
كتب سعيد ابومعلا.. ما إن يطالع الباحث والناشط البيئي والتنموي جورج كرزم مشاهد حرائق الغابات في مدينة القدس المحتلة حتى يستحضر حقيقة أنها نتيجة متوقعة، فالأشجار الدخيلة التي جلبها الاحتلال قبل عام 1948 وبعد ذلك التاريخ وزرعها في منطقة القدس وحول القرى الفلسطينية المهجرة «لا تتلاءم والغطاء الشجري التراثي والتاريخي المقاوم في فلسطين».ويرى كرزم، وهو رئيس تحرير مجلة «آفاق البيئة والتنمية»، في حديث مع «القدس العربي» أن المسلّمة السابقة تدعمها حقيقة ما تشهده مدينة القدس اليوم والأمس من تمدد النيران الهائلة على الأشجار الحرجية واحتراقها.ويقول: «لك أن ترى النيران تنتقل بشراسة في المناطق الحرجية التي يسيطر عليها الاحتلال بينما لو اشتعلت النيران في المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية البعيدة عن تدخلات الاحتلال فإن النيران لن تنتقل بالسرعة نفسها والطريقة».ويعتقد أيضًا أن السبب الذي يفسر ذلك هو أن المناطق الفلسطينية في الضفة تتضمن أشجارا من أصول التراث الشجري في فلسطين مثل البلوط والخروب والزيتون وغيرها، وهي مزروعات لا يمكن أن تتمدد النيران فيها إلا ببطء شديد.ومساء الأربعاء، وحتى الخميس، توسعت رقعة الحرائق التي اندلعت في وقت سابق في أحراش القدس، وسط تحذيرات من تفاقم الوضع بسبب سرعة الرياح والحرارة المرتفعة.ووصفت وسائل إعلام الاحتلال الحرائق أنها الأكبر في تاريخ إسرائيل، وذكرت أن المئات معرضون للخطر بسببها، كما أخلي بعض المرضى من مستشفى «هداسا عين كارم».وأظهرت مقاطع مصورة وصول النيران إلى طريق رئيسي في القدس وتدخل طائرات في محاولة لإخمادها.وشهد الأسبوع الماضي أيضا حرائق في منطقة جبال القدس، ولم تتمكن طواقم الإطفاء من إخمادها إلا بعد مرور 21 ساعة.
نكبة للطبيعة الفلسطينية
ويستخدم الناشط البيئي عمر عاصي مصطلح «نكبة الطبيعة» تماما كما فعل الاحتلال في نكبة الإنسان والجغرافيا والمياه والغذاء، ويقول إن أشجار الصنوبر كانت من أبرز الأسلحة التي استخدمتها إسرائيل للسيطرة على الأرض وحتى نهاية الثمانينيات كانت أشجار المخروطيات تشكل 65% من الأشجار التي زُرعت في البلاد، وكانت مشاريع التشجير بالصنوبر مفخرة لكل صهيوني.ويضيف في حديث مع «القدس العربي»: «يقال إن الصندوق القومي اليهودي زرع ما يقارب 260 مليون شجرة صنوبر، ويسمونه أحيانا صنوبر أورشليمي».ويلاحظ: «حدث ذلك علما أن هذه التسمية ليست دقيقة، فالصنوبر ليس من الأشجار الأصيلة في بلادنا وإنما من أشجار شمال البحر الأبيض المتوسط، ولكنه كان سريع التأقلم، وبالتالي مكّنت أشجار الصنوبر إسرائيل من تغطية مواقع القرى الفلسطينية، كما حصل في منطقة «بارك كندا» حيث غُطّيت مناطق واسعة من أراضي قرى عمواس ويالو وبيت نوبا».ويروي الناشط عاصي، الذي يتجول في مناطق فلسطين التاريخية، كيف المحتل الإسرائيلي لم يدرك حجم الكارثة التي فعلها إلا في السنوات الأخيرة، وقد نُشرت مقالات علمية كثيرة تربط بين اندلاع الحرائق في الغابات وفي الكرمل تحديدا وبين المشروع الصهيوني لتشجير البلاد بالصنوبر، «فأكواز الصنوبر أشبه بـ «جرة نفط» موقوتة في أوقات الحرائق، ومع أرضية غابات الصنوبر المليئة بالأغصان اليابسة تصبح هذه الغابات أرضية خصبة لاندلاع الحرائق، بخاصة عندما تبدأ أكواز الصنوبر بالقفز من مكان لآخر ونشر النيران في كل مكان».