بقلم : الأستاذِ منصور النصاصرة ... 28.1.09
في الصيفِ الماضي قُمتُ بعددٍ من المقابلاتِ مع كثيرٍ مِن أَبناءِ النَّقبِ العربِ الذين عايشوا فترةَ الانتدابِ البريطانيِّ لبلادِنا بين عامي 1917 - 1948 م، بالإضافةِ إلى المقابلاتِ الشفويّةِ العديدةِ مع نخبةٍ من أَهلنا هناك، وذلك ضمنَ العملِ الميدانيِّ الذي أنجزْتُه لإتمامِ رسالةِ الدكتوراةِ في دراساتِ الشرقِ الأوسطِ. لقد تَبيّنَ لي من خلالِ هذه المقابلاتِ أن هناك الكثيرَ من أَبناءِ عربِ النقبِ ما زالوا يتذكرون فترةَ الانتدابِ البريطانيِّ في النقبِ، وبدايةَ حُكمِ إسرائيلَ لها منذ سنواتِ الخمسيناتِ والستيناتِ، وما زالوا يتذكرون أيضاً الكثير مما جهلناه في أيامنا. وموضوعُنا في هذه المقالةِ سيتطرقُ إلى فترةِ الاستعمارِ البريطانيِّ للنقبِ ودورِ الذاكرةِ العربيةِ البدويةِ لتلكَ الفترةِ من تاريخِنا، فما زال الكثيرُ من أبناءِ النقبِ الذين خَضعوا تحتَ الانتدابِ البريطانيِ آنذاكَ يرْوون قِصصًا مختلفةً حولَ تلكَ الحُقبةِ التاريخيةِ، حيثُ تناقلتِ الأجيالُ الشابّةُ بعضَ هذهِ الذكرياتِ التي في الحقيقةِ نجهلُ كثيراً منها. فتجِدُ كبارَ السِّنِّ من آبائِنا وأجدادِنا قد غُرِست في ذاكرتِهِم تلكَ الفترةُ. وإذا استمعتَ إليهم تجدُهم كثيراً ما يستعملون بعضًا من المصطلحاتِ التاريخيةِ مثل : في الإنجليزيةِ - حربُ الترعة - كسرة السبع – الترك - قايد العصايب - العُصملي وغيرها، بالإضافةِ إلى استعمالِهم لأسماءِ القرى والأماكنِ المختلفةِ بأسمائِها العربيةِ الرسميةِ التي غالباً ما تَعَبْرنتْ بَعدَ عامِ 1948 م. لكنَّ الاسمَ العربيَّ القديمَ ما زال عالقاً في مخيلتِهم مثلَ : العمارة - وادي الزبالة – المليحة – زمارة - تل الحصي - بير أبو جابر – الشلالة - رجيم الذيب – الغزالة - هراب ذياب - صفيحة وغيرِها الكثيرِ. فهناكَ من البدوِ في فترةِ الإنجليزِ من خَدَمَ في "الهجانة" - راكبي الإبلِ مِنَ البّدْوِ - وفي وظائفَ أخرى كالبوليسِ اللاسلكيِّ، وحرسٍ خاصٍ لبعضِ القادةِ البريطانيين، قصّاصي أَثرٍ وغيرها. كما أنني في بعض الأحيان وجدتُ أنَّ بعضَ كبارِ السّنِّ من العربِ البدوِ الذين خدموا في الإنجليزيةِ ما زالوا يتذكرون كلماتٍ عديدةً ومصطلحاتٍ باللغةِ الإنجليزيةِ، وما أدهشني أنَّهم استعملوها مراراً خلالَ حديثِهم معي ( أحدُهم في السبعيناتِ من عمرِهِ تَحدَّثَ اللغةَ الإنجليزيةَ بطلاقةٍ, واخر القى الشعر البدوي بكل فصاحة ). منهم أيضاً من لا يزالُ يحتفظُ ببعضِ الصورِ من تلكَ الفترةِ، وآخرين تذكروا أسماءَ قادتِهم الإنجليزِ ومكانَ خدمتِهم العسكريةِ.
