بقلم : مسلم مناصرة ... 28.8.06
استمراراً لقرار الأمم المتحدة رقم 1559 وقرارات دولية أخرى، فقد تضمن القرار الجديد الخاص بالحرب نصّاً جديداً، ألمح بصورة غير مباشرة إلى ضرورة إلقاء حزب الله بسلاحه، في حين يمكن اعتبار هذه الإشارة واضحة ومباشرة، بمجرد أن هذا القرار تضمن إشارة إلى وجوب تطبيق القرار 1559، والذي تحدث عن ضرورة تجريد حزب الله من سلاحه بصورة واضحة.
ولعلّ نص القرار رقم 1701، يدلّ على مدى التلعثم والتخبّط والارتباك الذي لم يخفه كل من رجالات الديبلوماسية العربية الذين دعموا هذا القرار ككفارةٍ مفضوحة وغير مقبولة عن خطيئتهم الأولى –وهي عموماً ليست الأولى ولا الأخبرة في مسيرة حياتهم السياسية- في عدم مساندة لبنان في محنتها الإنسانية، بل وفي التآمر على أطفال هذا البلد الآمنين في بيوتهم والذين لم يتسبّبوا بأي أذىً لأحد. وهذا يظهر فيما عبّر عنه رئيس الوفد العربي وزير خارجية قطر بقوله بعد التصويت على القرار، إن الوفد العربي قَبِلَ القرار رغم عدم وضوحه وشموله جميعَ النقاط، ورغم عدم رضانا الكامل عنه حقناً لدم أطفال لبنان. وكذلك، يمكن أن نلاحظ التلعثم الأمريكي والغربي عموماً في هذا السياق. وهذا ظهر في عدم وضوح ما جاء في نص القرار، أو في إغفال ما لم يأت في القرار. فالقرار لم يكن واضحاً في التفاصيل الهامة، لدرجة أنه لم يكن قرارا لوقف إطلاق النار، بل لوقف العمليات الحربية، ولهذه العبارة تفسيرات واجتهادات كثيرة، يمكن أن يأخذها كل طرف إلى ما يريد وما يرى. بالإضافة إلى ذلك، لم يتطرّق القرار للعمليات التي مارسها الجيش الإسرائيلي ضد المواطنين المدنيّين، بالرغم من أهمية هذه النقطة. فالقرار سوف يستوجب توليد قرارات فرعية من رحم القرار الأم، يكون مفادَها التفاصيلُ التي لم تظهر جلية في القرار الأم، مما سيعرقل تطبيق القرار ويؤدي إلى هدر المزيد من الوقت في التفكير والتحليل والتطبيق الخاطئ لبعض النقاط.
وخلاصة القول إن هذا القرار جاء ليخطّ معادلة توازن ديبلوماسية عربية-غربية بين المطالب الإسرائيلية وحفظ ماء وجهها أمام المجتمع الدولي وأمام الرأي العام الداخلي، إثر الهزيمة الميدانية التي منيت بها، وبين موقف حزب الله الذي فرضه وجسّده مقاتلوه على الأرض بقوّة الإرادة قبل قوة السلاح.
والسؤال المطروح هنا، هل يمكن أن يلقيَ حزب الله سلاحاً بناه على مدار ما يربو على ربع قرن؟ وهل يمكن أن يمارَس المزيد من الضغط على هذا الحزب من أجل أن يلقي سلاحه، مترجّلاً عن خيوله منخرطاً في صفوف المدنيين والسياسيين الذين كثيراً ما يقفون على جانب الأمر يلقون بانتقاداتهم وملاحظاتهم، وفي أحسن الأحوال يشاركون الشارع بكلمة أو تصريح أو بيان خجول تذيعه الصحافة أو الإذاعة أو التلفزة؟ وما الذي يمكن أن يحصل لو ألقى حزب الله سلاحه وتجرد منه؟
من الطبيعي أن يتمسّك حزب الله بسلاحه وأن يعضّ بنواجذه على إنجازاته التي حقّقها طوال الفترة الفائتة. فهذا الحزب لم يتميّز بعمله السياسي أو الاجتماعي، بل تميّز بعمله العسكريّ وبتعميق ثقافة المقاومة التي توجد توازناً طبيعيّاً أمام ثقافة الاحتلال، بل إن عمل حزب الله السياسي والاجتماعي، كان هو الملحقَ بعمله العسكري، ولعلّ الأسباب التي تدفع حزب الله بالتمسك بسلاحه، تندرج تحت كل ما هو داخليّ لبناني، أو إقليمي أو حتّى عالمي. ويمكن أن نجمل قسما من هذه الأسباب كما يلي:
1. إن حزب الله قامَ كمؤسّسة مقاومة عسكريّة تصدّت للاحتلال وقاومته، حالّةً بذلك محل جميع الحركات المقاوِمة التي سبقتها وعاصرتها ومتفوّقةً عليها، مثل حركة أمل على سبيل المثال.