ويكمل عاصي: «بالمقابل لو نظرنا إلى شجرة السنديان (البلوط) وهي من الأشجار الأصيلة، سنجدها تُصنف ضمن الأشجار المقاومة للحرائق، وذلك بفضل قشرتها السميكة والمميزة».ويرى أن أضرار سياسات التشجير التي اتبعتها إسرائيل لم تتوقف عند الحرائق، «فكما يرى خبراء بيئيون ومنهم إسرائيليون، فإن غابات الصنوبر ملائمة لأوروبا وليس لأرض فلسطين، ووجودها يدمر النباتات التي تميز حوض البحر الأبيض المتوسط والتي تجيد الصمود أمام الرياح الخمسينية المسببة للحرائق في أشهر تموز/يوليو وآب/أغسطس».ويتطوع عاصي للإجابة على سؤال: «كيف ذلك؟»، فيقول: «أوراق الصنوبر تعد حامضية، وبالتالي فعندما تتساقط على الأرض تساهم في زيادة حموضتها، وهكذا تفقد التربة شيئا من خصوبتها، وبالتالي فإن الكثير من النباتات الأصلية والمتوطنة في بلادنا من عهود قديمة تعجز عن الصمود مع كل هذه التغييرات».وحسب خبراء فإن الشجر الأصلي في فلسطين مثل: البلوط والبطم والقطلب والخروب والزيتون يمتاز بإمكانية عالية للتأقلم مع البيئة، أما الأشجار الاستعمارية الدخيلة مثل: الصنوبر والسرو والكينا فهي تخرب البيئة، وحرقها يتسبب بنفوق الحيوانات وقتل النباتات وسرقة الأراضي.ويشارك فلسطينيون كثر صورا لـ «غابات القدس» التي تقع على أراضي قرى مهجرة غرب المدينة؛ أشجار صنوبر وسرو تملأ المكان وتُهيمن على المشهد الطبيعي.لكن كثيرا لا يعرفون أنها أشجار تدعو للغضب بداية، وأن إسرائيل في القدس المحتلة زرعت مساحات واسعة من غابات القدس بعد حرب عام 1967، كجزء من حربها على الفلسطينيين وطمس وجودهم، فأحاطت الغابات بمنازل وقرى الفلسطينيين المهجرة كجزء من سياسة تغيير معالم المكان وسرقته وطمس هويته.
وتشير المعلومات إلى أن «الصندوق القومي اليهودي» بدأ بحملات التشجير وإنشاء الغابات عام 1920، بالتعاون مع الجمعية اليهودية لاستعمار فلسطين «فيكا» التي أنشأها البارون الصهيوني إدموند دي روتشيلد، وبعض الجمعيات الخاصة، وذلك تحت إشراف إدارة الانتداب البريطاني.وقبل ذلك بدأ مشروع التحريج في فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر مع إدخال شجرة الأوكالبتوس من أستراليا، «بهدف تجفيف المستنقعات التي كانت تنتشر في السهل الساحلي الفلسطيني، خاصة في مناطق مثل الخضيرة وروش بينا وبيتاح تكفا»، كما يوضح موقع Ramat Hanadiv هو موقع بيئي إسرائيلي وبعد إنشاء دولة الاحتلال استكمل الصندوق القومي أعمال التشجير، حيث تركزت في سلسلة الجبال الممتدة من الجليل حتى القدس، ومن ثم إلى شمال النقب.وتظهر أرقام فلسطينية وإسرائيلية أنه ما بين الأعوام 1950 و1960 زُرعت مساحة قدرها 190 ألف دونم، وما بين الأعوام 1960 و1970 زُرعت مساحة قدرها 210 آلاف دونم، وحتى عام 2007 أضيفت 530 ألف دونم أخرى، إلى أن وصلت اليوم مساحة الأراضي التي تغطيها الغابات ما يقارب مليونا و180 ألف دونم، منها فقط 242 ألف دونم تقريبا تعتبر أحراجا طبيعية لم تتدخل الحركة الصهيونية في زراعتها.والباقي مساحات زرعتها إسرائيل، تشكل الأشجار الإبرية (الصنوبر والسرو) فيها نسبة 40% منها، وأشجار الكينا نسبة 13.5%، والأشجار المحلية كالبلوط والخروب والزيتون 5.1% فقط.