توقفتُ عندَ أحدِ أسماءِ القادةِ الإنجليزِ الذي ذُكر مراراً على لسانِ مَن قابلْتُهُم مِنَ البَدْوِ، ذلكَ القائدُ الإنجليزيُّ الذي ما زالَ في وجدانِ البَدْوِ والذي اشتهرَ كثيراً بينهم. الأمرُ الذي ساقَني لأبحثَ عَنْ هذا الاسمِ الذي ما زالَ يعيشُ في ذاكرَتِهم، فقمتُ بالبحثِ في الكتبِ القليلةِ التي كَتبَتْ عنْ بئرِ السبعِ في تلكَ الفترةِ لَعَلّي أهتدي إلى معلوماتٍ عنه. بعد فترةٍ وجيزةٍ عَثرتُ على الاسمِ المنشودِ، ألا وهو ما عُرِف لدى عَرَبِ قَضاءِ بئرِ السبعِ بِـ "اللورد أُكْسْفورْد "، وهو من إحدى أعرقِ العائلاتِ الإنجليزيةِ. وما فاجأني كثيراً أن هذا القائدَ الإنجليزيَّ ما زال قاطناً في إحدى القرى النائيةِ في شمالِ غربِ بريطانيا، وقد حصلتُ على عنوانِهِ عن طريقِ أحدِ مواقعِ الإنترنتِ، وبعد مراسلتِه عبرَ البريدِ الإلكترونيِّ نسّقتُ معَهُ وأجريتُ هذا اللقاءَ النادرَ الذي صِغْتُه في هذا المقالِ، وَأظُنُّ أنها ستكون مفاجأةً كبيرةً لأهل النقبِ عِندما يشاهدونَ صورَتَهُ !
سيرةُ جوليان اسكويتش [اللورد أُكْسْفورْد]
وُلِدَ جوليان استكويتش "اللورد أكسفورد" في عامِ 1916 م في لندن إبّان الحربِ العالميةِ الأولى لعائلةٍ إنجليزيةٍ مكونةٍ من ثلاثةِ أفرادٍ. واللوردُ أُكْسْفورْد (أُكْسْفورْد هو لقبٌ إنجليزيٌ قديمٌ استعْمَلَتْه بَعْضُ العائلاتِ المالكةِ في حينِهِ ) هوَ حفيدُ رئيسِ الحكومةِ البريطانيةِ بين عاميْ 1908 - 1916 م هربيرت هنري اسكويتش، والذي قضى آخرَ سَنَتَيْن من وِلايَتِه أَثْناءَ الحربِ العالميةِ الأولى.
أَنْهى اللوردُ أُكْسْفورْد تعليمَهُ الابتدائيَّ والثانويَّ في مدرسةٍ للرومِ الكاثوليكِ في بريطانيا، وتَخرَّجَ من جامعةِ أُكْسْفورْد بعدَ أَنْ حَصَلَ على اللقبِ الثاني هُناكَ. وَهُوَ يَعيشُ في شَمالِ غَرْبِ بريطانيا في بلدةٍ نائيةٍ تُدْعى "فروم". والعجيبُ في أَمْرهِ أنَّهُ يَسكنُ في بيتٍ قديمٍ ذي تاريخٍ حافلٍ مُنْذُ مِئاتِ السِّنينِ، إِذْ أَنَّ بَيتَهُ كانَ عِبارَةً عَنْ مكتبةٍ اتَّسَعتْ لآلافِ الكتبِ والموسوعاتِ، وحينَ سَأَلتُهُ عَنْها قالَ لي أَنَّها كتبٌ تحملُ تاريخَ سلالةِ عائلتي منذ العصورِ القديمةِ حتّى اليومِ، وأضافَ اللورد أُكْسْفورْد أَنَّ العملَ في السلكِ الدبلوماسيِّ هو ما ميّزَ هذه العائلةَ الإنجليزيةَ، فقد علمتُ منهُ أنَّ إبنهُ هو السفيرُ البريطانيُّ الحاليُّ لدى الجمهوريةِ العربيةِ المصريةِ. وفي إحصائيةٍ عامَ 2008 م في إنجلترا، ذُكرَ اسمُ اللورد أُكْسْفورْد ضمنَ المجموعةِ القليلةِ التي بقيتْ على قيدِ الحياةِ من مواليدِ الحربِ العالميةِ الأولى، وقد عايشَ نهايةَ العصرِ العثمانيِّ والاستعمارِ البريطانيِّ لفلسطينَ.