2. لقد تفوّق حزب الله على الجيش اللبناني النظامي، وبات الجميع يعرفون أن صمود حزب الله في الحرب الأخيرة، ما كان ليفرحَ به الجيش النظامي اللبناني، لأن إمكاناتِه العسكريةَ محدودةٌ جدا. وبذلك يمكن القول إن حزب الله بديلُ الجيش النظامي لأنه قادرٌ على تأدية المهام المنوطة بالجيش.
3. على حزب الله أن يثبت لنفسه ولغيره أنه قوّة فاعلة ذات مصداقية في لبنان، وأن يده هي العليا وأنّه على رأس جميع المواكب اللبنانية بكل أطيافها السياسية والاجتماعية. ولا ننسى هنا أن أهداف حزب الله التي ظهرت بظهوره، كانت كبيرةً جدا، والتي بدأ الحزب يخفّف منها مع الوقت وبانشغاله في الميدان العسكري والسياسي. على رأس هذه الأهداف التي طُرحت في أجندة حزب الله الأولى، هو إقامة جمهورية إسلامية بدلاً من الجمهورية اللبنانية، أسوةً بإيران. فكيف لهذا الحزب ان يتنازل بهذه البساطة عن أحلامه وتطلعاته، وأن يدفع هذا الثمن الباهظ مجانا؟!
4. من الطبيعي أن تحافظ أية حركة سياسّةً كانت أم عسكرية أم مقاوِمة أم غيرَ ذلك، على جميع أسهمها التي جمعتها من خلال إنجازاتها المختلفة. فليس من المعقول أن يسلّم حزب الله سلاحه أو أن يسمح بأن يُنزع منه هذا السلاح بالقوة أو التفاوض، لأن ذلك يعني انتحاره وخذلانه.
5. يرى حزب الله في نفسه، ويرى فيه كثيرون، جدار الحماية الذي يذود عن حياض لبنان ويدافع عن ترابه. ولعل الفترة السابقة تشهد أن هذه الحركة تفرّدت بالدفاع عن تراب لبنان، بل إن هذه الحركة هي التي جلبت النصر إلى لبنان مرتين في عام 2000 وفي عام 2006.
6. يعلم الجميع أن لبنان الصغير، عبارةٌ عن نسيج ثقافيّ وفسيفساء طائفيّة متعدّدة الأطياف والألوان. ولبّ الصراع في لبنان، هو بين إرساء وضع يكون فيه لقاء للثقافات، وبين وضع يكونُ فيه تنافرٌ لهذه الثقافات مما يولّد الصراعات الطائفية. ولعلّ قوّة حزب الله الداخلية حافظت على رص الصف اللبناني وعلى عدم تفجّر الخلافات الطائفية في لبنان. والجدير بالذكر هنا، أنّ نقطةً ما ترصد لصالح الشعب اللبناني فعلاً. فقبل الحرب وخلالها، أثبت اللبنانيون جميعاً أنهم يحملون ثقافة الحرية وقبول الغير، وأثبتوا الوحدة والصمود. وآمل أن يبقى الأمر كذلك، رغم المحاولات التي تقوم بها بعض القوى اللبنانية الداخلية لتفريق الصف اللبناني.
