الرباط ـ : وجدة، حيث تجد نفسك محاطا برحابة الأرض المنبسطة الممدودة أمامك، وحيث وجد سليمان الشماخ سيء الذكر مختبئا في إحدى مناطقها الخالية، عقب اغتياله لأول ملوك الدولة الإدريسية ومؤسسها، المولى إدريس الأول، بعد أن دس له السم. تلك حكاية التسمية حسب بعض الروايات التاريخية، فحيث وجد الشماخ كانت تسمية وجدة.
مسألة الاسم تحمل أكثر من تأويل، فقد اختلف حولها الرواة والمؤرخون، لكن لا أحد يختلف في أمر واحد، أن وجدة مدينة المساجد بامتياز، وعددها حسب آخر إحصاء رسمي 400 مسجد، وهي بذلك رقم واحد مقارنة مع باقي مدن المغرب وبالنظر إلى تعدادها السكاني.
لكن ترتيبها ليس على مستوى المغرب فقط، بل جاء في موسوعات أخرى أنها الثانية عالميا من حيث عدد المساجد بعد مدينة إسطنبول التركية. هذا المعطى يمنحك بطاقة المرور إلى هوية المدينة المحافظة، إذ يتميز سكانها بالصرامة، وهي الصفة التي يعرف بها كل وجدي ـ نسبة إلى وجدة ـ في المغرب بأسره. هذه الصرامة مردها غالبا ـ كما يقول العارفون ـ إلى صدقهم والتزامهم في يومياتهم بالمعقول؛ وهو المصطلح المغربي الذي يحيل على أن صاحب هذه الصفة إنسان منضبط في معاملاته وفي سلوكه أيضا.
لن نفوت فرصة الحديث عن المساجد دون أن نذكر أشهرها، ومنها المسجد الأعظم، ومسجد حدادة، ومسجد الغريبة ومسجد محمد السادس الذي دشنه العاهل المغربي محمد السادس سنة 2012 وهو عبارة عن تحفة فنية جمعت جمال النقش والزخرفة وبهاء العمارة الإسلامية التي تتميز بها مساجد المدينة. وفي مجال التصوف، توجد في وجدة زاوية مولاي عبد القادر الجيلاني، وزاوية سيدي أحمد التيجاني.
قبل مغادرة مقام الروحانيات، وجب ذكر أحد الأضرحة الشهيرة بمدينة وجدة وهو ضريح سيدي يحيى بن يونس، الذي تأتيه الزيارات والوفود من الديانات السماوية الثلاث، يتقاسم بركاته المسلمون واليهود وكذلك النصارى، لسبب بسيط جدا، كونه مرقد ولي صالح قيل إنه هاجر من قشتالة إلى وجدة حيث عاش ودفن، لكن الأكثر إثارة في موضوع هذا الولي الصالح أن يكون جثمانه أو أجزاء منه تعود للقديس يوحنا المعمدان أي النبي يحيى بن زكريا، وفق روايات تاريخية وشعبية متداولة على نطاق واسع.
ولا عجب في أن نجد بمدينة وجدة حضورا لديانات أخرى، إذ يرتبط اليهود المغاربة هناك بعدد من البيع، نذكر منها بيعة أولاد ابن درعي، وبيعة أولاد يشو، وبيعة الهبرة، ويكتمل ثالوث الديانات السماوية بحضور المسيحية من كنسية سان لويس التي يعود تاريخ بنائها إلى 100 عام خلت واقترنت بفترة الاستعمار الفرنسي.
قد يفسر البعض الحديث عن كثرة المساجد، بكون المدينة عبارة عن مسجد كبير تمارس فيه الشعائر الدينية فقط، لكن ذلك خطأ، فحظ أهل وجدة من الإبداع والفن والموسيقى والرياضة مثل حظ جميع المغاربة، ففي وجدة انتعش فن «الراي» بصنفيه الأصيل والحديث، وبرز منهم نجوم اكتسحوا المشهد الفني المغربي، من بينهم على سبيل المثال الراحل الشاب ميمون الوجدي، والإخوان بوشناق حيث يواصل شقيقهم حميد حضوره، وحاليا ما زال نجم الدوزي يلمع في سماء الأغنية الشبابية على الصعيد العالمي.