وصولُ اللورد أُكْسْفورْد إلى "الشرقِ الأوسطِ" خلالَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ
شاركَ اللورد أُكْسْفورْد كقائدٍ عسكريٍ بريطانيٍّ في الحربِ العالميةِ الثانيةِ، حيثُ كانَ يقاتلُ في جبهةِ اليونانِ والصحراءِ الغربيةِ إبّانَ الحربِ، وكانت أهمُّ مهمةٍ تولاها هناكَ هي القيامُ بعملياتٍ عسكريةٍ لتفجيرِ جسورِ الألمانِ الذين قاتلوا ضدَّ البريطانيين.
بعد سقوطِ يوغوسلافيا وَصَلَ اللورد أُكْسْفورْد ليعملَ في السفارةِ البريطانيةِ في مصَر، والتي كانت في مراحلِ تأسيسها الأولى، حيث عادَ إلى الإسكندريةِ ومن ثَمَّ إلى القاهرةِ. وقد تميزَ البريطانيون بقلةِ موظفيهم في حكومةِ الانتدابِ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى حين استعمروا فلسطينَ والعراقَ وشرقَ الأردنِّ وغيرَها، حيثُ طُلِب من اللوردِ أُكْسْفورْد أنْ ينضمَّ إلى حكومةِ الانتدابِ كموظفٍ. ومن ثمّ كانت أولُ محطةٍ لَهُ في فلسطينَ، وتحديداً في مدينةِ صَفد، فوصَل المدينةَ وانضمَّ إلى بعضِ العُمّالِ العربِ لحفرِ الأنفاقِ في محاولةٍ لصدِّ خطرِ الألمانِ القادمِ إلى البلادِ. وقد أقامَ أُكْسْفورْد في صفدٍ عندَ مديرِ مدرسةٍ اسمه إلياس أبو حمّاد، وتعلّم منه اللغةَ العربيةَ التي كانت مفتاحَ عملِه مع عربِ النّقبِ فيما بَعْدُ.
اللورد أُكْسْفورْد يَصِلُ إلى قَضاءِ بئرِ السّبعِ في عامِ 1942 م
وصلَ أُكْسْفورْد إلى غَزّةَ في عامِ 1942 م، وهناك التقى بالكاتبِ الفلسطينيِّ الشهيرِ "عارف العارف" الذي عملَ في تلكَ الفترةِ قائم مقام قضاءِ غزةَ بعدَ أنْ أنهى مدةَ عشرِ سنواتٍ أمضاها قائم مقام بئرِ السبعِ بينَ عامي 1929 – 1939 م. وقضى اللورد أُكْسْفورْد سنةً واحدةً كمساعدٍ لقائم مقام غَزَّةَ، وعَمِلَ كثيراً مع عارف العارف وأصبحَ أحدَ أصدقائِهِ. وقد أَخبرَني اللورد أُكْسْفورْد أَنّه أَمْضى سنةً كاملةً في غزةَ بعدَ أنْ فُصِلتْ عن قضاءِ بئرِ السبعِ، وهناك تعلمَ اللغةَ العربيةَ وعملَ جاهداً على أن يختلطَ مع العربِ المحليين، فأتقنَ حضارتَهم وعاداتِهم المختلفةَ، مما ساعدَهُ في الحصولِ على الوظيفةِ في بئرِ السبعِ فيما بعدُ. وفي عامِ 1942 م تُوفيَ حاكمُ بئرِ السبعِ الإنجليزيِ بشكلٍ مفاجئٍ، الأمرُ الذي أدّى إلى استدعائِهِ للعملِ كحاكمٍ لبئرِ السبعِ في نفسِ العامِ. ويضيفُ أُكْسْفورْد أنَّه عندما وصلَ إلى بئرِ السبعِ عملَ جاهداً على التقربِ من المشايخِ والاجتماعِ بهِم، وما زالَ يتذكرُ الشيخَ سلمان أبو ربيعة الذي كان رفيقَه في فترة ِعملِهِ هناكَ. حيثُ أنَّ ابنَهُ عطية أبو ربيعة عملَ كحارسِهِ الشخصيِّ، مما أدى به إلى معرفةِ الكثيرِ عن البدوِ هناكَ. ذكرَ اللورد أُكْسْفورْد أيضاً أن علاقاتِ جيدةً ربطَتْهُ مع الشيخِ فريح أبو مدين من النصيراتِ، والشيخِ تاج الدين شعت من غزةَ، والذي أصبحَ فيما بعدُ رئيساً لبلديةِ بئرِ السبعِ. كما ذُكِرَ أَنَّ بعضاً من البَدْوِ خَدَموا في الهجانةِ، واطّلَعتُ على ألبومِهِ الشَّخْصيِّ ورأيتُ صورةً جماعيةً أثارتْ انتباهي لكلٍّ من : أكسفورد, عياد ابو بلال, الشاويش سلمان العطاونة، وصورةً لعارفِ العارفِ في إحدى مدارسِ البَدْوِ. وقد بيّنَ أُكْسْفورْد أنّ الوظيفةَ الرئيسيةَ التي أُعْطِيَتْ لَهُ في قضاءِ بئرِ السبعِ كانت المحافظةُ على النظامِ والأمنِ والاستقرارِ، بالإضافةِ إلى إدارةِ شؤونِ القبائلِ ومنعِ الاقتتالِ بينها، والذي انخفضَ كثيراً في فترتهِ مقارنةً بفترةِ الأتراكِ.
