أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
كنت في جِنين!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 22.06.2023


كنت الأيام الماضية في فلسطين، بعد سبع سنوات، بعد محاولات كثيرة فشلت في الحصول على تصريح زيارة.
بعد عشر محاولات فاشلة نجحت المحاولة الأخيرة؛ ولأن نجاحها لم يكن متوقعاً قط، فإنني ذهبت إلى إيطاليا لتقديم قراءتين شعريتين من ديوان «مرايا الملائكة» الذي ترجمه إلى الإيطالية د. وسيم دهمش، الديوان الذي يشكل سيرة متخيلة للشهيدة الطفلة إيمان حجو، في روما ونابولي، وأنا على يقين من أنني سأبقى هناك إلى آخر الرحلة. هكذا، حين جاء خبر «النجاح» قطعتُ الزيارة وغيّرت موعد العودة، مكتفياً بأقل من 16 ساعة أمضيتها في نابولي.
غريبة هي زيارة فلسطين؛ فبقدر ما تكون متلهفاً لها بقدر ما تكون خائفاً من لقائها، متردداً، لكن تجربتي أثبتت لي أن كثيراً مما يرضاه قلبي يكون أكثر دقة وصواباً مما يُلزِمني به عقلي.
في حكاية فلسطين، عليك أن تتبع قلبك جيداً كي تستطيع بلوغ عقلك حقّاً.
كل زيارة لفلسطين كانت كافية دائمًا لميلاد شيء جديد. بدأ الأمر عام 1984، حين زرتها بتصريح من تلك التصاريح التي يتمكن قريب لك، أو من يدّعي أنه قريبك، من أن يسهل لك زيارتها. في ذلك العام وقعت واحدة من أشهر العمليات الفدائية، وقام عقبها الجيش الصهيوني بالقبض على أسيرين وإعدامهما بالهراوات واقتلاع أعينهما. تلك القضية التي باتت شهيرة باسم عملية «الباص 300»، قام بتنفيذها شباب صغار، دون العشرين من أعمارهم، استولوا على الباص وطالبوا بإطلاق سراح أحبتهم في السجون الصهيونية، وكانوا على درجة من الرهافة والإنسانية أن أطلقوا سراح امرأة حامل، لكن اثنين منهما استشهدا، وأُسر الآخران وأُعدما بأبشع الطرق.
تلك الزيارة كانت السبب في كتابة قصيدة طويلة هي «الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق».
بعد ثلاثة أعوام أتيحت لي زيارة فلسطين ثانية بتصريح مشابه، كان ذلك قبل الانتفاضة الأولى بخمسة أشهر، وحين عدت، طلب مني الصديق الرّاحل محمد كعوش، رئيس تحرير مجلة «الحصاد»، في ذلك الزمان، كتابة مقال يكفي لصفحتين في المجلة، لكنني تهرّبت في الشهر الأول، وفي الشهر الثاني قال لي: سأصدر المجلة وأترك صفحتين فارغتين أكتب فيهما: فارغتان لأن إبراهيم نصر الله رفض الكتابة عن فلسطين!
جلست للكتابة مضطراً بعد ذلك التّهديد، لكنني بعد نصف ساعة أدركت أنني أكتب كتاباً، لا مقالاً، فكل ما رأيته وأحسسته وعشته، قبيل الانتفاضة الأولى، راح يتدفق بيسر في كتاب مختلف، اعتبره البعض سيناريو أدبيّاً واعتبره البعض سردية واعتبره آخرون رواية.
دائماً، ما في داخلنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا.
ذلك الكتاب الذي ولِدَ تحت التهديد كان واحداً من التجارب الأدبية التي تركت أثرها فيما بعد عميقاً في داخلي، على المستوى الفني، ومستوى قراءة حالة عامة، ولا أقول التنبؤ بما يليها، فالمسألة في الكتابة لا علاقة لها، في ظني، بما هو غيبي.
هكذا وجد هذا الكتاب جزءاً صغيراً منه ينشر في المجلة، وكله ينشر في جريدة ورقية، في زمن الصحافة الورقية الزاهر، اسمها «صوت الشعب»، ثم بعد أشهر في مجلة «فكر» القاهرية في 70 صفحة، ثم في طبعته الأولى المأخوذة عن المجلة، في رام الله قبل أن تصدر طبعته الأولى في العالم العربي، وإذا بالكتاب يصنف أنه عن تلك الانتفاضة!