أما في صنف التراث الأصيل، فيكفي أن نذكر العلاوي أو «الركادة» لنغوص في شكل فرجوي موسيقي غاية في الأناقة، حيث النخوة في رقص شبيه بالاحتفال بنصر ما، وتلك الحركات بالأكتاف واللعب بالسلاح سواء بندقية أو سيف، وفي ذلك نجد تشابها مع بعض الرقصات التراثية الأخرى في المغرب
هذه المدينة، إذنْ، نجمة فنية بامتياز، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال: مهرجان الراي الذي يكون قبلة عشاق هذا النمط الغنائي المتميز حيث يلقب كل نجومه بالشباب، حتى بعد أن تجاوزوا العقد الخامس وربما السادس وأكثر. ولن ننسى مهرجان وجدة للسينما المغاربية الذي صار من بين المحطات السينمائية الأساسية في المغرب، هذا المهرجان الذي يحظى برعاية العاهل المغربي محمد السادس، تنظمه جمعية «سيني مغرب» واختتمت مؤخرا دورته الحادية عشرة التي حملت شعار «الصورة والخيال في السينما» وجرت فعالياتها من 07 إلى 12 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري بمسرح محمد السادس.
ملامح مدينة الألفية
من ألقاب وجدة انها مدينة الألفية، كما كانت على مدار عام 2018 عاصمة للثقافة العربية وتحولت إلى قبلة لمثقفي ومبدعي الوطن العربي لحضور فعاليات نظمت لهذا الغرض.
هذه المدينة الواقعة شرق المغرب على الحدود مع الجزائر، المتداول ان تأسيسها كان على يد زيري بن عطية المغراوي الأمازيغي عام 944 ميلادية، لكنّ هناك رأيا آخر يقول عكس ذلك ويستشهد بواقعة مقتل الجرير بن الشماخ عام 793 ميلادية، وكان ذلك في وجدة، يعني فرق 202 سنوات قبل تأسيس المدينة.
دائما يبقى التاريخ ميدانا لأهله، لذلك نلتزم بما ظهر وعرف من تاريخ المدينة وبجولة في رحابها، وقبل ذلك نشير إلى سمتها الأساسية التي عرفت بها على مر عقود، وهي كونها ساحة وغى بين كر وفر حيث شهدت عدة حروب في عهد الأمازيغ والعرب والأتراك، هؤلاء الذين كانوا يحتلون الجزائر وحاولوا مرارا السيطرة على المغرب من خلال بوابة وجدة، لكن سرعان ما كان ملوك المغرب يسترجعونها.
وجدة وإن كان اسم الرياح الشديدة والساخنة يسمى في المغرب بالريح الشرقي، إلا ان طقسها لطيف ورطب في مختلف شهور السنة، كما يتحول إلى بارد خاصة في فصل الشتاء وفي أسابيع معدودة، لكن حرارتها مفرطة في الصيف.
والأهم انها بساط ممتد لا شيء يحجب النظر، حتى بناياتها تغيب عنها تلك الشاهقة التي تحجب السماء، فبين أرض وجدة وسمائها مسافة تأمل واسترخاء وهو ما يجعلها قبلة للسياح ليس لمآثرها بل لفضائها الرحب والمفتوح وذلك الإحساس بالراحة النفسية.
فمن بين أهم ما يميز المدينة: الباب الغربي، الذي عرف قديما باسم سيدي عيسى، وهو باب المدينة العتيقة من جهة الغرب، وكان موضوع ورشة ترميم في إطار برنامج رد الاعتبار للتراث الحضاري والثقافي للمدينة القديمة في وجدة.
إلى باب سيدي عبد الوهاب، الذي له بصمته القادمة من التاريخ وهو أقدم الأبواب تشييدا، واسمه إحالة على الولي الصالح سيدي عبد الوهاب، أحد أعلام وجدة، وضريحه يوجد داخل أسوار المدينة العتيقة.