عملية المحو والبناء
في هذا السياق جاء في دراسة أُنجزت عام 2021 وحملت عنوان «محو فلسطين لبناء إسرائيل: تحويل المناظر الطبيعية وتجذير الهويات الوطنية» للباحثة كريستين بيرينولي، أنه «قد يبدو اقتلاع الأشجار بالنسبة للاحتلال أمرا ملفتا للانتباه لدى مقارنته بتدمير عدة مئات من القرى، وثمة سببان يجعلان من هذا الأمر له أهمية خاصة: أولا: يعد كل من التشجير وإزالة الغابات والغرس والاقتلاع طرقا فعالة لتحويل المشهد المكاني على المدى الطويل والاستيلاء على الفضاء وتأكيد الهيمنة عليه».والنتيجة الثانية بحسب الدراسة تعود إلى ما ترمز إليه الشجرة الفلسطينية، حيث تمثل جذور الناس في الأرض. وتعد في هذا السياق وسيلة للذاكرة الوطنية ومقياسا لملكية الأرض المتنازع عليها.وحسب الباحثة، تأخذ الأشجار الإسرائيليين إلى معنى مختلف، فهي تمثل أولا عملية إعادة زرع ناجحة للوطن القديم واستمرارية رمزية بين الماضي كما هو موصوف في التوراة والحاضر. وثانيا، يعد اقتلاع الأشجار وسيلة لتطهير الأرض من أي علامة من علامات التاريخ الفلسطيني قد تتحدى قيام الأمة العبرية.وتقول الباحثة بيرينولي إن سياسة تدمير القرية التي بدأت في العام 1948 لم تكن كافية لمحو الوجود الفلسطيني وتطهير كافة آثار هذا الوجود وتاريخه من المشهد المكاني، لذلك تبنت إسرائيل إجراءات الطوارئ، فصدر في العام 1948 قانون يمكن وزارة الزراعة من مصادرة الأراضي البور وتسليمها إلى مزارع آخر. كان هذا القانون وسيلة لمصادرة الأراضي الفلسطينية قبل صدور قانون أملاك الغائبين (1950) الذي سمح بتأميم أراض وممتلكات بمليارات الدولارات، وسلمت الحكومة الإسرائيلية في العام 1948 خمسمئة ألف دونم لمزارعين يهود حتى يتمكنوا من جعل الصحراء تزهر وتتفتح.وتكمل: «نظرا لكونه ضرورة لتحديث الزراعة حسب المزاعم الإسرائيلية، فقد جعل نقل الأراضي هذا من شبه المستحيل عودة المزارعين الفلسطينيين بسبب انتزاع مصادر رزقهم. تم تنظيف فضائهم من جميع الأشجار لأن الأشجار كانت بمثابة تذكير مرئي أن الأرض لم تكن في الواقع مقفرة، ولكنها كانت ملكا للسكان الذين كانوا يعتنون بها. غير أن هذه الإجراءات أثبتت أنها غير كافية، على الأقل بسبب ضغوط المستوطنات الزراعية والرغبة المتزايدة في الاستيلاء على الأراضي من القرى العربية المجاورة.ونتيجة لذلك أُعلن أن أراضي الفلسطينيين في مناطق عديدة مناطق مغلقة، مما منع أصحابها الفلسطينيين من رعايتها وجني محاصيلهم.
و»بمجرد أن أصبحت أرضهم بور بسبب الإهمال، استولت الحكومة عليها وسلمتها لليهود. كما تعمدت السلطات في بعض الحالات غض الطرف عن إتلاف المحاصيل من أجل جعل الأراضي الزراعية بور، وبالتالي تصبح جاهزة ومؤهلة للمصادرة في أقرب وقت. وهكذا تم اقتلاع عشرات الآلاف من الدونمات من بساتين الزيتون من الأرض».
وتكمل: «بالتوازي مع هذا التطور حُرثت عشرات القرى الفلسطينية أو غُرست بالأشجار، فلم يعد من الممكن التعرف عليها. وظهرت العديد من الغابات الصغيرة بين الحقول المزروعة كدليل على ازدهار الطبيعة. في الواقع غالبا ما كانت تلك الكتل من الغابات تخفي بقايا القرى» وهي التي تشتعل اليوم في القدس ومحيطها».
حقائق عن الأشجار «الدخيلة»
صنفت سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية «الأوكالبتوس» كنوع غاز له تأثير مدمر على النظم البيئية المحلية.وذكر تقرير نشر في موقع Ramat Hanadiv عام 2022 «أوراقها المتساقطة تمنع إنبات النباتات الأخرى وهي ظاهرة تُعرف بالإليلوباثي… أدت إلى تصنيف شجرة الكينا كنوع غازي يؤثر على الحفاظ على الطبيعة في إسرائيل (مدرجة في الكتاب الأحمر للأنواع الغازية 2011).»أما عن صنوبر حلب (Pinus halepensis)، فقد نقل موقع «جويش تيليغراف أجينسي» عن المحامي المختص بالتشريعات التنظيمية ياعكوف فرانكو أن «الأشجار، ومعظمها من صنوبر حلب، هي أنواع غازية وأن كل شجرة صنوبر «مثل غالون من البنزين’.»وأضاف فرانكو: «العصارة، والإبر، والبلوط، والجذوع تحترق بسرعة، وتنتشر عبر الأطراف المكسورة بالقرب من نظام الجذور.»وقد شهدت إسرائيل من بينها حريق الكرمل (2010) الذي أتى على أكثر من 6,000 فدان وقتل 44 شخصًا. وأشارت سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية عام 2022 إلى أن «الصنوبر أكثر قابلية للاشتعال من الأشجار الأخرى وإن أكوازه تنفجر أثناء الحرائق وتنشر اللهب.»لكن باحثين آخرين عارضوا هذه النظرية.
*المصدر : القدس العربي
