بقلم : رشاد أبوشاور ... 14.8.08
مات الشاعر، ولكن شعره باق.
زيتونة فلسطين الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي قال في واحدة من قصائده: الخالدان الشعب والموطن ولأن الوطن فلسطين، ولأن الشاعر الكبير محمود درويش جاء من رحم خصب، ولأنّ فلسطين شعبا وأرضا تستحق كلّ الشعر العظيم الذي أبدعه أبناؤها منذ إبراهيم طوقان، مرورا بأبي سلمى، وعبد الرحيم محمود، وحسن البحيري، وفدوى طوقان، ومعين بسيسو، وصولاً إلى الحيين أطال الله عمرهما: هارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، فإن سلالة الكبار لن تنقطع، والمواهب لن تنضب...
في حوار بثّته فضائيّة فلسطين أجراه معه نبيل عمرو، قال محمود درويش: شعراء فلسطين مظلومون، هم الذين يغنون المشهد الشعري العربي، لأنهم يعاملون على حسب الرقعة الجغرافيّة التي ينتمون لها! ومّما قاله ويحسن التوقّف عنده: أستطيع أن أذكر لك عشرة شعراء فلسطينيين كبار...
فلسطين التي تفقد شاعرا كبيرا، ليست عاقرا، وهي أنجبت، وستنجب، وهي ليست يتيمة، ولا (أرملة)، فهذه التعبيرات منفّرة، ومسيئة، والشاعر الكبير لا يقبل بها...
حين جاء صوته من عمق فلسطين، ترافق هذا الحضور مع تباشير انطلاقة الثورة المعاصرة، والزمن الفدائي، وهو لم يحضر وحيدا،ولكنه حضر مع: راشد حسين، توفيق زيّاد، سالم جبران، وصديقه ورفيقه سميح القاسم، والذين قدموهم هم أخوتهم في الشتات: المعلّم الكبير غسّان كنفاني، الشاعر الكبير يوسف الخطيب (ديوان الوطن المحتل)، الكاتب إبراهيم أبوناب، وهؤلاء قدّموا تلك الأصوات التي تؤدّي دورها في بلورة الشخصيّة الوطنيّة الفلسطينيّة، تحديّا، ومقاومة للمشروع الصهيوني الرامي لإلغائها.
الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة رفدت الحركة الثقافيّة العربيّة الواحدة بأسماء كبيرة: غسّان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، الدكتور إحسان عبّاس، سميرة عزّام...
ومنذ الستينات أضاف الفلسطينيون للحركة الثقافيّة والفنيّة العربيّة أسماء كبيرة أغنتها فنّا وروحا وحيويّة.
عندما ردّ محمود درويش على تساؤلات سائله في جلسة الحوار تلك بأنه يمكن أن يعدّ له عشرة شعراء كبار، كان يرفض بذلك تكريس اسم شعري واحد،لأن في هذا اعتداء على مواهب كبيرة، وتقليلاً من قيمة وقدر الشعب الذي ينتمي له، وادعاء لا يليق بمبدع كبير يعيش في التحدّي لا في (المبايعة) من صغار اعتادوا العيش في ظّل القامات العاليّة، ممعنين بذلك في سحب ممارساتهم السياسيّة لتغطّي الواقع الثقافي، وتلغيه،أو تتحكّم به بما يناسب مصالحها وأهواءها...
لم أكن صديقا مقرّبا له، ولكنني قدّرت دائما موهبته الكبيرة وإن اختلفت معه في مواقف معروفة، وهذا لا يعني أنني لم أحزن على رحيله كثيرا فقد رحل في أوج عطائه، وشبابه، وبعيدا عن (البروة) ...
من قبل حزنت وبكيت وانقهرت ألما على المعلّم الكبيرغسّان كنفاني الذي نسف جسده العدو الصهيوني بكميّة من الديناميت، كما كتبت محمود، تكفي لنسف جبل! وحزنت كثيرا، وبكيت قهرا، وغضبا على الكبير ناجي العلي فنّان فلسطين وجرحها، وفقراء العرب وغضبهم عندما طالته يد الغدر...
دائما أنجب شعبنا كبارا، في الفنّ التشكيلي: إسماعيل شموّط، في الموسيقى، في النقد الأدبي، في الترجمة، في الريادة الشعريّة: توفيق صايغ ...
سأستحضر هنا بعض الأسماء العشرة الكبيرة التي أحسب أنها خطرت ببال محمود درويش: هارون هاشم رشيد، يوسف الخطيب، ومن جيل واحد: محمد القيسي، عّز الدين المناصرة، أحمد دحبور، مريد البرغوثي...
