**لن تندثر الحرف اليدوية ما دام لها عشاق في زمن التكنولوجيا. وهذا ما يفعله الشاب التونسي أنيس بوشناق الذي حوّل صناعة الغليون التقليدية في طبرقة من حرفة فنية إلى تحف يتهافت عليها جامعوها رغم تراجع مدخني الغليون في العالم، وهو ما جعله يحمل على عاتقه إنعاش هذه الصناعة بتصاميم فريدة أصبحت علامة مميزة.
طبرقة (تونس) - ينحني أنيس بوشناق في ورشته في شمال غرب تونس على آلة عمرها نحو مئة عام يحوّل بها قطعة من خشب الخلنج إلى غليون، وهي حرفة جلب جدّه أسرارها من أوروبا منذ أواخر ستينات القرن الماضي، ويأمل أنيس في أن ينقلها ويحافظ عليها رغم تراجع وفود السياح على المنطقة.
أنشأت عائلة بوشناق المحترف قبل نصف قرن على إحدى الطرق الملتوية في مدينة طبرقة الفخورة باسمها البربري الذي يعني “بلاد الورد الجبلي” أو الخلنج، والتي كانت تستقطب السيّاح الأجانب بفضل تلالها الخضراء المطلة على البحر المتوسط على بعد بضعة كيلومترات من الجزائر.
وتتميز هذه المنطقة الزراعية في شمال تونس بامتداد الغابات واحتوائها على شجر الفلين، بالإضافة إلى الخلنج الذي استعمله الفرنسيون لمدة طويلة كمادة لصناعة الغليون.
وفي العام 1968 جلب جدّ سامي الشاذلي بوشناق من سويسرا آلات للثقب والتجويف لتمكنه من تحويل خشب الخلنج في مشغله في طبرقة إلى غلايين، لكنه وجد صعوبات في تعلم المهنة.
ورفض الفرنسيون في المقابل منح الجدّ أسرار الحرفة وخباياها، إلا أن الشاذلي الذي هاجر إلى فرنسا جمع ما أمكنه من تقنيات العمل من خلال استراقه النظر عبر نافذة ورشة في مدينة سان كلود في منطقة جورا الفرنسية التي كانت تُعتَبَر عاصمة الغليون المصنوع من خشب الخلنج.
واستخدم الغليون للتدخين منذ العصور القديمة حتى أن الرومان استخدموه لتدخين الأعشاب الطبية قصد العلاج، وتزايد استخدامه في الدول الأوروبية خلال القرن السابع عشر حيث استخدمت بريطانيا الغليون الفخاري قبل أن تتطور صناعته من مواد أخرى كالخشب والعاج وبعض أنواع الحجارة.
وفي تونس ساهمت الحفريات الأثرية في اكتشاف غلايين أوروبية وعثمانية يعود بعضها إلى القرن السادس عشر.
وقد برز الغليون العثماني خلال القرن الثامن عشر حيث أصبح رمزا ثقافيا يشير إلى الانتماء الاجتماعي الراقي.
خشب الخلنج يتميز بمقاومته للحرارة ولا يحتوي على أي طعم ما يتيح تذوق نكهات التبغ الصافية
خشب الخلنج يتميز بمقاومته للحرارة ولا يحتوي على أي طعم ما يتيح تذوق نكهات التبغ الصافية
وحظيَ غليون بوشناق بسمعة لا بأس بها، ولم يفكر أنيس يوما بضرورة تولي مهمة الحفاظ على هذه الحرفة، وهو الذي كان يعيش منذ عشر سنوات في فرنسا حيث يعمل في قطاع المطاعم.
لكنه عاد في العام 2011 إلى تونس حين توفي الجد وقرّر منذ ذلك التاريخ إحياء الورشة وإعادة أمجادها.
يروي أنيس أن أحد المولعين بجمع الغلايين في تونس هو الذي نقل إليه “الشغف بهذا العمل”، مضيفا “لقد كشف لي عن آفاق المهنة”.
