
كتب نايف زيداني...تزامناً مع ذكرى يوم الأرض الـ49 الخالد، التي تحل اليوم الأحد، يشعر الكثيرون من فلسطينيي الداخل أنهم يعيشون "حرباً وجودية" على بقائهم في بلادهم، وأنهم مهددون بتهجير فعلي، على وقع الممارسات الإسرائيلية ضدهم، من ملاحقات سياسية واعتقالات وأحكام قضائية جائرة وترهيب وتمييز وعنصرية، فضلاً عن تضييق الخناق على حرية التعبير، والتضييق عليهم في قضايا الأرض والمسكن، وهدم قرى كاملة وتهجير أهلها في النقب. ممارسات إسرائيلية اشتدت أكثر منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ويرافقها ما يبدو أنه نسخة تهجير قسري إسرائيلية خاصة بفلسطينيي 1948، أشبه بخطة "الهجرة الطوعية" التي تروّج لها دولة الاحتلال في قطاع غزة هناك، من خلال دفع الناس إلى الهجرة على وقع الإبادة والتجويع والتدمير الكامل، وفي الداخل من خلال الملاحقات، وهدم البيوت، ومصادرة ما تبقّى من أراضٍ، وإطلاق العنان للعنف والجريمة في المجتمع العربي، وفوضى السلاح، وتعزيز المشاكل الاجتماعية وتعميق الفجوات الاقتصادية، واستهداف الحقوق والوعي الوطني، فضلاً عن محاولات تشويه الهوية الجماعية.
ظروف يوم الأرض في العام الحالي
قد تكون هذه الظروف أسوأ من تلك التي سادت في عام 1976، حين انتفض فلسطينيو الداخل في يوم الأرض في وجه سياسات مصادرة الأراضي والاقتلاع والتهويد التي اتبعتها المؤسسة الإسرائيلية، ما أوقع ستة شهداء، هم خير ياسين (23 عاماً) من عرابة البطوف، ورجا أبو ريا (23 عاماً)، وخضر خلايلة (27 عاماً)، وخديجة شواهنة (23 عاماً) من سخنين، ومحسن طه (15 عاماً) من كفركنا، ورأفت علي زهيري (19 عاماً) من نور شمس. كان لافتاً المشهد البوليسي الحاضر في النشاطات التي دعت إليها لجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل لمناسبة يوم الأرض أمس الأول الجمعة. تفتيش للحافلات المتوجّهة إلى المسيرة المركزية في مدينة عرابة البطوف، ومصادرة العلم الفلسطيني. هذا عدا عن انتشار قوات حرس الحدود داخل المدينة ومرافقتها المسيرة، في مشهد استفزازي، هو أحد مشاهد المرحلة.هذا ما أكده أيضاً رئيس التجمع الوطني الديمقراطي، سامي أبو شحادة، الذي قال لـ"العربي الجديد" إن "التضييق والملاحقة السياسية هما من سمات هذه المرحلة منذ بداية الحرب والعدوان على أهلنا في غزة. والبعض نسي أن (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو أعلن أن الداخل الفلسطيني جبهة رابعة للحرب، أي أنه أعلنها علينا نحن المواطنين. هذه العقلية العنصرية والسياسة الفاشية، تبنّتها مباشرةً كل وزارات الدولة. ومنذ بداية الحرب، حتى الهامش الضيق أصلاً الذي كان موجوداً في العمل السياسي، تعمل الدولة على شطبه تماماً". وحول منع رفع العلم الفلسطيني وتهديد المشاركين بمسيرة يوم الأرض، أشار أبو شحادة إلى "تناقضات في رواية الشرطة، فهي تريد ألا نرفع أعلام دولة معادية، وفعلياً نحن لا نفعل ذلك. بحسب القانون الإسرائيلي، العلم الفلسطيني لا يتبع لدولة معادية. هم يقومون بأمور غير قانونية حتى بموجب القانون الإسرائيلي، وباعتقادي وجود عناصر الشرطة بين المتظاهرين كان بهدف الاستفزاز من أجل تفجير المظاهرة والاعتداء على المتظاهرين، لكي يمنعوا أصلاً أي حركة سياسي، اليوم أو في المستقبل".