من الأبواب نمر إلى دار السبتي، معلمة من معالم المدينة، وتحكي ماضي البورجوازية المغربية خاصة في عهد الاستعمار، واليوم هي في ملكية الجماعة الحضرية (البلدية) وتحتضن بين الفينة والأخرى بعض الأنشطة الثقافية أو الفنية، لكنها في فصل الصيف تصبح محجا للعرسان الجدد الذين يفضلونها كفضاء يحتضن ليلة عرسهم.
أما ساحة 16 غشت، فهي قلب المدينة ومقرها يجاور مقر بلدية وجدة، إنها الفضاء الذي يحج إليه أهل وجدة لجولة مسائية يتنفسون فيها هواء الاسترخاء، وميزتها في موقعها وسط شارع محمد الخامس.
وتشير المراجع التاريخية إلى أن وجدة كان لها مكان مميز في عهد المرينيين، وبقيت في أوجها إلى اليوم كإحدى حواضر المغرب اللامعة صيتا وحضورا، كما أنها كانت حصنا للمقاومة الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي، بل دعمتها بالمال والسلاح على عهد الأمير عبد القادر. وفي هذا السياق نذكر، أن وجدة احتضنت الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين الذي اتخذها خلال حرب التحرير قاعدة خلفية لمساندة الثورة، كما قضى فيها الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة فترة مهمة من طفولته وحياته السياسية.
ومن الأحداث التي بصمت تاريخ وجدة، ما وقع خلال الحرب العالمية الثانية، عندما نزل بها الجيش الخامس الأمريكي بقيادة الجنرال جون باتون.
جولة في العمران
يبقى اللافت جدا في مدينة وجدة انها ترفض العلو في البنايات، معظمها يتوحد في الارتفاع، لكنها تختلف بين نمط عمران إسلامي نجده في المساجد وبين العمارة الأصيلة والمتجسدة في المدينة العتيقة، أما الشوارع الحديثة فحدث ولا حرج، وكما ذُكر آنفًا تبقى ساحة «16 غشت» التي توجد في قلب شارع محمد الخامس مزارا يوميا للساكنة التي تبحث عن قليل من الترويح عن النفس في فضاء منعش.
بعيدا عن الحداثة وقريبا من الأصالة، تكون وجدة واحدة من بين مدن المغرب الأصيلة، ومدينتها العتيقة شبيهة بما يوجد في باقي مدن المملكة، الشكل العريق والبناء التقليدي، وقد جرى ترميم عدد منها في إطار المحافظة على الذاكرة الثقافية والحضارية لمدينة الألفية.
الازقة الضيقة نفسها التي تجدها في فاس والرباط وسلا وباقي المدن القديمة المغربية، تجدها في وجدة حيث من الصعب على الزائر الطارئ أن يتبين طريق الخروج في حالة شروده وسط منعطفاتها.
تلك الأبواب التي تحكي العراقة، لها نمط خاص بعضها من الخشب وبعضها تعلوه أقواس، هي قصبة لها عدة أبواب وداخلها عالم مليء بالحركة والحياة الغنية والتي تزاوج بين المنتج الأصيل المتمثل في الصناعة التقليدية والدكاكين التي تبيع بضاعة حديثة، وتلك «القيسارية» وهي الصنو التقليدي لـ «المول» في صيغته الحديثة، تجد بها صاغة المجوهرات ومحلات الملابس وكل ما يمكن لنفس ان تشتهيه وتطلبه.<
ولا تنسى وجدة نصيبها من الحداثة، ونمر خفافا على أحد أحيائها وهو القدس حيث الفيلات، أما باقي الأحياء الجديدة فيتجاور فيها المنزل العادي في نمطه إلى جانب المنزل الفخم، لكن ذلك لا يخلق أي تنافر لدى العين، فهناك تناغم وانسجام يحيل دائما على الانشراح والاسترخاء.
*كتب عبد العزيز بنعبو**..المصدر القدس العربي
متمسكة بالعراقة ولا تنسى نصيبها من الحداثة: وجدة المغربية مدينة المساجد وعاشقة الفن!!
23.10.2022