نشرت صحيفة “الغارديان” مقالًا للمعلق سايمون تيسدال قال فيه إن المحكمة الجنائية الدولية من النادر أن تصدر أحكامًا بسجن مجرمين متهمين بارتكاب جرائم الحرب. ومن هنا كان إعلانها عن سجن زعيم ميليشيا سودانية شاذًا، في عالم يتصرف فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب الأمريكي، نعم بيت هيغسيث، بدون خوف من القانون الدولي.
ووصف الكاتب الحكم على علي محمد علي عبد الرحمن، أحد قادة ميليشيا الجنجويد المتهمة بارتكاب إبادة في إقليم دارفور السوداني، ما بين 2003-2005، مدة 20 عامًا، حيث وجدته الجنائية الدولية مذنبًا في ارتكاب 27 جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية، بأنه نجاح نادر.
لو استبدل هيغسيث بنطاله الضيق بآخر أكثر راحة، وتوقف عن الاعتقاد بأنه الجندي الأمريكي الجديد الذي تصوره هوليوود، لما شعر بأنه بحاجة لإرضاء تعطشه للدم
رغم تورط مئات من أفراد الميليشيات، يعد عبد الرحمن، المعروف أيضًا باسم علي كوشيب، أول شخص يُدان بارتكاب فظائع في دارفور، التي تشهد اليوم، ومرة أخرى، عنفًا مروعًا في الحرب الدائرة في السودان. وقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب إلى عمر البشير، رئيس السودان آنذاك. ويواجه أحمد هارون، الوزير السابق، اتهامات مماثلة. إلا أن كلا الرجلين أفلت من الاعتقال.
ويقول تيسدال إنه في عام 2011 عندما أجرى مقابلة مع البشير، الذي أطاحت به ثورة شعبية عام 2019، أعقبها استيلاء الجيش على السلطة واندلاع الحرب الأهلية، استهزأ الرئيس، في حينه، بادعاءات الإبادة الجماعية. وقال إن حكومته وحلفاءها من الميليشيات العربية حاربوا المتمردين، لا شعب دارفور. وأضاف أن الغرب يفرض معايير مزدوجة. وأصر على أنه لم يرتكب أي خطأ.
وفي عام 2008، قال هارون، الذي كان يشغل منصب “وزير الشؤون الإنسانية”، كلامًا مشابهًا، حيث قال لتيسدال: “لا أشعر بأي ندم”، رافضًا مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية والتي تتهمه بالتواطؤ في مقتل ما يصل إلى 200,000 شخص في دارفور، معتبرًا إياها ذات دوافع سياسية. وأضاف هارون: “ما فعلته كان قانونيًا، وكانت مسؤوليتي وواجبي”.
ويعلّق تيسدال أن الادعاءات المتعجرفة بأن الشخص لم يخرق قانونًا أو يرتكب جريمة من نوع ما، وعدم وجود أي قضية قانونية تستدعي وقوفه أمام القضاة، وأن ما عمله هو “واجب”، يقع في قلب المشكلة المعاصرة التي تواجه العالم: الإفلات من العقاب. وسواء كانوا مذنبين أم لا، لم يعتقد بشير ولا هارون أنهما سيقفان أمام القضاء الدولي، وقد ثبتت صحة اعتقادهما حتى الآن. ويتشارك معهما في هذا الاعتقاد نتنياهو وهيغسيث وبوتين.
ويتهم هذا الثلاثي المشين من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومراقبي حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بارتكاب جرائم. ويُزعم أن كل واحد منهم أشرف على عمليات قتل بدم بارد أو إساءة معاملة أو اختطاف جماعي لمدنيين غير مقاتلين. وينفي الثلاثة جميعًا ارتكاب أي مخالفة. ويزعمون أن ما فعلوه مبرر، بغض النظر عما يقوله القانون أو الرأي العام أو حتى أبسط قواعد الأخلاق. ويعتقدون جميعًا بغرور أنهم فوق القانون.
وقال تيسدال إن نتنياهو يخوض معركة على جبهات متعددة لإنقاذ حياته السياسية وتجنب دخول السجن. ومثل غزة، فإن سمعته الشخصية في حالة يُرثى لها. يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي وقف محاكمته المطولة في محكمة القدس الجزئية بتهم الاحتيال والرشوة بدعوى “المصلحة الوطنية”.
ويدّعي أنه يفضّل إثبات براءته، لكنه قام ببادرة زعم أنها كرم منه ونابعة من حسه الوطني ولتهدئة الانقسامات في إسرائيل، وعبّر عن استعداده لقبول العفو من الرئيس الإسرائيلي.
ويعلّق الكاتب بأن هذه هي الوقاحة بعينها، فقد استغل نتنياهو هذه الانقسامات نفسها باستمرار، وبأسلوب انتهازي للتشبث بالسلطة. ويقاوم بوقاحة واضحة إجراء تحقيق كامل ومستقل في الإخفاقات الأمنية الكارثية لحكومته التي سبقت هجمات “حماس” في 7 أكتوبر 2023. ويتهمه السياسي المعارض أفيغدور ليبرمان، من بين آخرين، بتدبير عملية “تستر” للهروب بجلده.