في الآونة الأخيرة، لاحظنا كثيراً من الأصوات التي بدأت تعلو في لبنان وغيره منتقدةً حزب الله وطاعنةً بنهجه في هذه الحرب. ومعظم هذه الأصوات لم تنطلق بعد الحرب مباشرةَ، بل إنها ألمحت إلى ذلك بعيد اندلاع الحرب، وقد تمثّل هذا التلميح بما أسماه هؤلاء "وقت المحاسبة". وفي رأيي المتواضع، فإنّ وقت المحاسبة مطلوب للجميع لكن وقته لم يحن بعد. فما زالت هنالك جراحٌ لم تندمل، وما زالت هنالك آلام لم تُلملم، وما زالت هنالك أشلاء لم تجمع، وما زال هنالك نازحون وقنابل غير منفجرة تتهدّد حياة المواطنين. والأهم من ذلك، أن النتيجة النهائية لهذه الحرب لم تحطّ رحالها في أروقة التحليل الاستراتيجي والمطابخ السياسية المختلفة، وإن كان الحديث ممكنا عن نتائح الحرب الميدانية. وعلى كلّ حال، فإن المقاومة اللبنانية ستكون من بين أول المحاسِبين غيرَهم على هذه الحرب، وعلى ما سبقها، وكذلك على ما سوف يليها.
ولقد ارتفعت عدّة أصوات بين مؤيد ومعارض ومحايد فيما يتعلّق بنزع سلاح المقاومة أو تسليم المقاومة سلاحَها، وقد اختلفت الطروحات ووجهات النظر، فمنهم من قال بتصحيح الصيغة، فعلى حد تعبيرهم، يمكن استبدال عبارة نزع السلاح أو تجريد المقاومة من سلاحها بعبارة أن تسلم المقاومة سلاحها، بل كان هنالك من يدعو إلى انخراط المقاومة في صفوف الجيش اللبناني.
مهما تكن الصيغة فإن إلقاء السلاح يعني ضرب العصب الدفاعي الرئيسي في لبنان وجعل هذا البلد بلداً ضعيفاً لا يقوى على مواجهة قطيع من الخراف. وانخراطه في الجيش اللبناني يحمل إشكالية أكبر من هذه. فبمجرّد الموافقة على الانخراط في الجيش، فإنّ ذلك يعني أنّ أحد هذين الجسمين، المقاومة والجيش، سوف يذوب في الآخر. وفي الحالتين مشكلة كبيرة. فإذا انخرطت المقاومة في الجيش وسيطر الجيش عليها، فإن قوّتها الرادعة ومعادلة توازن الرعب التي حافظت عليها المقاومة سوف تذهب أدراج الرياح. وإذا ذاب الجيش في المقاومة، فإن الأمر سوف يؤدّي إلى إشكالاتٍ تنظيمية عظيمة. لأنّ الجيش هو جيش نظاميّ لا يستطيع القتال وفقاً لأسلوبية المقاومة العسكرية، وهو جيش تقليديّ ظاهر العدّة والعتاد والألوية والفرق العسكرية في حين أنّ المقاومة تعمل في السر، وحتّى مقاتلوها لا يظهرون ووجوههم ليست مألوفةً للشارع. وهنا نسأل السؤال الذي لا إجابة عنه: ماذا يريد هؤلاء: هل يريدون أن يصبح الجيش النظامي! مقاومةً، أم يريدون أن تصبح المقاومة جيشاً نظاميّا؟! وهل يريد هؤلاء إعادة سيناريو حرب 1973، والذي قدّم فيه النصر للقوة المعادية المهزومة؟
الحقيقة أنّ التنبؤ بما سيأتي هو عمل العرافين والمنجمين وليس في ضمن التحليل العسكري. ولكن، يمكن استقراء كثير من الأمور التي قد تحدث مستقبلاً إذا بُني التحليل على الوقائع الحاصلة في الحاضر، خاصّةً إذا لم يحدث ما هو مفاجئ والذي من شأنه أن يغيّر مجريات الأحداث.
