أحدث الأخبار
الجمعة 31 كانون ثاني/يناير 2025
أتسمعني؟ وماذا بعد؟
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 30.01.2025

وماذا بعد؟ نقول لك الآن، كما قلنا لك قبل سبعة وسبعين عاماً: وماذا بعد؟
قتلتنا بما يفوق شهوة أي قاتل، ولم نمت، فماذا بعد؟ اجتحت مدننا وقرانا قمحنا وزيتوننا وسهولنا الخضراء وجبالنا، ورشقت وجوهنا بدم أطفالنا مع مطلع كل شمس، فماذا بعد؟
اخترعت خمسين ألف اسم جديد لكل ما لنا من مدن وقرى وأنهار وجداول وعيون ماء وسهولٍ بين جبلين أو بين صخرتين عظيمتين، فماذا بعد؟
سرقت أعشابنا وزهورنا وسفوحنا المزهرة وودياننا العميقة، وأسماء طيورنا وثياب أمهاتنا المطرزة بقلوبهنّ وعيون بناتهنّ وأبنائهن، فماذا بعد؟
التهمت زعترنا وثمار كرومنا وزرقة بحرنا، واختطفت أمواجنا وحشرتها في الثكنات المظلمة، وثبتّها بالرصاص فوق راية القتل التي تدعوها علمك، وكتبت نشيدك بلوعة أمهاتنا وهنّ يجمعن أشلاء صغارهن من بين الركام وصيحات الريح؛ لذا نقول لك كما قلنا لك قبل سبعين عاماً: وماذا بعد؟
خلف كل نهر وبحر ومحيط ألقيت بنا، كي نكون أبعد، وكي تكحل عيني وحشيتك بغيابنا، وكتبت على حائط كل مجزرة أن لا وجود لنا لا هنا ولا هناك، والتهمت غيومنا في السماء.
لم تستطع القبض لا على البرق ولا على الرّعد.
وأقمت الحواجز في وجه غد يركض نحونا، وأمس لم يعرف غير ملامحنا؛ فماذا بعد؟
في ظلام معتقلاتك حشرْتنا، لتكون أعمارنا وقودًا لأبدية قلت إنها لك وحدك، وحصّنت خوفك في وجه زيتوننا بقنابلك النووية التي قدّموها لك هدايا منذ وحُوْشة أظافرك؛ فماذا بعد؟
كلما تشهَّيت طائرة منحوك مئة، وكلما تشهيت دبابة منحوك ألفاً، وكلما تشهيت بارجة منحوك أسطولاً، وكلما استيقظت لتقتل واحداً من أطفالنا برصاصة أرسلوا إليك كل ما لا تتخيلّه من قذائف زنة 2000 رطل، وكلما مررت بطفلة تضحك، أو بعجوز كانت قبل وجودك هنا بألفي عام، وتذكَّرت أنك لم تكن هنا يوماً، ذخَّرتَ تلمودك بحقد جديد، ومحوت الشارع الذي سمِع الضحكة، والعكاز الذي أشار لك أن انصرف من هنا ولا ترينا وجهك بعد اليوم.
لذا نقول لك كما قلنا قبل سبعة وخمسين عاماً: وماذا بعد؟
تكره الشجر. هل رأيت من يكره الأشجار أكثر منك من قبل؟ ثلاثة ملايين شجرة مُبادة على يديك منذ مطلع الألفية (لن نبوح بعدد قتلانا وجرحانا، فهذا عالم لم يعد يكترث أبداً بأعداد شهدائنا). من يكره الأشجار أكثر منك؟ لتقتلع وتحرق كل هذه الخضرة، وتشرّد كل هذه الطيور، وتُيتِّم العشب وتؤسِّس للضّباع بيوتاً على سفوحنا، وأنياباً أكثر شراسة في أحلام صغارنا، ومواعيد جريحة بين قلوب عشاقنا.
