أحدث الأخبار
الخميس 28 آب/أغسطس 2025
لا تحشروا رايات هزائمكم في يد غزة!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 27.08.2025

لو كان نتنياهو يملك جيشاً كبيراً كذاك الذي كان يملكه النازيون، لكان حلمه بإسرائيل الكبرى قد أصبح حلمه بإسرائيل الأكبر.
وقفت فلسطين وحيدة طوال 77 عاماً دافعة قادة صهيون كلهم للتشبث بإسرائيل الصغرى، حين لم يستطع ترويض الفلسطينيين ولا الانتصار عليهم بدفعهم إلى حائط لا نصير لهم خلفه، غير بيانات القمم وبيانات الجامعة العربية وتصريحات الزعماء العرب، والمسلمين! والأمل الكاذب بمليارين من المسلمين في جهات الأرض.
كل ما رأيناه نحن الجيل الواقع بين جنوب الأجداد وشمال الأبناء والأحفاد، يتكرر اليوم بحذافيره، وهذا ما يدفع أحد الأجداد ليعلق في كل مرة نتحدث فيها عن غزة ليقول: منذ فتحت عينَي على الدنيا لم أر غير ما ترونه الآن.
لقد أخَّرت فلسطين وحدها، لا غيرها، مشروع إسرائيل الكبرى. فلسطين التي كلما استطاعوا وقف ثورة من ثوراتها، منذ عام 1936، هبّت ثورة أقوى من سابقتها وخلخلت مخططات الصهيونية الفاشية وأعادتها إلى نقطة الصفر.
«نقطة الصفر» التي نراها في غزة قديمة، وهي جزء من تاريخ النضال الفلسطيني، وفي كل مرحلة من مراحل هذا النضال تعود، ولعل باحثاً فطناً لو تتبع القتال الفلسطيني من نقطة الصفر عبر المراحل التي مرت بها فلسطين، لخرج لنا بنتائج رائعة حقاً، تبسِط أمامنا المَشاهد كلها في مشهد واحد متصل.
ونقطة الصفر هذه ليست ما صنعه الفلسطيني وهو يقاتل فقط، بل أيضاً صنعها وهو ينهض بعد كل هزيمة ويبدأ من نقطة الصفر ليلِد ثورة جديدة، ولا شيء بين يديه غير ذاكرة قتاله عن نقاط الصفر السابقة، وشرفِ المحاولة، على رأي الكبير صلاح جاهين، شرف المحاولات التي لا تنتهي؛ ليكون لفلسطين وشعبها الحق في الكرامة والشرف والرأس المرفوع. شعب تعلم من كل تجربة مضيئة وابتلي بما ابتليت به شعوب أخرى، سواء اجتاحت أراضيها قوى النازية والفاشية، أو ابتليت بأشباه الزعماء وعتاة المنبطحين الذين ما زالوا يظنّون أن في الانصياع نجاة، وهذا أمر تجاوز أشباه الزعماء إلى أشباه كتاب أو كتّاب، وأشباه مفكرين، أو من هم بحاجة لمن يفكر عنهم بعد تعطُّل حواسهم واتكائها الأرعن على انفعالات سريعة لم تقرأ الماضي ولم ترَ الحاضر وغير قادرة على قراءة اليوم التالي.
هناك فلسطيني يقاتل منذ 100 عام، ويرفض أن يكون جزءًا من خنوع عربي وإسلامي لم يقدم له شيئاً غير ما يقدمه الآن بكرم بالغ: اللاشيء! فلسطيني يواجه فاشية صهيونية شعبية، لا رسمية فقط، لم تتغير قط، فنسبة 83% التي تنادي منهم اليوم بضرورة المضي إلى آخر الشوط لمحو غزة وكل طفل وامرأة ورجل فيها وأخضر ويابس، هي النسبة عينها التي قرأناها قبل أربعين عاماً في المطالبة بمحو كل ما هو فلسطيني، وهي نسبة بقيت تتراوح من قبل النكبة إلى ما بعدها، بحيث تتجاوز 100% ما إن يعصف بهذا الكيان خطر، أي خطر، كلما تعثّر صهيوني وهو يهرول إلى الملجأ في الشمال، كلما انطلقت صفارات الإنذار في الجنوب، وأدرجه الكيان ضمن عدد المصابين، مساوياً بينه وبين طفل في غزة فقد أطرافه.
