أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41060
صحافة:ذي أتلانتك: تتار القرم المسلمون يدافعون عن أوكرانيا وطن الأوطان ويهدّدون حلم بوتين!!
18.05.2022

قال روري فينين، الأستاذ المشارك بالدراسات الأوكرانية في جامعة كامبريدج، ومؤلف كتاب “دماء الآخرين: مذبحة ستالين في القرم وشعرية التضامن”، في مقال نشرته مجلة “ذي أتلانتك” تحدث فيه عن التهديد الأكبر الذي يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سيطرته على شبه جزيرة القرم، وهم التتار المسلمون الذين طالما أسهموا بتشكيل شعور أوكرانيا بنفسها كدولة متعددة الإثنيات والطوائف ومتعددة اللغات.
ففي أيار/مايو 2020 وقف الكاتب الأوكراني سهري جادان أمام حشد من جنود المارينز الأوكرانيين في قاعدة عسكرية في ماريوبول، الميناء الذي يبعد تقريبا 40 ميلا عن الحدود الروسية، وكانت القوات تدافع عن خط القتال لمدة 6 أعوام ضد الجماعات الوكيلة عن روسيا في دونباس، وقد جاء لرفع معنويات المقاتلين، وإحياء مناسبة شعرية. وبثقة عالية ألقى مختارات من أشعاره التي كتبها بالأوكرانية، وكأنه يعرف المستمعين له منذ وقت طويل. وكانت قصيدته الأخيرة لليوم تشبه برقية عاجلة: “كيف سنبني بيوتنا؟ وأنت تقف تحت سماء الشتاء/ والسماوات تبعد وتتحرك بعيداً/وتفهم عندها أنك بحاجة لكي تعيش بدون خوف من الموت”.
وتصور قصيدة جادان التهديد الوجودي العميق الذي يواجه أوكرانيا اليوم. وهي تهمس بمعرفة عميقة عن الاحتلال الروسي، والذي حوّل الخوف من الموت إلى وحدة لقياس البعد عن البيت. ورغم إيقاعها المؤثر، فقصيدة جادان تستلهم من مجموعة محددة من مواطني أوكرانيا. وكما تحدث لعناصر البحرية في ماريوبول “كيف نبني بيوتنا” فهو ما فعله تتار القرم، السكان الأصليون لشبه الجزيرة في البحر الأسود.
ويرى الباحث أن فهم تتار القرم، هو مفتاح لفهم أوكرانيا الحديثة، بهويتها المدنية الوطنية النابضة بالحياة، والتي ربما كانت أقوى محرك للدفاع عن الديمقراطية الليبرالية اليوم. وعلق جادان مرة “طريقنا مع تتار القرم ضيق وطويل” و”لأنهم مواطنونا”. فهذه الأمة السنية الصغيرة المصممة تعمل، ومنذ عقود على تشكيل شعور أوكرانيا بالنفس والتقدم والحوار الدينامي حول الفكرة الدائمة عن أوكرانيا المتعددة الإثنيات والطوائف واللغات، فكرة أوكرانيا على أنها وطن الأوطان.
ويقول إن التاريخ الحديث لموطن تتار القرم هو واحد من دورات التشرد والطرد والمقاومة. ففي بداية الحقبة السوفييتية، بدا وكأن الدورة هدأت. وتم الاعتراف بتتار القرم على أنهم السكان الأصليون للجمهورية الاشتراكية السوفييتية المستقلة. فسياسات الاتحاد السوفييتي، التي أكدت على هوية التتار أو “تترة”، عزّزت مدارس تتار القرم، وموّلت المسارح ودور النشر، وقدّمت شبه الجزيرة بأنها “القرم التي كانت تترية، تترية”، كما كتب المؤلف السوفييتي ألكسندر سولجنيستين “حتى لو كانت الأبجدية بالعربية، وكل العلامات تتترية”. إلا أن هذه الأيام الحلوة انتهت مع احتلال النازية للقرم أثناء الحرب العالمية الثانية.
وقال الكاتب “في هذا الشهر نحيي ذكرى ما فعله ستالين بعد انسحاب القوات النازية من القرم في أيار/مايو 1944، فقد قام على مدى ثلاثة أيام بترحيل كل أمة التتار- كان عددها تقريبا 200.000 نسمة من أرضهم. ويتذكر التتار تشريدهم في لغتهم بـ “سيرغين” (المنفى)، وهي قصة تشريد وحشي وموت جماعي. فقد مات آلاف من المشردين في الطريق بسبب الظروف غير الإنسانية ونقص الطعام والماء، ومعاملة رجال ستالين “أن كي في دي” الشرسين. واختفى آلاف آخرون بسبب الجوع والمرض في “معسكرات التوطين الخاصة” في وسط آسيا وسيبيريا، وفي الأطراف البعيدة من الاتحاد السوفييتي حيث ظلوا هناك لنصف قرن تقريبا.