لذا نقول لك كما قلنا قبل أربعين عامًا: وماذا بعد؟
في الأراضي المحترقة لن تجني غير الثمار السوداء، فماذا بعد؟
ألم تكفك خمسمئة قرية محوتها، ومدن افترست حقولها وحشوت أزقتها بالبارود، ولاحقتَ ظلالها بكلاب سفاّحيكَ، وعمّقت قبورنا ما استطعت.
قد تقتل إنساناً ولكنك لن تستطيع أن تدفن ظله معه، فماذا بعد؟
كل هذه الجدران التي تختبئ خلفها، من واشنطن إلى لندن إلى برلين، وكل هذه الأنظمة التي كلما تذكَّرتْ أنها لم تُبِدْ شعبًا ما في أطراف الأرض منذ زمن، منحتْكَ كل ما تحتاج لتبيدنا، كي لا ينسى الجنرالات ومنظّرو التطهير كيف تكون الإبادات، فماذا بعد؟
عرب لا عروبة فيهم.. كلّهم لكَ، وأهلَّةٌ لا إسلام فيها، وصلبان لمليوني مسيح، كلهم يُقبّلون يديك الملطخة بدمائنا، ويمحون بصماتك عن ساحات المذابح وأسلحة القتل، ومنشدون مفتونون بـ «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة»، يزرعون مجد وحشيتك على الأرض ويضعون الحرب في يدك سيفاً لتكون المسرّة لك وحدك، والسلام على الأرض ليس لنا.
لذا نقول لك كما قلنا لك قبل ثلاثين عاماً: وماذا بعد؟
جِرَاءٌ مضبوعةٌ، تنهش ظلالنا في رام الله، و (رجال) من قشٍّ اكتشفوا خفّة دمهم فجأة وهم يقولون: هل يعود المنتصر إلى بيته ماشياً؟! ويتضاحكون أمام الشاشات المضيئة بمسيرات غزة، هم الذين يتناسون بكل ما فيهم من نباح أنهم يعودون كلّ مساء إلى ذُلِّهم في ضواحي رام الله على أربعٍ لاعقين آثار جنودك، فماذا بعد؟
سبعة جدران في وجهِ جهاتِ الله الأربعِ؛ لا جنوب هنا، ولا شمال، ولا شرق ولا غرب.
احرصْ جيدًا أن تكون الجدران التي تشرق من خلفها الشمس أعلى كي تُنسينا أنها هنا، ولكي تتأكد أكثر أن النور لم يُخلق إلّا لك وحدك.
وجدران أخرى تحت الأرض، كي تُطبِق بأسمنتها على أعناق المياه، وتحطّم أصابع أولئك الذي يتسللون في عتمة الليل للقاء الحرية وهم يحلمون بدفء حبيباتهم، فماذا بعد؟
في كل مكان نحن: من تشيلي حتى اليابان، ومن لاهاي إلى جوهانسبرغ، وفي الماء نحن وفي الصحراء، في الجبل والسهل وفي الدم والنفط والسخط، وفي كوابيس الأمراء ورعونة الرؤساء والبليدين في الثلاجات العملاقة التي تسمى أوطانًا، المُدَّخرين مع الثيران بكل ألوانها ليكونوا جاهزين وليمةً لك..
لذا نقول لك كما قلنا قبل 471 يوماً من الموت: وماذا بعد:
ألف مذبحة، ثلاثون حرباً، مئات آلاف القتلى
عشرون ألف عين مفقوءة
مئة ألف يد مقطوعة تكشّ العتمة عن هذا الليل
ومئة ألف قدم مبتورة
وملايين الظهور المحنية تحت ثقل العمر وجراحات الروح
كل هذه وهذه وتلك تقول لكَ الآن، كما قالت لكَ دائماً:
إنكَ لن تستطيع الوقوف اليوم..
ولن تستطيع الوقوف غداً في طريق عودتنا.

1