البَدْوُ والتعليمُ في فترةِ اللوردِ أُكْسْفورْد في قضاءِ بئرِ السبعِ
بدأَ اللوردُ أُكْسْفورْد يَروي لنا قصتَهُ الشخصيةُ في سبيلِ فتحِ مدارسَ عندَ العربِ البدوِ، وحثِّهِم على الالتحاقِ بالدراسةِ رغمَ مرارةِ العيشِ والأوضاعِ الاقتصاديةِ الصعبةِ. حيثُ قالَ: " إِنّني أتذكرُ وجودَ مدرسةٍ ومستشفًى في بئرِ السبعِ، ولكنَّ ذلكَ لم يلبِّ حاجةَ السكانِ، فمعظمُ البدوِ الذين أَنْهوا الدراسةَ الابتدائيةَ وأرادوا إتمامَ تعليمِهِم التحقوا بمدارسَ غزةَ الثانويةِ، لأنَّ بئرَ السبعِ افتقرتْ إلى وجودِ أيِّ مدرسةٍ ثانويةٍ ". ثُمَّ أضافَ اللوردُ أنَّ البدوَ كانوا ذوي قدرةٍ عاليةٍ على الدراسةِ، وكثيرٌ منهم أرادَ الالتحاقَ بالمدارسِ الثانويةِ والتعليمِ العالي في غزةَ لكنَّ وضعَهُم الاقتصاديَّ لمْ يسمحْ، وذلكَ لقلةِ المواردِ الحكوميةِ التي مُنحت للبدوِ رغمَ اهتمامِهم الكبيرِ بالتعليمِ.
وفي مبادرةٍ لمساعدةِ أبناءِ البدوِ على الدراسةِ الابتدائيةِ قامَ اللوردُ أُكْسْفورْد بفتحِ ثلاثِ مدارسَ في منطقةِ بئرِ السبعِ كما عَهِدوها في المغارةِ، فالمغارةُ كانت أولُ نمطٍ منْ أنماطِ الدراسةِ عندَ البدوِ، وعندَ اطِّلاعي على ألبومِهِ الشَّخصيِّ وجدتُ صوراً قديمةً تبينُ أنَّ هناكَ ثلاثَ مدارسَ في المغارةِ، درسَ فيها أبناءُ البدوِ، وكان عددُهم لا يقلُّ عنْ خمسينَ طالباً. هذا أيضاً ما أكدَّهُ لي الحاجُ حسن أبو بدر والحاج إسماعيل العمور اثناء مقابلتهم بأنّ معظمَ أنماطِ التعليمِ عند البدوِ في فترةِ الإنجليزِ كانت في المغارةِ، وأنَّ المعلمين قدِموا من الضفةِ الغربيةِ - الأردنِّ في تلكَ الفترةِ – في أغلبِ الأحوالِ. هذا بالإضافةِ إلى أنّ بعضَ أبناءِ النقبِ درسوا في إسطنبولَ وتحدثوا اللغةَ العثمانيةَ بطلاقةٍ، وآخرون درسوا في بيروتَ أيضاً، مما يعكسُ صورةً مشرقةُ لاهتمامِ البدوِ بالدراسةِ، ومنهم أيضاً من واصلَ دراستَهُ العُليا في تلك الفترةِ، وهذا ينافي الروايةَ التي ما زالَ البعضُ يتمسكُ بها بأنَّ البدوَ لم يولوا التعليمَ اهتماماً كبيراً.
