ليس سرّاً أن الإدارة الأميركية تضغط نحو توقيع اتفاق لبناني - إسرائيلي لـ"ترسيم الحدود" وحقوق استخراج الغاز الطبيعي في حقل كاريش، وهي تسميته بالعبرية، أي القرش، في أقرب وقت ممكن لبدء ضخ الغاز "الإسرائيلي" في مواجهة الغاز الطبيعي الروسي، الذي أصبح "سلاحاً في الحرب الكونية"، الدائرة على أرض أوكرانيا بين واشنطن وموسكو.
ليس الموقف الأميركي تغييراً في استراتيجية الطاقة وتوظيفها لتثبيت هيمنتها الدولية، فسعي أميركا لجعل إسرائيل مصدراً رئيساً في مواجهة مصدّري الغاز المطلوب تقويض نفوذهم (إيران وروسيا، وإلى أمد قريب: تركيا)، كان ولا يزال هدفاً أميركياً معلناً. وعليه، ضغطت الولايات المتحدة على الأردن لتوقيع اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني، وعملت على إنشاء منتدى المتوسط في مصر عام 2020، لكن الأوان آن للتسريع .. اتفاق "ترسيم الحدود" بين لبنان وإسرائيل، فلا مجال بالنسبة إلى واشنطن لتلكؤ لبنان بتوقيع الاتفاق، وقد دخلت المفاوضات بين الطرفين عامها الخامس.
للقصة أبعاد سياسية عديدة ومترابطة، فتسليم لبنان بأن حقل كاريش يقع ضمن الأراضي الإسرائيلية لا يعني فقط بدء ضخّ الغاز وتصديره إلى أوروبا فحسب، وإنما الدفع لبدء عملية تطبيع على الأرض، وتخلي لبنان عن مورد طبيعي، هو في أمسّ الحاجة إليه، والتسليم بالسيادة على أراضٍ لبنانية لإسرائيل، فلا يهم إذا اعتبر لبنان رسمياً إسرائيل عدواً، بل المهم أن يتخلى لبنان عن سيادته عن حدوده المائية وثرواته، ما يفتح باب التنازلات السياسية تنفيذاً لشروط أميركية تخدم دمج إسرائيل في المنطقة وتُضعِف النفوذ الإيراني فيها.
لم تسمح واشنطن للأمم المتحدة بالوساطة، أو التحكيم، ولا للبنان بالإصرار على دور الأمم المتحدة، وهذا تقصيرٌ وضعفٌ من لبنان الرسمي، لكن الإدارة الأميركية مستعجلة أولاً، وهي لا ولم تحترم سيادة لبنان على أيٍّ من أراضيها، حتى عندما كانت إسرائيل تحتلّ الجنوب، لكنها في الوقت نفسه، "ضغطت" على إسرائيل، لأن تقبل أن يشمل الاتفاق القبول بلبنانية حقل قانا، وإن كان هناك تشكيك في وجود حقل للغاز في قانا. ولكن قانا تبقى أرضاً لبنانية، وهي الجزرة التي يمدّها المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين إلى الدولة اللبنانية، وإنْ كانت مقايضة مزيفة، فقبول لبنان بهذه الصيغة يعني التخلّي عن سيادته على جزءٍ من امتداده المائي في البحر الأبيض المتوسط.
في الماضي القريب، حاول لبنان التمسّك بأن حقوق الغاز التي تريدها إسرائيل تقع ضمن الخط الـ29، كما صنّفته الأمم المتحدة، ثم علمياً جرى التخلي عن ذلك. ويجري الدفع باتفاقيةٍ تتنازل فيها عن أراضيها وامتدادها البحري مقابل عودة جزءٍ من أراضيها وامتدادها البحري، تحت مسمّى تنازل إسرائيلي تقدّمه إسرائيل للبنان، في عملية ابتزاز معلنة لحاجة لبنان للطاقة والكهرباء، فطوّافة الإنتاج التي تسيّرها شركة "إنيرجيان" جاهزة، وكانت جاهزة لضخ الغاز منذ سبتمبر/ أيلول العام الماضي، لولا تعثر الاتفاق، الذي يطلق عليه جزافاً "ترسيم الحدود" كلها تقع ضمن السيادة اللبنانية.
وفيما كانت الدول العربية بشقها الرسمي تتسابق من أجل التطبيع مع إسرائيل أو نائمة، كانت كل من واشنطن وتل أبيب تروّجان لأهمية السيطرة الإسرائيلية على حقول الغاز داخل الكونغرس الأميركي، وعالمياً تحت شعارات متعدّدة، منها مكافحة الإرهاب (حزب الله وإيران)، شاركتها في ذلك دول أوروبية، أبرزها فرنسا، "حامية لبنان"، مُستغلة الحرب في أوكرانيا والخوف الأوروبي أخيراً من التهديدات الروسية وقطع إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا، التي أعطت أميركا وإسرائيل دفعة وزخماً جديداً للضغط من أجل تحقيق صيغة تفاهم مع لبنان، يبدو أنها على وشك التحقق. لكن كل شيء جائز، ويمكن أن يتأخر الاتفاق، وإن كان صبر واشنطن نفد، فقبل فترة وجيزة كان الحديث عن أيام وشيكة باقية لتوقيع الاتفاق، لكن إسرائيل لم تكن مستعدة لمقايضة قانا اللبنانية بحقل كاريش "اللبناني"، فمن وجهة نظرها "لا توجد سيادة غير سيادتها"، غير أن واشنطن لم تعد تقبل التأجيل أو تحتمله، مع أن اقتراح مقايضة قانا بحقل كاريش ليس جديداً.