وبرر ستالين تشريده لتتار القرم بناء على اتهامات مزعومة بتعاونهم مع المحتلين النازيين. وهناك قلة من التتار تعاونت مع النازيين، مثل غيرهم من الروس والأوكرانيين، وحتى اليهود القرائين، إلا أن غالبية تتار القرم قاتلوا مع الجيش الأحمر، ومنح الآلاف منهم ميداليات من الدولة وأصبح ستة منهم أبطالا للاتحاد السوفييتي. وكان قرار ستالين لتشريد تتار القرم من بلادهم لا لأمر فعلوه، بل لشيء اعتقد أنهم قادرون عليه. ففي خياله المسكون بالرهاب، أدار فكرة حرب محتومة مع تركيا حول السيطرة على مضيقي البسفور والدردنيل، فالتتار مسلمون ومتحدثون باللغة التركية، وهم طابور خامس، وعليه يجب كسر شوكتهم عاجلا أم آجلا. إلا أن تشريد تتار القرم من وطنهم لم يكسر عزيمتهم، فقد قام الناجون من الترحيل بالرد على صدمة النزوح بأكبر حركة معارضة منظمة ودائمة لم يشهدها الاتحاد السوفييتي في تاريخه. وقام كفاحهم للعودة إلى القرم على مبادئ المقاومة السلمية ضد ظلم الدولة وقمعها، وتركت تأثيرا لا يمحى على البنية التحتية التنظيمية والتوجه الأخلاقي للمعارضة السوفييتية بشكل عام. وكان عالم الرياضيات السوفييتي الأوكراني ليونيد بلايوشتجه يحب القول “فهم تتار القرم دائماً الأمور غير المتاحة للمثقف السوفييتي العادي”. وكان لديهم حلفاء متشددون في أوكرانيتهم، وبخاصة في عالم الثقافة. ففي سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وبعدما تم نقل القرم من روسيا السوفييتية إلى أوكرانيا السوفييتية، وزع الشعراء المعارضون مثل مايكولا رودنكو وإيفان سكولسكي أشعاراً سرية عبروا فيها عن التضامن الشديد مع تتار القرم، ودعوا قراءهم التحرك ودعم قضيتهم. وحث سكولسكي الحضور مرة “تتار القرم يعانون في المنفى” و “اجعلوا العالم يعرف عن هذه الجريمة التي لا نهاية لها”. ونجح كتاب أوكرانيون، مثل رومان إيفانيتشوك، بالتحايل على الرقيب، ونشروا روايات قدمت تاريخ أوكرانيا من منظور تتري، وقلبوا الفكرة القائمة من أن القرم كانت جزءاً “قديماً” من روسيا. ووصف معاصر هذه الأعمال بأنها كانت بمثابة “الانفجار” في المجتمع الأوكراني السوفييتي.
وبعد عقود من العمل الدؤوب والتضحيات حصل التتار على حق العودة لوطنهم الأصلي في نهاية حقبة ميخائيل غورباتشوف. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي بعد سنوات في عام 1991، أصبح للتضامن مع تتار القرم، الذي دعمه كتاب مثل رودينكو وسكولسكي وإيفانيتشوك، معنى سياسيا جديدا، وأصبح تتار القرم من أشد الداعمين للدولة الأوكرانية التي استقلت حديثا. وأطلق عليهم بشكل دائم “الأوكرانيون العظماء في القرم”. وكما وضح الشاعر التتري القرمي صمد شكور في عام 1993 “أيها الأوكراني، أخي وقريبي، ولحريتك أنا جاهز للموت”.