قَضِيَّةُ الأرضِ والمسكنِ أثناءَ فترةِ حكمِ أُكْسْفورْد
رَوَى أُكْسْفورْد أَنَّ الإنجليزَ كانوا شديدي الحذرِ في تعامُلِهِم مع البدوِ في بئرِ السبعِ، حيثُ اعترفوا بملكيتِهم للأرضِ كما هو متعارفٌ عليه عندَ البَدْوِ، فلم يَطلُبوا من البَدْوِ تسجيلَ أراضيهم أو دَفْعَ ضَرائبَ عاليةٍ. وكانَ المرجعُ للإنجليزِ في قضيةِ تَسْجيلِ الأرضِ هُوَ القانونُ العثمانيُّ لعامِ1858 م، ولمْ يتمْ إرغامُهم على عملِ ذلكَ ما داموا لا يقبلوه. فمثلاً ذكرَ أنَّ أرضَ بئرِ السبعِ كانَتْ مُلكاً للعزازمةِ وهذا ما لمْ يختلفْ عَلَيْه الإنجليزُ مع عامةِ البدوِ. لذلكَ فإنَّ ملكيةَ البَدْوِ للأرضِ كانتْ تَرْجِعُ للقبيلةِ وَلَيْسَ للفَرْدِ، مِنْ أَجْلِ تَسْجيلِها بِشَكْلٍ مُنْتَظَمٍ.
وَوَصَفَ أُكْسْفورْد البَدْوَ بِأنهم كانوا عادةً لا يدفعون ضرائبَ للحكومةِ، لأنَّ وضعَهم الاقتصاديَّ كان شحيحاً، لكونِ نسبةِ الأمطارِ في بئرِ السبعِ كانَتْ ضئيلةً جداً، وغالباً ما قامَ البَدْوُ ببناءِ السدودِ من أَجْلِ الاستفادةِ من مياهِ الأمطارِ القليلةِ وزراعةِ الحبوبِ، كما استفادوا من الزراعةِ البعليةِ، وقامَ اللوردُ أُكْسْفورْد بمساعدةِ البَدْوِ للحصولِ على أَدواتٍ زراعيةٍ متقدمةٍ تُساعدُهُم على ازديادِ المحصولِ، فقد تمَّ اقتناءُ تراكتوراتٍ من أجلِ حراثةِ الأرضِ بدلاً من الإبلِ. وبرأيي هذا ما يناقض بشكل واضح الرواية الاسرائيلية ان النقب كان منطقة قاحلة دون اي اعتناء من اهلهه بفلاحته, لذا فنرى ان البدو حرثوا وزرعوا الارض رغم الخرافة الاسرائيلية التي ادعت تحويل النقب الى ارض خضراء ومزدهره, فما لم يزرع ويحصد ابان الانتداب البريطاني ما زال بورا حتى اليوم. هذا وأكّد أُكْسْفورْد أنَّ هذا الوضعَ الاقتصاديَّ لمْ يشجعْ الإنجليزَ على إرغامِ البدوِ لدفعِ ضرائبَ، لكن بَعضَهُم دَفَعَها بشكلٍ محدودٍ. أما سكانُ غزةَ الذين سكنوا في بئرِ السبعِ والذين عَمِلوا في التجارةِ فقد طُلبَ مِنْهُم دفعُ ضرائبَ ثابتةٍ لكونِهم استفادوا كثيراً من فتحِ محلاتٍ تجاريةٍ في بئرِ السبعِ، فوجودُهم هناكَ أَجبرَهُم على دفعِ الضرائبِ بشكلٍ منتظمٍ.