اليوم، غزة ليست جزءاً من فلسطين فحسب، بل إن غزة فلسطين كلها، ولا مبالغة أبدًا إذا قال المرء إنها كل هذه الدول المحيطة بفلسطين التي أدخلها نتنياهو ضمن حدود إسرائيل الكبرى، إذا ما تمكن من الانتصار على هذه الفلسطين الصغرى التي اسمها غزة، فهو يعرف أن محوها هو محو لكل حدود الدول العربية، وبقاء غزة مصير أسود ينتظر هذا الكيان، حرفياً، على عتبة اليوم التالي.
لا تولد الإمبراطوريات وتكبر إلّا لتموت في النهاية، وإذا كان من نهاية لهذا الكيان المتغطرس المهيمن فهي النهاية الطبيعية التي تنتظر الأباطرة وإمبراطورياتهم، ودائماً هناك عاملان كبيران، حينما لا يجد المظلومون من ينصرهم:
ألا يستسلم المظلومون زمن قضم الأصابع، لا عضّها فحسب؛ وأن تتآكل الإمبراطوريات من داخلها. وللحق، فإن إقامة الصهاينة أكثر من 77 عاماً جيراناً للأنظمة العربية قد أصابتهم بالأمراض كلها التي عانت منها الأنظمة العربية، والفلسطينية أيضاً: الفساد بكل أشكاله، والوقوع في حب الكراسي، والتشرذم، وميلاد التطرف في مواجهة الآخرين، بل والاعتقاد أن ثمة من يقف معهم الله أكثر مما يقف مع الآخرين، كما لو أن هناك شعباً مختاراً داخل الشعب المختار، داخل الشعب المختار.
حين تقف هذه الحرب سنكتشف كم (إسرائيل) في هذه الإسرائيل، وسنكتشف أن من أكلوا لحم الفلسطيني سيضعون أنفسهم في موقع أعلى ممن اكتفوا بدم الفلسطينيين، أو أولئك الذين قتلوه عن بعد، ومن قتلوه عن بعد سيضعون أنفسهم في موقع أعلى ممن اكتفوا بالتحريض على قتله، وسنكتشف أن هنالك أهدافاً جديدة ستولد لهذه الفئة الصهيونية أو تلك، لا ترضيها الأهداف السابقة، لا حجم القتل ولا حجم السيطرة على كل شيء إن استطاع الحالمون بها ذلك، ولا مساحات الأرض ولا المناصب المتحققة، ولا حجم الدمار والموت الذين يريدون إلحاقه بالفلسطينيين.
وسواء توقفت الحرب الآن أم لم تتوقف، فثمة ما ينتظر هذا الكيان في عقر مستقبله، ونعني الوحوش التي فيه.
وبعـــد:
للمفارقة، وحدها غزة تحدّد مصير هذا الكيان، فغزة لا تشبه اليوم بيروت التي قال عنها درويش (بيروت خيمتنا الأخير)، فغزة آخر قلاع العرب التي لا يحق لأحد أن يرشدها إلى استسلامها، هو الذي لم يقدم لها شيئاً، لأن لها الحق وحدها في الدفاع عن نفسها، وهي محكومة بهذا، ولا خيار لها غير هذا، فاتركوا غزة تدافع عن كرامتها كما تريد، وتفعل ما تريد، فغزة لا تنتحر، هناك من يريد نحرها ونحر كرامتها، فكفّوا عن حشر رايات هزائمكم البِيض في أيدي شعبها، هذه الرايات راياتكم الشخصية، ورايات أنظمتكم كلها وليست رايات غزة، غزة التي لم تُطأطئ رأسها لأي إمبراطورية غازية من قبل.

1