انقطعت زياراتي لفلسطين 22 عاماً، وحين عدتُ كان مشروع كتابة رواية عن تجربة الأسرى هو الدافع الأساس. لم تُكتب الرواية بعد، الرواية التي لم أزل أحضِّر لها، لكنها بالتأكيد باتت أقرب إلى الورق من أي يوم آخر، مع كل زيارة لاحقة.
عام 2019، ولِدت في رام الله فكرة عمل شعري أوبرالي، تجسّدت بعد عامين في «الحب شرير» لكن هذا العام أيضاً والعام الذي سبقه شهِدا تكامل مشروع «ثلاثية الأجراس» حيث كان يلزمني كثيراً أن أزور مدينة بيت لحم ومدينة بيت ساحور اللتين تدور فيهما أحداث رواية «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» ورواية «سيرة عين»، ولا أظن أن الروايتين كان يمكن أن تكونا على ما هما عليه لولا تلك الزيارات، ولولا أولئك الذين عملوا على أن تتمّ ورافقوني ليكونوا خلالها عينَي.
في الزيارة التي عدت منها قبل يومين، كان الهدف الأول زيارة مدينة «جنين»، ولكن ما كان يقلقني أن هناك أمسية في اليوم ذاته، الأحد، قد نظمتها دار طباق للنشر: ناشري الفلسطيني، في مؤسسة عبد المحسن القطان/ رام الله. كنت أخشى أن نتأخر أو يحدث أمر مفاجئ، كما يحدث في جنين دائماً.
الصديق النبيل طارق عسراوي أصرّ بقوة أن نذهب، ولم يكن عليّ إلّا أن أستجيب لقوة رؤيا قلبه، لا قلبي، وهكذا ذهبنا، وحسناً أننا فعلنا، لأن جنين في اليوم التالي، يوم الإثنين، عاشت واحداً من أكثر أيامها صموداً ومقاومة وبطولة، ولو لم نذهب في اليوم السابق لأصبح الذهاب أمراً مستحيلاً بسبب ما تلا ذلك اليوم.
ما أحب أن أقوله هنا أن فلسطين كانت مُلهمة استثنائية دائماً في كل لقاء معها، وأضيف هنا هو أن السّير في شوارع جنين وأزقة مخيمها، مخيم البطولة والصمود وشقيق الأسطورة، مختلف عن أي سير في شوارع وأزقة مدن كثيرة؛ فهنا تبدو وكأنك تسير داخل الأسطورة معانقاً أبطالها ومتحدثاً معهم، وشارباً شايهم، ومشاهداً لقوة الحياة في أعينهم.
في جنين، كما في نابلس وغيرهما، لا يعيش الأبطال في السرّ، إنهم العلن نفسه، لا خوف من أي شيء، لأنهم لا يخافون مما يخاف البشر في كل مكانه منه: الموت
في جنين، كما في نابلس وغيرهما، لا يعيش الأبطال في السرّ، إنهم العلن نفسه، لا خوف من أي شيء، لأنهم لا يخافون مما يخاف البشر في كل مكانه منه: الموت.
يكتب الشهيد قسام أبو سرية على صفحته قبل استشهاده بأيام: ما دام هنالك رجال أوفياء، سنذهب معهم، حتى لو ذهبوا إلى الجحيم. لقد استشهد صديق قسام قبل شهر، وكما قال لنا جمال الذي طاف معنا في المخيم: هنا يعاهد الشباب بعضهم بعضاً على الشهادة.
كنا نتمنى أن يعاهدوا بعضهم بعضاً على الحياة، لكن هذا الأمر بات مستحيلاً في فلسطين مع وجود عدو فاشي يريد سحق كل شيء في طريقه، وقتْل الحلم الفلسطيني لأن إنساناً بلا حلم وبلا ذاكرة هو إنسان ميت.
هكذا يمكن أن نفهم كيف يقتحم شهيدان آخران مستوطنة «عيلي» يوم الثلاثاء، وينفذان عمليتهما البطولية انتقاماً لشهداء الإثنين.
وبعد:في فلسطين لا يترك الشهداء دم الشهداء الذين سبقوهم يبرد، لأنهم بدمائهم يحتضنونه.

1