محكمةُ العشائرِ والتدخلُ الاستعماريُّ فيها
ذكرَ اللوردُ أُكْسْفورْد أنَّ الإنجليزَ لمْ يتدخلوا في حلِّ مشاكلَ البدوِ، وإنّما قاموا على تقويةِ أركانِ محكمةِ العشائرِ وجعلوها أهمَّ مرجعٍ قضائيٍّ لحلِّ مشاكلِهم، مثل قضايا الدمِ والأرضِ وغيرها. أما بعضُ القضايا كالقتلِ فقد أُحيلت إلى المحاكمِ البريطانيةِ، وتمَّ التعاملُ بِها بموجبِ قانونِ الدولةِ وليسَ بموجبِ قانونِ العشائرِ. ويذكرُ اللوردُ أُكْسْفورْد أنَّهُ قامَ بتعيينِ ثمانيةِ قضاةٍ من مشايخِ البدوِ بعدَ أن تعرّفَ عليهِم بشكلٍ شخصيٍّ وأثبتوا قوتَهُم بمعرفةِ قوانينِ القبائلِ، ولمْ يَشترطْ عليهِم أنْ يُجيدوا الكتابةَ والقراءةَ، إلا أنَّ بعضَهم كانَ يجيدُهما لكونِهِم درسوا في إسطنبولَ.
غالباً لمْ يكنْ هناكَ أيُّ صدامٍ بين قوانينِ البدوِ وقوانينِ الدولةِ البريطانية المستعمرةِ، بلْ أنَّ تطبيقَهُما معاً ساعدَ على حلِّ المشاكلِ المختلفةِ.إلا أنَّ هناكَ بعضَ الصعوباتِ التي ظهرتْ في التعاملِ مع قضايا مختلفةٍ تهمُّ البدوَ، لكونِهم لمْ يعترفوا بقوانينِ الدولةِ وأرادوا أنْ يكونَ قانونُهم هو الأقوى، أيْ بمعنى "الباديةُ فوقَ القانونِ" !
إحدى أهمِّ السياساتِ التي اتَّبعها الإنجليزُ في تلكَ الفترةِ هي إجراءُ لقاءاتٍ ومؤتمراتٍ لمشايخِ فلسطينَ معْ مشايخِ الأردنِّ وسيناءَ، والتي غالباً ما عُقِدَتْ في عمانَّ أو بئرِ السبعِ منْ أجلِ البتِّ في شؤونِ البّدْوِ، وأَيضاً كونُ شَرْقِيِّ الأردنِّ ومِصْرَ واقِعَتين تَحْتَ استعمارِ الإنجليزِ، مما ساعَدَهُم على تنفيذِ هذهِ اللقاءاتِ عبرَ الحدودِ. إنَّ معرفةَ المشايخِ لبعضِهم البعضِ من منطقةِ الأردنِّ وسيناءَ وبئرِ السبعِ ساعدَ كثيراً على حلِّ مشاكلَ مستعصيةٍ على الحكومةِ البريطانيةِ، فكان البدوُ يميلون إلى حلِّ مشاكلِهم دونَ تدخلِ الإنجليزِ فيها، هذا بالإضافةِ إلى أعمالٍ تنظيميةٍ أخرى لتوثيقِ العلاقاتِ بين القبائلِ عبرَ الحدودِ وتقويةِ أوصادِها رغمَ معارضةِ الإنجليزِ.