تقول مصادر إسرائيلية، وفقاً لصحيفة جيروسالم بوست، إن تهديدات حزب الله أدّت إلى موافقة إسرائيل على صيغة المقايضة، فواشنطن تريد الاتفاق في أسرع وقت، وإنْ كانت تريد تقويض حزب الله، لكنها تحتاج لبدء ضخ الغاز "الإسرائيلي"، لذا طالبت إسرائيل بقبول المقايضة. ولكن لا مقايضة، وإنْ كانت مقايضة كاذبة، فإسرائيل لا تتنازل عما تعتقد أنه ملكها من دون شروط، والمطلوب تعويض تقدّمه شركة إنيرجيان، القبرصية - اليونانية، للدولة الصهيونية، وهناك حديثٌ في بعض المواقع الأميركية المتخصصة إن تل أبيب تريد تعويضاً من الدولة اللبنانية، قد يكون على شكل شروط سياسية، لم يفصح عنها، لكنها معنيةٌ بتعميق التوتر الداخلي في لبنان.
المشكلة أساساً في الانهيار اللبناني الداخلي وحرب المحاصصة الطائفية والنفوذ، التي منعت وتمنع لبنان من الحصول على حقوقه وتحصيلها. إضافة إلى أن أطرافاً عربية مستفيدة من صمتها، ومن استمرار تصدير الغاز الإسرائيلي، وإن بشكل غير مباشر، فمصر كانت متخوّفة من أن يؤثر ذلك في نصيبها من تصدير الغاز الطبيعي، فبعد تشكيل منتدى المتوسط للطاقة بدا واضحاً أن المستفيد الأساسي هو إسرائيل، لكن مصر استدركت ذلك، ووقعت اتفاقية شراكة استراتيجية في يونيو/ حزيران الماضي تتيح تصدير الغاز المصري إلى أوروبا. وبذلك أصبحت إسرائيل ضامنة ومصدر تقديم حلول لمشكلات مصر الاقتصادية، فبعد أن كانت هي المشكلة، أصبح النظام العربي الرسمي يستنجد بإسرائيل، وهذا ليس حال مصر فقط، بل معظم الدول العربية.
المفارقة أن المسؤولين الأردنيين، وعلى أعلى مستوى، يقولون إن الأردن اضطرّ إلى توقيع اتفاقية استيراد الغاز "الإسرائيلي" بعد عملية تفجير خط الغاز المصري، وها هو الغاز المصري يجري تصديره في سياق شراكة استراتيجية مع إسرائيل إلى العالم، ويبقى الأردن رهينة اتفاقية الغاز، التي تقيد البلاد 15 عاماً، لكن اتفاقية الغاز الإسرائيلي لم تكن مجرّد خطوة في الهواء، بل كانت أحد أركان تثبيت إسرائيل مصدراً عالمياً للغاز، ولذلك ضغطت أميركا بقوة على الأردن، وهذا كلام مسؤولين أردنيين سابقين التقتهم الكاتبة، لتوقيع اتفاقية الغاز التي تولّى هندستها وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، وهو ليس بعيداً عن هندسة تطبيع مشاريع الطاقة الجارية في المنطقة.
ويبقى لبنان وحده، كما كل دولة عربية غير غنية، تستفرد بها أميركا واسرائيل، فالدولة الصهيونية تستفيد من حروب الطاقة، وتستثمر الموارد العربية، لتثبيت هيمنتها على المنطقة. والمحزن، أنه بعد كل توقيع اتفاقية بين إسرائيل وأي دولة عربية، تحتفي الدول العربية المعنية بها وتعتبرها مصدر إنجاز ومبعث فرح، فدم الشهداء أرخص من الغاز، وإنْ كان حتى ثمن الغاز تتلقفه الدولة العدو، ويستمر التطبيع وتستمر التحالفات المشينة. ومن هنا؛ تأتي أهمية مكافحة التطبيع، فما تريده إسرائيل من لبنان هو التطبيع، فاحتلال فلسطين يصبح "طبيعياً"، ولا عجب إذا كانت إسرائيل تنتظر انقضاض الدولة اللبنانية على حركات مقاطعة إسرائيل في المجتمع اللبناني.
قد لا تحصل إسرائيل على كل ما تريده، لكننا دخلنا في معركة لقمة العيش في لبنان الذي يئنّ تحت ثقل فساد نخبٍ لا تخجل!!
"كاريش" عنوان للتطبيع واستراتيجية الغاز الأميركية!!
بقلم : لميس أندوني ... 14.09.2022