لا تتعلق هذه التضييقات بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وحده، فهو جزء من منظومة إسرائيلية أوسع. ورأى أبو شحادة أنه "لو كانت القضية بن غفير، لكان هناك تيار سياسي آخر يعمل على حماية الحريات، وتوسيع الهامش الديمقراطي، وعدم إقصاء الفلسطينيين، وعدم الهجوم والتحريض علينا. للأسف، الدولة بمؤسساتها، بقيادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أعلنت علينا الحرب منذ بداية هذه الحرب، وما زالت تتعامل معنا أعداءً، لا مواطنين. لو كان بن غفير مثلاً مسيطراً على الشرطة، فماذا عن ملاحقة طلاب الجامعات؟ وملاحقة الأطباء في القطاع الصحي؟ ماذا عن ملاحقة المعلّمين في سلك التربية والتعليم؟ ماذا عن التحريض اليوم من قبل الصحافيين والإعلاميين الإسرائيليين ضدنا؟ هناك للأسف هجمة حقيقية علينا".
الخطر الوجودي والتهجير
ولفت أبو شحادة إلى مبادرة التجمع الوطني الديمقراطي في الآونة الأخيرة: "بسبب خطورة المرحلة وعلى إثر قراءتنا بأننا في خطر وجودي، ونرى حتى في استطلاعات الرأي أغلبية يهودية ساحقة مع التهجير، ولأن الوضع لا يتعلق فقط بالملاحقة، أو تقليص الحريات، أو تضييق الحيز الديمقراطي، قدّمنا مبادرة الحوار الوطني والمجتمعي، لكل الأحزاب والحركات السياسية (في الداخل). وسنتوجّه أيضاً إلى جمعيات العمل الأهلي وإلى الحركات الطلابية في الجامعات، على أساس فتح حوار جدي ووطني عميق لإعادة تنظيم العمل السياسي في الداخل. هذه المرحلة تحتاج إلى مسؤولية وطنية، وإلى بناء إجماع حول القاسم المشترك، والتصرّف كجماعة وليس فقط كأحزاب أو مجموعات صغيرة".وحول محاولات فصل فلسطينيي الداخل عن قضايا وهموم شعبهم، قال أبو شحادة: "في ذكرى يوم الأرض الخالد الـ49 الذي بدأ في الداخل الفلسطيني، وتحوّل إلى يوم وطني جامع لأبناء الشعب الفلسطيني كافة في كل مكان، شددنا في مسيرة عرابة على وحدة الشعب ووحدة القضية الفلسطينية. التمييز ضدنا لكوننا فلسطينيين، ومحاولة تهجير أهلنا في غزة لأنهم فلسطينيون، والتهجير الجاري في الضفة لأنهم فلسطينيون، ولأن هناك مشروعاً واحداً عنصرياً، هو المشروع الصهيوني، الذي ينظر إلينا على أننا أعداء، من منطلقات عنصرية، ويحاول الآن أن يحسم كل الملفات العالقة، من وجهة نظره، في القضية الفلسطينية. وهذا يشمل غزة، والضفة، والقدس، والداخل. هذه الملاحقات، وهدم البيوت، والتضييق علينا ومنع حرية التعبير، والتعذيب في السجون، وكل هذه الأمور، تأتي من الدولة نفسها والمؤسسة نفسها والسياسات نفسها، وهي تتعامل مع كل أبناء الشعب الفلسطيني كأعداء".