لكن ضم روسيا لأوكرانيا عام 2014 غيّر كل شيء. وتعرّض الناشطون المرتبطون بتتار القرم ومنظمات المجتمع المدني للاعتقال والاحتجاز والطرد على يد السلطات الروسية. ودفعت طبيعة هذه الهجمات على الحريات المدنية جماعة حقوق إنسان في القرم لإعداد “موسوعة الاضطهاد” ومن عدة أجزاء. ومنعت مناسبات إحياء التهجير التي قام بها ستالين في عام 1944، وهرب عشرات الآلاف من تتار القرم إلى أوكرانيا. ومنع الزعيم الأسطوري لتتار القرم مصطفى دجميلي، الذي أضرب عن الطعام لمدة 303 يوما في واحد من غولاغ الشيوعية في السبعينات من القرن الماضي، من دخول القرم. وعانى آخرون، مثل الناشط السياسي علمي عميروف، والذي قال للمخابرات الفدرالية الروسية (أف أس بي) في عام 2016 “لا أعتقد أن القرم هي جزء من الفدرالية الروسية”، معاملة سيئة، وأجبر على دخول مستشفى للأمراض العقلية. وأدى تحديهم المستمر للعنف الروسي بصانع الأفلام والسجين السياسي السابق أوليغ سينتسوف للقول أن تتار القرم هم “أعظم تهديد” لتحكّم بوتين بالقرم. ومع ضم القرم وغزو دونباس، بدأ الأوكرانيون والتتار بالتضامن مع بعضهم البعض والبحث الملح عن أمن لهم. ودعمت غالبية الأوكرانيين تعديلا للدستور يعترف “باستقلالية الحدود الوطنية” لتتار القرم، مما يعطيهم وضع السيادة على وطنهم. وفي الوقت نفسه شكّل التتار كتائب متطوعين لدعم كييف في حربها ضد العدوان الروسي على دونباس. ففي الأدب والفن بحث الفنانون الأوكرانيون وتتار القرم عن وطن، هو بمثابة الجسد والملجأ. وتقول الكاتبة كاترينا ميشتشنكو “في الوعي الجمعي الأوكراني” فـ “القرم هي جرح وصدمة اندلاع الحرب، وطن مفقود”.
وفي أول أفلامها عام 2019 “باتجاه الوطن” قدمت المخرجة ناريمان علييف نفس المشاعر بشأن وطن أوكرانيا الواحد. ويدور الفيلم، الذي حظي بجائزة تقدير في مهرجان كان، حول تتري من القرم اسمه مصطفى يرحل عبر أوكرانيا إلى القرم من أجل أن يعيد جثمان ابنه ناظم، الذي ابتعد عن الوطن ويدفنه. فقبل سنوات، غادر ناظم وطنه القرم إلى أوكرانيا وشعر بواجب الدفاع عنها ضد الجماعات الوكيلة عن روسيا في دونباس. ويرافق مصطفى ابنه الثاني عالم، وإن متردداً، فهو مثل ناظم، وجد وطناً في أوكرانيا بعيدا عن الوطن الأم. وفي لحظة يعلن عالم لوالده أنه لا يريد العودة إلى القرم والعيش في ظل الاحتلال الروسي. ويرى مستقبله في كييف التي يدرس فيها الصحافة. ويدعوه والده للتخلي عن خططه ويقول باستغراب “لا شيء لك هناك للعودة (إلى كييف)، هل تخيلت ما مر بناء للعودة إلى القرم؟” ورد عالم “من يهتم بالقرم؟ لا حياة هناك ولن تكون هناك حياة”. وهذا الجدل بين الأب والابن عميق وكاشف، يظهر التباين في المفاهيم حول الوطن والتقاليد بين الأجيال المختلفة. فوطن مصطفى هو القرم، أما عالم وناظم فهو القرم في أوكرانيا.
ففي جوهر الثقافة الأوكرانية المعاصرة استكشاف لما يعني أن تكون أوكرانياً وتتارياً من القرم وأن تكون في وطن جامع بشكل لا يمكن فيه التعامل مع الوطن كأمر واقع. وبنظرة خاطفة للانعكاسات المتطورة لثقافة التضامن بين الأوكرانيين وتتار القرم فإنها تكشف عن صورة مذهلة للدروس المحتملة، التي يمكن لليبرالية الأوروبية والإسلام المعولم تعلّمها. فهي صورة عن سكان مسلمين سنة وأصليين في القرم يساعدون في تشكيل هوية بلد وصفه المؤرخ الألماني كارل شولغيل “أوروبا مصغرة”.
وربما خسرت أوكرانيا السيطرة على القرم في المدى القصير، لكنها لم تخسر السيطرة على نفسها، والفضل يعود للمسلمين التتار في القرم. وكما فعل سهري جادان في ماريوبول بأيار/مايو 2016 حيث قدم لجنود المارينز حس السيطرة وقصيدته “كيف نبني بيتنا” تدعو لأساليب الدفاع، وتقوّي مستمعيه لوضع “حجر فوق حجر” ووقف المعتدي، “ابن الجدران من القصب والأعشاب، احفر حفرا وخنادق الثعالب، تعود للعيش مع الجيران يوماً بعد يوم، وطنك هو المكان الذي يفهمونك وعندما تتحدث إليه في نومك”.
ويقاتل الأوكرانيون وتتار القرم اليوم في معركة ضد غزو روسي شامل من أجل أن يكون لهم وطن واحد، ويتحدثون بعضهم إلى بعض في أحلامهم عن أوكرانيا حرة، وطن الأوطان.