هل تجاوزت شعراء آخرين سبقوا ذلك الجيل قليلاً؟ نعم وفي مقدمتهم الكبير فوّاز عيد، والذي تحدّث عنه محمود درويش مبكّرا في مقابلة أجرتها معه (الآداب)، وفيها قال بأن اثنين من الشعراء يلفتان انتباهه: فوّاز عيد، وأمل دنقل...
لا خالد أبوخالد، ولا أحمد حسين ، وكيف أمّر على محمد لافي، وإبراهيم نصر الله و...
هناك أكثر من عشرة شعراء كبار يعيشون بيننا! إن أهميّة محمود درويش أنه وجد في زمن الكبار، وحقق لموهبته مكانة كبيرة بينهم: أدونيس، خليل حاوي، نزار قبّاني، البياتي، الفيتوري ...
لم يكن محمود درويش (طفرة) شعريّة، ولكنه كان نبتة متميّزة في حديقة شعريّة عربيّة رائعة ...
وكانت فلسطين القضيّة، والحق، والفداء، والبطولة، والألم، التحدي الذي حرّضه على إبداع شعر يليق بها، ويرتفع عاليا بها لتكون منارة، وتحديّا، بشعر أبقى من صرخة الألم العابرة،ومن الشعار الحار الذي يتلاشى سريعا.
اختلفنا في محطّات وطنيّة فلسطينيّة، ورغم الحدّة في الخلاف لم يكن بيننا حقد، رغم ما بثّه الصغار من ضغائن، ودسائس، دفعته يوما للصراخ في وجه أحدهم: أنت سممت العلاقة بيني وبين رشاد طيلة 25 عاما ..ويشهد الله أنه أخبرني بهذا الأمر في إحدى زياراتي لبيته في عمّان.
كان يتابع أصغر الشعراء عمرا وشأنا، فما بالك بزملائه الكبار في الساحة الأدبيّة الفلسطينيّة!...
مرّات كثيرة توقّف عند محمّد القيسي، وكان معجبا بغنائيته وإنشاده، ولكلّ واحد من الكبار مزاياه التي كان يتوقّف عندها...
اختلفت معه، وكتبت ردا مطولاً في (الهدف) وكانت تصدر في دمشق، وهي التي أسسها المعلّم غسّان كنفاني، وكان ذلك في زمن الانقسام الفلسطيني بعد الخروج من بيروت...
قبل أيّام كتبت مقالة عن النّص الذي حمل (سيناريو جاهز) رفضت فيه (فكرة) أننا والعدو معا في حفرة واحدة ، فالعدو هو من حفر لنا...
ولأنني عرفت بأنه نقل لمستشفى أمريكيّة لتجرى له عمليّة خطرة فلم أنشر المقالة وإن أطلعت عليها بعض الأصدقاء.
ليس سرّا أننا اختلفنا سياسيّا، ولعلّي تألمت دائما من (البطانة) الفلسطينيّة التي بالغت في تكريسه صوتا واحدا، وحجبت الإمكانيات عن (كّل) الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة.
تكريم شاعر بحجم محمود درويش عمل ثقافي، وواجب وطني، وقومي، ولكن هل معنى هذا أن لا يهتّم بأي شاعر، أو مبدع فلسطيني آخر؟! أنا أعرف أن محمود درويش تألّم لموت محمّد القيسي، وللإهمال الذي لاقته أسرته بعد رحيله! أنا أعرف أنه تألّم لأن جنازة شيخ النقاد العرب الفلسطيني الدكتور إحسان عبّاس لم يشارك فيها اكثر من ستيّن مشيّعا! أذكر ذات يوم في دمشق، أن الصديق عبد الله حوراني، وكنت أقدّم احتفالا فنيّا كبيرا في (صالة تشرين)، يقوده الموسيقار حسين نازك، وتنشد فيه فرقة العاشقين، اقترب منّي وهمس في أذني: يريد محمود درويش أن تقدّمه، ما رأيك؟! كانت تلك أمسية بمناسبة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني عام 79، ومن بعد صارت أماسيه الدمشقيّة تقدّم في الصالات الرياضيّة التي بالكاد تستوعب جمهور محبيه... محمود درويش الكبير رحل جسدا، وشعره سيبقى، سيقرأه ملايين العرب في زمننا، وما سيأتي من زمن. كلمة أخيرة: عدونا سمح بعودة جثمان محمود درويش إلى رام الله، لكنه لم يسمح بدفنه في البروة مسقط رأسه، وكأنما يقول: لا لحق العودة للفلسطيني حيّا أو ميتا...
أهلنا سيقيمون له احتفالاً على أطلال البروة، وإلى أن يعود ليدفن هناك سيولد شعراء كبار، وثواّر كبار الهمم لن يوقفوا الكفاح قبل تحرير (البروة) التي ستضّم جسدك، وتطلق عصافير شعرك في سماء الجليل ...لروحك السلام يا أخي محمود.