نشاطُ البَدْوِ العربِ الوطنيِّ في نهايةِ فترةِ الإنجليزِ- غلوب باشا وخبرتة في العمل العسكري مع البدو
ذكرَ اللوردُ أُكْسْفورْدْ أَنَّ البَدْوَ العَرَبَ لمْ يهتمّوا كثيراً بالسياسةِ، لكنَّ دورَهُم كانَ بارِزاً ومتواضِعاً في الاجتماعاتِ الفلسطينيةِ وغيرِها. رغمَ أنَّ الجنرالَ أُدْمونْدْ اللّنْبي وَصَفَها بِشَكْلٍ مُغايِرٍ في يَوْمِيّاتِهِ التي اطَّلَعْتُ عَلَيْها في جامِعَةِ لَنْدَنَ، وهيَ أنَّ البَدْوَ نَشِطوا في محاربةِ الإنجليزِ حينَ كانَ قسمٌ منهُم مُواليًا للأتراكِ قبلَ احتلالِ بئرِ السبعِ في عامِ 1917 م. لذلكَ نَرَى أنَّ روايةَ أُكْسْفورْدْ تختلفُ نوعاً ما عن تلكَ الروايةِ التي سرَدَها اللّنبي، حيثُ ركّزَ أُكْسْفورْدْ على أنَّ البَدْوَ لمْ يحاربوا ضدَّنا بالذاتِ في الحربِ العالميةِ الثانيةِ، لكنَّهُ ذكَرَ أنَّ بَعْضَ البَدْوَ انضمّوا إلى الجيشِ العربيِّ بقيادةِ غلوب باشا ( قائدٍ بريطانيٍّ قادَ الجيشَ الأردنيَّ الذي عُرفَ بالجيشِ العربيِّ إبّان الحربِ العالميةِ الثانيةِ حتى عامِ 1956 م )، وكانَ غلوب باشا شخصيةً مميزةً وفريدةً في تاريخِ العلاقاتِ البريطانيةِ العربيةِ والأردنيةِ، فهذا الضابطُ البريطانيُّ الذي عملَ في العراقِ والأردنِّ لمدةِ 36 سنةً ( 1920 – 1956 م ) استوعبَ حياةَ العربِ عامةً والبدوِ خاصةً، وتعرَّفَ إلى تقاليدِهِم وأحبَّهُم، وكان يَعُدُّ نَفْسَهُ واحداً من العربِ دونَ أنْ يتَخَلّى بالطبعِ عن انتمائِهِ لبلدِهِ بريطانيا ودورِها الاستعماريِّ، لكنَّهُ كانَ يوفِّقُ بينَ أهدافِ بلادِهِ وبينَ استيعابِ العربِ والبدوِ ومحبتِهِم وكسبِ ثقتِهِم وتقديرِهِم. وقد اشتهرَ كثيراً في تاريخِ العربِ بعدَ أنْ قادَ الجيشَ العربيَّ الأردنيَّ فترةً طويلةً، أشهرَها خلالَ حروباتِ عامِ 1948 م التي انتهتْ بنكبةِ فلسطينَ. وصدرتْ لَهُ عدةُ كتبٍ منْها مذكراته الشهيرة، وأيضاً كتاب "حربٌ في الصحراءِ". وأضافَ أُكْسْفورْدْ أَيْضاً أنَّ بعضَ البدوِ منَ النقبِ شاركوا في الجيشِ العربيِّ تحتَ قيادةِ غلوب باشا.
ذكرَ أُكْسْفورْدْ كذلكَ أنَّ عربَ النقبِ كانوا يكنّونَ الاحترامَ الكبيرَ لشخصَ الحاجِ أمين الحُسيني، وكانوا على علاقةٍ جيدةٍ معه بالذاتِ في فترةِ الثورةِ الفلسطينيةِ بين الاعوام 1936– 1939 م. وما يؤكدُ أنَّ الحاجَ أمينًا التقى مراراً مع مشايخِ النقبِ في تلكَ الفترةِ هو ما ذكرَهُ بعضُ كبارِ السنِّ من البدوِ في المقابلاتِ التي أجريْتُها الصيفَ الماضيَ في النقبِ.
واختَتَمَ اللوردُ أُكْسْفورْدْ المقابلةَ قائِلاً : " لقد قضيتُ أجملَ أيامَ حياتي في النقبِ بينَ أوساطِ البدوِ بين عامي 1942 – 1943 م، وكانَ لي أعزُ الأصدقاءِ منْهُم، وتعلمتُ الكثيرَ من أنماطِ حياتِهِم، وما زلْتُ أتذكرُ تلكَ الأيامَ الفريدةَ من نوعِها، وها أنتَ تعيدُني ستين عاماً إلى الوراءِ، وأنا أُكِنُّ لكَ كلَّ الاحترامِ والتقديرِ على هذهِ اللفتةِ وأَتَمَنّى أَنْ يَصُبَّ بَحْثُكَ هذا في سبيلِ خدمةِ أهلِ النقبِ، كما أتمّنّى أَنْ تُبَلِّغَهُم تَحِيّاتي ".
تنويه : أُجْرِيَتْ المقابلَةُ باللُّغةِ الإنجليزيةِ في نوفمبرَ من العامِ المنصرمِ على يَدِ الأستاذِ منصور النصاصرة في بريطانيا ، وَتُرْجِمَتْ وكُتِبَت بواسطة النصاصره أيضًا.