وهنا نقول: إذا جرّد حزب الله من سلاحه، بأية طريقة كانت، فإن ذلك يعني اختلالا إقليميا في المنطقة. وهذا يتمثّل فيما يراه الباحثون العسكريون الاستراتجيون وعلماء العلاقات الدولية. فترى نظريات العلاقات الدولية أنّ العالم مكون من لاعبين سياسيين تزيد وتقلّ أهمية كل منهم بالنسبة إلى الآخرين بحسب ظروف ومميّزات ومعايير كثيرة. وإذا نظرنا إلى اللاعبَيْن: إسرائيل ولبنان، فإنّ إسرائيل في هذه اللعبة ممثلةٌ بالدولة ومؤسساتها العسكرية والسياسية. أما لبنان فممثلٌ بالمقاومة أكثر مما هو ممثل بمؤسسات الدولة. وبالرغم من أن كثيرين من خبراء العلاقات الدولية سوف لن يروا بحزب الله لاعباً حقيقياً في هذه اللعبة كونَه منظمة، وليس دولةً ذات سيادة، إلاّ أن الواقع الذي فرضه حزب الله على الأرض جعله يتربّع على مكانةٍ لا تقلّ أهميّة عن تلك التي تحظى بها الدول ذات السيادة، بل ربمّا بَزّ حزب الله بعض هذه الدّول فجعلها تتمنّى أن ترتقي إلى ما حصل عليه من مكانة وأهمية محلية وعالمية وإقليمية.
هذه النظريات ترى أنّ ديناميكيّةً ما تدور في فلك العلاقات بين اللاعبين، ومعادلة التوازن لهذه الديناميكية يجب أن تحتوي متغيّرات كثيرة وغير ثابتة. فإذا ما ثبتت هذه المتغيّرات، فإنّ هذا الاختلال يمكن أن يؤدّي إلى وضع غير طبيعيّ وربّما كارثي. فإسرائيل التي ترى في حزب الله عدوّاً ينافسها في القوة وينازعها التأثير، يمكن أن تجد نفسها من دون منافس إذا ما نزع سلاح هذا الحزب، الأمر الذي قد يجرّ المنطقة إلى حرب إقليمية، يكون سببها عدم وجود قوة رادعة منافسة لإسرائيل. لذلك، فمن مصلحة المنطقة بأسرها، أن يحافظ حزب الله على سلاحه، كقوّة دفاعية، كقوة ردع وكلاعب استراتيجي له الباع الطويل في الحفاظ على توازن العلاقات بين بقية اللاعبين، مع الملاحظة أنّ حزب الله ليس اللاعب الوحيد المنافس لإسرائيل في المنطقة، ولكنه أثبت أنه أقوى المنافسين لها وأن تجريده من سلاحه يعني اختلال متغيّرات هامة جدا في معادلة التوازن الاستراتيجي.
ومن الجدير ذكره، أن حزب الله أعلن ويعلن أنه قوّة رد فعل، لا قوة فعل. ذلك يعني انه منظمةٌ دفاعية بالمجمل، لا منظمة هجوميّة. وإذا اعتمد هذا الحزب استراتيجية الهجوم أحيانا، فإنه يعتمد استراتيجية الهجوم الدفاعي. هذا يعني أن جبهة الجنوب اللبناني، إذا لم تعد ساخنةً، لأن الهجمات الإسرائيلية لا تهدّدها، فمن الطبيعي أن يوقف حزب الله جميع عملياته ضد إسرائيل. ذلك يعني، انّ خطر حزب الله الاستراتيجي منوط بصورة وثيقة بتهديد إسرائيل للبنان، وهذا هو لب التوازن الاستراتيجي الذي يعني توازن الردع. ويمكن أن نستشهد بمثال من التاريخ العسكري، يبين عدم استعمال السلاح للدفاع أو الهجوم، بل للردع فقط، وهو الحرب الباردة. فالفترة التي شهدها العالم في أواخر القرن الماضي من تسابق للتسلح بين الدول العظمى، أثبت أن السلاح النووي ليس سلاحا للهجوم أو الدفاع، بل إنه سلاح للردع تضمن فيه كل قوة منافسة للقوى الأخرى عدم هجوم تلك القوى عليها.