ويعلّق الكاتب أن محاولة نتنياهو الحقيرة لمواجهة الحساب أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب أفعاله في غزة، حيث تُتهم حكومته بارتكاب إبادة جماعية، هي صورة صارخة للإفلات من العقاب الرسمي. فبدلًا من الدفاع عن نفسه في المحكمة، يختبئ نتنياهو وراء دونالد ترامب في واشنطن أو يتوارى في منزله لتجنب الاعتقال، فيما يموت أطفال غزة من الجوع بأوامر منه.
وبالمثل، لو استبدل هيغسيث بنطاله الضيق بآخر أكثر راحة، وتوقف عن الاعتقاد بأنه الجندي الأمريكي الجديد الذي تصوره هوليوود، لما شعر بأنه بحاجة لإرضاء تعطشه للدم. فقد أقنع نفسه بطريقة أو بأخرى أن قتل عشرات الأشخاص المجهولين على متن قوارب في البحر الكاريبي، بناء على شبهات لا أساس لها من الصحة بتهريب المخدرات، أمر مرغوب فيه وقانوني وليس عملًا وحشيًا غير مبرر.
وقد قدمت إدارة دونالد ترامب الكثير من التبريرات الواهية وزعمت فيها أن عملياتها ضد القوارب في البحر الكاريبي تمت بناء على “إخباريات استخباراتية”، وبالتأكيد ليس من بريطانيا التي أوقفت التعاون الاستخباراتي الأمريكي لاعتقادها أن استهداف قوارب بدون أدلة هو قتل خارج القانون. لكن الولايات المتحدة زعمت أن القتلى المجهولين على متن القوارب هذه هم أعضاء في “منظمات إرهابية أجنبية” وبالتالي يعتبرون أهدافًا مشروعة. وفي هذه الحالة يمكن للقضاة والمحامين أن يقولوا ما يشاؤون ويعترضوا على الهجمات، لكن هيغسيث لا يهمه أي رأي سوى ما يقوله ترامب. وهما يعتقدان أن بمقدورهما فعل ما يحلو لهما دون حساب.
سواء كانوا مذنبين أم لا، لم يعتقد بشير ولا هارون أنهما سيقفان أمام القضاء الدولي، وقد ثبتت صحة اعتقادهما حتى الآن. ويتشارك معهما في هذا الاعتقاد نتنياهو وهيغسيث وبوتين
وعندما ظهر مقطع فيديو يظهر قتل ناجين من هجوم أمريكي عمدًا في ضربة ثانية، بدأ أعضاء الكونغرس، متأخرين، بطرح الأسئلة. لكن البنتاغون لم يكن صريحًا بدرجة كافية. ولكن من يهتم؟ ليس ترامب بالضرورة الذي قال، في الأسبوع الماضي، إن كل ما يفعله هيغسيث “مقبول لدي”.
ويقول تيسدال، هكذا يبدو الإفلات من العقاب وهذه هي نهاية سيادة القانون. فهذه هي أقوى دولة في العالم تعلن أنها لم تعد تحترم القواعد الأساسية التي، وإن لم تكن كاملة، إلا أنها مهمة وتحافظ على تماسك المجتمع الإنساني.
وتتصرف الولايات المتحدة قبالة سواحل فنزويلا وتقتل كيفما تشاء وتستولي على ناقلات النفط، تمامًا مثل قراصنة الصومال قبالة القرن الأفريقي أو المتمردين الحوثيين في اليمن، الذين يطلقون الصواريخ عشوائيًا على سفن البحر الأحمر. وعليه فالإفلات من العقاب يعني الفوضى.
فلا عجب إذن أن يعتقد بوتين، مجرم حرب آخر هارب من المحكمة الجنائية الدولية، أنه قادر على الإفلات من العقاب على جرائمه.
ويقول تيسدال إنه في “خطة السلام” الأمريكية المكونة من 28 بندًا، حاول ترامب أن يمنح الزعيم الروسي حصانة من الملاحقة القضائية. وهو يحاول أيضًا تدمير المحكمة الجنائية الدولية بالعقوبات.
وفي النهاية، أي مثال تقدمه الولايات المتحدة الآن؟ كيف يمكن لبريطانيا وأوروبا أن تتظاهرا بأنها حليف مناسب، بل وصديق؟ وينهب أتباع ترامب الخارجون عن القانون، والذين لا يتورعون عن ارتكاب الجرائم، في الخارج كما يفعلون في الداخل، فهم بمثابة الجنجويد الجدد. ومثل علي كوشيب، يجب أن يُحاسَب ترامب ونتنياهو وبوتين وهيغسيث وجميع القتلة الآخرين المبتسمين بسخرية أمام القضاء يومًا ما.