الممارسات الإسرائيلية ضد فلسطينيي 1948 أشبه بسياسة تهجير قسرية
من نقاط التحوّل في يوم الأرض الأول في 30 مارس 1976، كسر فلسطينيو الداخل "حالة الخوف التي كانت ساكنة فيهم منذ النكبة"، برأي حسن جبارين، المدير العام لمركز "عدالة" الحقوقي في الداخل. مع هذا، يبدو أن الملاحقات تزرع الخوف من جديد، أو على الأقل تترك فلسطينيي الداخل بلا حول ولا حيلة، وربما عودة إلى بعض ملامح ما قبل 1976. وأعرب جبارين في حديث لـ"العربي الجديد" عن اعتقاده بأن "ثمة اختلافات جذرية بين مرحلة ذكرى يوم الأرض الـ49 وما سبقها. في السابق مثلاً، كانت مصادرة الأراضي تحت غطاء المصلحة العامة للجمهور، أي مصادرة أرض من أجل إنشاء مرافق اجتماعية واقتصادية. مع أن هذه ادعاءات كاذبة كانت تهدف إلى سلب الأراضي، ولكن على الأقل كان هذا الادّعاء. اليوم نواجه أصعب بكثير من مسألة سلب الأراضي. في ظل حرب الإبادة في غزة، نشاهد اليوم هدم منازل ومؤسسات وإبادتها في القطاع. هذا الشيء استمر في المخيمات في الضفة الغربية (المحتلة)، وهناك إبادة للمخيمات".
مبررات انتقامية لجيش الاحتلال
وتابع جبارين: "في السابق لم يجرؤ الجيش الإسرائيلي على أن يقوم بخطوات من هذا النوع دون أن تكون لديه مبررات أمنية، على الأقل من وجهة نظره، رغم أن ادعاءاته غير صادقة. اليوم يقوم بذلك تحت مبررات انتقامية. ونحن هنا في الداخل، نواجه سياسة مشابهة لم نواجهها في السابق. إذا كان لدينا سلب أراضٍ فردية، فاليوم نتعرض لهدم قرى كاملة. إذا كان في السابق قد جرى تهجير القرى من مناطق مثل الشمال لادعاءات أمنية، فإن التهجير في الجنوب يجري اليوم لأسباب عنصرية، وهدم القرى من أجل إقامة بلدات يهودية. هذا حدث في قرية أم الحيران (في النقب)، ويحدث اليوم في قرية راس جرابة، الموجودة منذ عشرات السنين في محيط مدينة ديمونا، والآن قررت بلدية ديمونا إقامة حيّ في المنطقة. وبدل أن يكون أهل راس جرابة جزءاً من هذا الحي، تخطط المؤسسة الإسرائيلية لهدم القرية ونقل السكان إلى منطقة بدوية".
يكمن احتياطي الأرض الأكبر بالنسبة إلى فلسطينيي الداخل في منطقة النقب، حيث تبلغ مخططات الهدم والمصادرة والتهجير ذروتها. أما في المثلث والجليل، فقال جبارين إن "سياسة هدم البيوت مستمرة. قد تسألني أين الأرض؟ في السابق كنا نعاني من سلب الأراضي، والآن تحوّلت المسألة في الشمال والمثلث إلى هدم البيوت، لأن الأرض سُلبت في هذه المناطق، وانتهى مشروع السلب بحيث لا توجد إمكانية لسلب أراضٍ أخرى، وباتت البلدات العربية بحاجة إلى الأراضي أكثر من البلدات اليهودية. هدف الهدم، عدم إعطاء إمكانية لتوسّع البلدات بما يتماشى مع الزيادة الطبيعية للسكان. لذلك نحن في أصعب ذكرى منذ يوم الأرض 1976".
