من ذكريات وحياه فتجدهم يصفوا الدهر بانه ماكر خوون متقلب كما قال الشاعر:
الله من وقت على الناس قلاّب
3) تخيل لظاهر الظعن والحلّ والترحال نجدها مليئة بهذه القصائد تدلنا عليها وقوفهم على المشراف والديار الخاليات. وهذه علاقة قد تكون حميمة بالوجدان الجماعي في هذه البيئة الصحراوية التي تتشكّل على هيئة صور تراجيدية متناقضة.
4) المنولوج والمناجاة والحوار النفسي عند الشاعر كوسيلة بوح وبثّ لواعج الشوق كاقوالهم ياهيه-يا سهيل-يا قليب...
5) العلاقة بين الذات وتصاريف الزمن وما ترمز له الايام في فصولها بحيث أن لكل فصل رمزية خاصة عند الشعراء فيتحدثوا عن الربيع والصيف والشتاء بالذات منفعلة تستذكر اهمية الإنسان لكلّ من هذه الفصول فتجدهم يدعون بالسقيا ويسألوا الله العافية من المحل والقحط...
6) وصف الديار وكأنها كائنات اجتماعية حيّة لا تتغيّر, بعيدة عن العيب لها شرفها وسُمعتها الكبيرة كما قال الشاعر:
ديار اشهد أنه خاسر من لها يسوم...
7) تستشف نوعا من الغربة في هذا الشعر, وكأن أهلها في غارة سريعة, فكثر فيه الوجد والحزن... لهذا بقيت قصائدهم رغم التطوّر الحاصل تنبض بمعاني الماضي وروح البداوة فلا براء أن القصيدة قد حافظت على نقاء تلك اللهجة القديمة باحتوائها لمفردات لم تعد تستيغها تطورات العصر كرجم المرقاب والمشرافي اللواتي كما ذكرنا يشكلن ثقافة الدامى في الوقوف على الاطلال.
نماذج شعرية:
هذه بعض نماذج شعرية التقطها من الشعراء وكان عليها اعتمادي في الدراسة, وهي حصيلة ايام عديدة سواء في الافراح والمناسبات الذي يُلقى فيها هذا الشعر, أو جلسات اخويّة أو من خلال وصولها على اشرطة كاسيت.
يقول احد الشعراء:
يا عرب انا سنّيت في حبّكم سنّه اجالسها مجالسة بدوي لظيفان ونيس
وقصد بالعرب هنا البدو القدامى, بحيث أن شغف بعيشهم وتاريخهم, وهنا التقاطات جمالية ضاربة في عُمق البداوة, وتأتي كترجمة لاحاسيس بالحنين لذاك الماضي العريق البسيط بحدّ ذاته, البعيد عن هموم العيش ومشاغل العصر ومدينة الضجيج, فخلافاً لذلك يتذكّر الشاعر حياة اجداده المفعمة بالحياة الهادئة حيث صحى البادية وسكونها... اضافة إلى امتلاك الشاعر لصور ضاربة في الوجدان النفسي لعراقة القوم سلفاً عن سلف. فمثلاً الكرم الذي يتداورا حكاياته الاسطورية من جيل لجيل, وكأن البدو قد احتكروا الكرم والايثار على النفس منذ زمن حاتم طي وعبد الله بن جدعان ومشاهير بادية نجد من العرب القدامى, ونلاحظ صيرورة الأمر باشكال أُخرى كادعاء بعض الاقوام اتصال نسبها بهؤلاء الاجداد العظماء الذين تحدّوا شظف العيش ولم يستكينوا لدواعي الفقر والحاجة والفاقة إلى البخل والشحّ الذي مقته العرب ووسموا صاحبه يوسمة العار, مقتهم هذا الذي اوصلهم إلى تأليف الكتب في البخلاء ككتاب الجاحظ... كلّ هذه الأمور مهّدت لشعراء البدو ذاك الحنين والتطلُّع بعين الفخر والاعتزاز لذاك الماضي العريق في الكرم, فها هو الشاعريدلّل على قمة شوقه وحبّه بقوله: " اجالسها مجالسة بدوي لظيفان ونيس" قمّة التصوير البلاغي الجميل بما يحمله من إشارات حقيقية واطلالات واسعة على التراث, فهذا العجز حمل اسقاطات على واقع معين في نظر أهله ومجتمعه لا بدّ منه, فالمضيف يرحب ويهلّل ويونس ضيفه باطايب الكلام وملاح الحديث أثناء تقديمه لواجب الضيافة.
يقول احد الشعراء:
يا حزني حزن نمر بن عدوان لاشرفت بناقتي ع منازلٍ خلاوي
النفس بطبيعتها تستكين وتخشع في حال رؤيتها لديار خالية خاوية, والبدوي لطالما تغنّى يتلك الديار واتخذها لعبرة من صدوف الدهر فكأنه يدمع إذا اشرف على مواقع خالية تثير نفسه تلك النزعة تجاه الاقوام القديمة التي بادت فيأس ؤلحالهم ويتفكّر في احوالهم وكيف غدت بهم الدنيا, ويديم النظر فيعرف أنه عمّا قريب لا بدّ سالك ذاك الدرب, وهذه سُنّة العرب من قديم فهذا البحتري تخنقه العبرة على ايوان الاكاسرة الذين فرّقهم الدهر ايدي سبأ... فكأن البدوي ارتسم في مخيلته الاماكن العامرة واستأنس بها وبالتالي يستوحش ويهاب من الخوالي, الأمر الذي نستشف منه طبيعة البدوي في الاجتماعيات وانه لا بدّ له من أهل وقوم يأوي اليهم. في اتجاه آخر تحوّل هذا الأمر الذي كان بمثابة الاطلال والوقوف عليها جأهلياً إلى حسّ تراجيدي عن بدو النقب في حنينهم إلى البداوة التي اضحت بدورها اطلال, فوقفوا على تاريخها طويلاً وحيّوها باسلوبهم الخاص عن طريف اتخاذهم لرموز معيّنة في معيشة البداوة كالديار الخالية والخلأ والقيعان والناقة والذئب... وعن كيفيّة ظهور هذه الخوالي وكأن الشاعر إذا ضاقت به الدنيا وطلب العبرة ركب المغور والصحراء ترافقه ناقته يهيجن عليها كحال القدماء الذين كانوا إذا ضاقت بهم الحال ركبوا راحلتهم واوغلوا في الصحراء يجالسوا رجومها وتلالها وينزلوا قعورها ويعتلوا رؤوسها متفكرين معتبرين.
أخيراً اودّ أن اذكر أن هذه الالتقاطات الشعرية تلزم الباحثين في حقول التاريخ والاجتماع والسياسة والاقتصاد... لم تحويه من نظرة وفلسفة شاملة لمجتمع قد تقلّب في الدهر, اكتفي باحالة واحدة نحو التاريخ فبهذه الالتقاطات نستطيع رؤية تجذر العلاقة بين الشعوب البدوية في الشرق الاوسط وتاريخها وعقائدها, بل اننا نستطيع اكتشاف اصولها الجاهليّة من خلال ترسبات معيّنة بقيت في شعرهم وأدبهم.وعسى أن تكون هذه التجربة فاتحة خير على بادية النقب المنغلقة تراثيّاً, بهذه المساهمات التي تُزيد من الرونق الشعبي الفلكلوري للبداوة.

*باحث وكاتب .. النقب