واستفاد أنيس من مساعدة حرفي كان يعمل مع جدّه، أفشى له بكل أسرار مراحل الصناعة وتقنياتها، قبل أن يقرّر الحفيد في العام 2020 الغوص في أغوار هذا الفن الذي أصبح نادرا في العالم بعد أن قلّ مدخنو الغليون.
وأصبح في سنّ 37 عاما يملك تصاميم خاصة به، وتلقى استحسان كثيرين، وأصبح الوحيد في تونس ومن بين قلّة في المنطقة الذين يحترفون هذه المهنة بالطريقة اليدوية، ليجعل منها ماركة عالمية مسجلة وميزة أخرى من مميزات المدينة التاريخية.
وبدأ أنيس التعامل مع زبائن من المحامين والسياسيين والأطباء ثم مع جامعين للغليون ودبلوماسيين “يرغبون بإهداء قطع أصلية”.
ويتميز خشب الخلنج بمقاومته للحرارة ولا يحتوي على أي طعم ما يتيح تذوق نكهات التبغ الصافية.
ويقول الحرفي وقد ظهرت نُدب على يده من آثار صقل الخشب “أشعر بفخر بأني صانع الغليون الوحيد في تونس، ولكن وبصراحة أحبذ لو كانت توجد منافسة لأنها تدفعني للتقدم أكثر”.
ويتابع “السوق كلّه لي، وأشعر بثقل المسؤولية لأني الوحيد لكي أمرّر المشعل لشخص آخر”.
ويعمل مع أنيس حرفيان وأمامه طلبات لا تنتهي للتجهيز، ويقول “كل غليون أنجزه يباع” لأن كل غليون يتميز عن الآخر في التصميم.
ويقضي أنيس معظم الوقت في ورشته في ساحة منزل العائلة، حيث يستلهم التصاميم التي ينفذها لاحقا.
ويقول “ينتابني إحساس بالرجوع إلى الوراء أمام هذه الآلات القديمة ومهمة المحافظة على طريقة الصناعة التقليدية للغلايين مثلما كان يفعل أبي وجدّي في السابق”.
وفي تقديره “هي ورشة ومتحف وبداخلها روح”، لدرجة أنه يكتفي بعمليات التنظيف الضرورية في المكان ويترك للعناكب مجالا لبناء بيوتها على الآلات.
ويبدأ العمل باختيار قطعة من الخشب داخل الورشة التي يطلق عليها تسمية “مغارة علي بابا”، وهي عبارة عن غرفة أرضية وتحتوي على كنز العائلة من قطع صغيرة من خشب الخلنج مجففة منذ قرابة العشرين عاما.
ويكشف أنيس أنه يملك “كميات تكفي للعمل طوال السنوات العشر المقبلة” بوتيرة لا تتجاوز صناعة غليونين كل يوم.
ويقطع خشب الخلنج في البداية ثمّ يغلى في الماء لمدة 12 ساعة ليُجفّف من أربعة أعوام إلى عشرين عاما، وكلما طالت سنوات التجفيف تحسنت نوعية الخشب.
ويفضّل أنيس القيام بكل مراحل الصناعة من تقطيع وتشكيل وتجويد للقطع يدويا، ويقول “باستطاعتي العمل بآلات حديثة وذلك يسهل المهمة، ولكن أفضل مواصلة العمل يدويا لأنني أجد فيه سعادة”.
ويواجه قطاع الصناعات التقليدية في تونس تبعات وخيمة بسبب وباء كورونا واضمحلال السياحة في البلاد، لكن أنيس يقدم بديلا يعوض الصورة النمطية للسياحة في البلاد والتي تختزل بصورة “جمل ونخيل وسجاد”.
ويذكر أن مدينة طبرقة اشتهرت أيضا بصناعة الحلي من المرجان التي أصبحت مهددة بسبب نقص المادة الأولية ما تسببت في غلق العديد من المتاجر المختصة في تصنيع “الذهب الأحمر”.
مغارة علي بابا الورشة الوحيدة لصناعة الغليون في طبرقة!!
14.02.2021