ورداً على ما إذا كان ما يحدث في الداخل أشبه بتهجير فعلي وقسري، على غرار ما يحدث في غزة، تحت ما يسميه الاحتلال "الهجرة الطوعية"، وكأن هذه الهجرة لا علاقة لها بالإبادة والتدمير، وافق جبارين على وجه الشبه. وساق مثالاً بقوله: "كانت لدينا في الأسبوع الحالي جلسة في المحكمة ضد تهجير راس جرابة. حاولت المحكمة أن تتمحور في مسألة إن كان لدى السكان مكان بديل، والدولة حاولت القول إنه لا يوجد سكن بديل. يعني المحكمة قالت ما معناه: إذا أردتم هدم البيوت، فلا تتركوا الناس في الشارع. هذا نفسه مبدأ ما يُسمى زوراً بالتهجير الطوعي في غزة. يُعرض على أهل غزة الهجرة عندما يكون لديهم مكان بديل، كالقول لهم مثلاً: اذهبوا إلى مصر أو الأردن أو إلى دولة أوروبية لديها استعداد لاستقبالكم. تهجير يلبس لباساً وكأنه طوعي، ولكنه طبعاً قسري". وتابع: "هذه سياسات جديدة. وكذلك استهداف مخيمات قائمة. وهذا ينعكس عندنا في الداخل من خلال تهجير قرى وهدمها سريعاً مع شرطة بن غفير، مثلما حدث في أم الحيران من أجل إسكان يهود والتصريح بذلك علناً". حول الملاحقات على خلفية حرية التعبير، أوضح جبارين: "نحن نواجه سياسات مثل هدم البيوت والقرى بواسطة احتجاجات. أو التعبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو الخروج في تظاهرات. وعندما نفعل ذلك، تحاول الشرطة تقديم لوائح اتهام، حتى بسبب استخدام شعارات. اليوم نحن في المحاكم نحاول الدفاع عن شعار، الشرطة عرضته وكأنه تحريض على الإرهاب، وهو شعار: المجد والخلود لشهداء شعبنا".
حسن جبارين: المجتمع المدني الإسرائيلي يلاحق طلابنا ومحامينا وجماهيرنا
حرب إسرائيلية على العلم الفلسطيني
وحول رفع العلم الفلسطيني، قال جبارين: "في السابق بعد اتفاقية أوسلو بات رفع العلم الفلسطيني ممكناً، ولكن شرطة بن غفير تقتحم التظاهرات وتُنزل العلم وتنفّذ اعتقالات. ويحاول الكنيست سنّ قوانين يفرض على الجامعات محاسبة الطلاب الذين يرفعون العلم في الحرم الجامعي، رغم أن رفعه مسموح في الحياة العامة". وأضاف: "نحن نواجه قمع شرطة بن غفير للتظاهرات، وتقديم لوائح اتهام اعتباطية، وملاحقة من يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي. والملاحقة لا تقتصر فقط على شرطة إسرائيل، بل لحقت بها نقابة المحامين الإسرائيليين، التي تقدّم فقط ضد محامين عرب لوائح اتهام تأديبية، أمام المحاكم التأديبية للنقابة، بحجة أن ما كتبوه تحريض للإرهاب. وهذا يمسّ بكرامة مهنة المحاماة. هذه الأمور لا تُقدّم ضد يهود. كذلك قدّمت الجامعات الإسرائيلية لوائح تأديبية ضد 160 طالباً عربياً منذ بداية الحرب. الجامعات الإسرائيلية كانت مكاناً للتعبير وحرية التعبير، في ذكرى النكبة وغيرها، ولكن بعد 7 أكتوبر نلاحظ ملاحقة الطلاب العرب، والتغاضي عن الطلاب اليهود الذين ينادون بالتحريض العنصري والدموي ويدعون إلى الإبادة".ولفت جبارين إلى أن "نقابة المحامين والجامعات قالت: نحن قررنا محاربة مسألة الإرهاب وليس التحريض العنصري، بمعنى آخر، نرى أن المجتمع المدني الإسرائيلي في أكبر مؤسستين لديه، نقابة المحامين والجامعات، يلاحقان طلابنا ومحامينا وجماهيرنا. كل هذا بدأ في السابع من أكتوبر، عندما أعلنت الشرطة تسليح المجتمع اليهودي في البلاد، بذريعة الدفاع عن نفسه من المجتمع الفلسطيني في البلاد. بمعنى آخر، فإن السلطات الإسرائيلية قالت للسكان اليهود في البلاد، إن جارك العربي هو عدو لك، ولذا عليك أن تتسلح. ومن هنا بدأ التحريض الدموي الذي لم يكن له مثيل، والذي نراه في سياسات القمع، وهدم البيوت، وهدم القرى في ذكرى يوم الأرض الـ49".
*المصدر : العربي الجديد
