أحدث الأخبار
الثلاثاء 05 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
وديعة السيد حسن!!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 02.11.2024

قد يعد اختيار الشيخ نعيم قاسم أمينا عاما لحزب الله تطورا مثيرا، وقد يبقى قاسمـ حماه الله ـ في منصبه الجديد طويلا، أو تسبق إليه يد الغدر، لكن لا قاسم ولا غيره ممن قد يخلفه، يستطيع أن يملأ فراغا هائلا تركه استشهاد السيد حسن نصر الله.
فلم يكن نصر الله مجرد أمين عام لحزب الله، وقد سبقه إلى العنوان ذاته الشيخ صبحي الطفيلي، وخليفته السيد عباس الموسوي، وكان الأخير صنوا ورفيقا للسيد حسن في مقام حملة العمائم السوداء، وولد كلاهما من النسل النبوي الشريف، ومن أحفاد الإمام الحسين سبط النبي الأكرم (ص)، ومن حفظة عهد الشهيد الحسين، فقد ذهب الحسين جسدا، لكنه بقي ذكرا ومثالا باهرا للإسلام النقي عند ينابيعه الأولى، وهكذا كان عباس، الذي استشهد مع زوجته وأطفاله بصاروخ قاتل من طائرة هليكوبتر إسرائيلية في 16 فبراير 1992، ولم يكن مضى على توليه منصبه سوى شهور، وقتها جاءوا بالسيد حسن من رحلة التعليم الديني الثانية في «قم»، وكان عباس الموسوي قد رافق وأرشد ورعا نصرالله في رحلة التعليم الديني الأولى إلى النجف الأشرف.
لم يكمل السيد حسن تعليمه الديني إلى نهايته في الرحلتين، فقد دهمته مطاردات السياسة في العراق، ثم نادته استدعاءات السياسة في حزب الله، بعد رحيل السيد عباس، وأجمعوا على اختياره أمينا عاما في مجلس الشورى، رغم أنه كان وقتها الأصغر سنا في القيادة، كان اختياره وفاء للشهيد عباس، وتوقيرا لصحبة جمعتهما في طلب العلم وطلب الشهادة، كان عمر السيد حسن وقتها 32 سنة، وقضى في قيادة الحزب مثلها، إلى أن كان استشهاده في سن الرابعة والستين، أرادت له أقدار الله ألا يكمل تأهيله العلمي الديني، وكان كثيرا ما يعبر عن ألمه في هذه النقطة، وإن كان وجد في سيرة السيد عباس دليله الشخصي، كان السيد عباس إبنا لبيئة شيعية لبنانية متفتحة، وعابرة للاختناقات والتحوصلات الطائفية، وساعية لوحدة المسلمين، ومتأثرة باجتهادات المرجع آية الله حسين فضل الله، الذي حرّم مبكرا سب الصحابة والسيدة عائشة، وحرّم العدوان على سيرة الشيخين أبي بكر وعمر بن الخطاب، وفي فيديو نادر حفظ كلمات للسيد عباس، أشاد فيها بالخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وفتح «القدس» في عهده، وتجريمه العدوان على الكنائس والأديرة، ورفضه الصلاة في كنيسة القيامة، حتى لا تكون سنة عدوان للمسلمين من بعده، واستن «العهدة العمرية» الخالدة في مجرى الضمير الديني، وتوقير الأنبياء المعصومين جميعا دون تفرقة بين أحد منهم، لم يكن عمر بن الخطاب فقيها متبحرا كالإمام علي، وكان كثيرا ما يقول «أصابت امرأة وأخطأ عمر»، وكانت خشيته الباكية لله، وازعه في كل تصرفات خلافته، ولم يكن السيد حسن قد بلغ مبلغ فقه دليله السيد عباس، لكنه كان صنوه وتابعه على طريق وعقيدة «الإسلام الفلسطيني» إن جاز التعبير، وهي عقيدة لا تلتزم بدول ولا بحدود صنعها الاستعمار في (سايكس ـ بيكو) وما بعدها، وتقدس «القدس» ومسجدها الأقصى، كما تقدس مكة والكعبة وقبر الرسول الأعظم ومرقد الإمام والمسلم الأول علي بن أبي طالب، وتفهم أن ما جرى في الفتنة الكبرى، لم يكن خلافا على الإسلام بل فيه، وكما قال الإمام علي نفسه، فلم يكن الأمر خلافا في عقيدة التوحيد الإلهي، بل كما قال الإمام في حومة الوغى «لقد التقينا وربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة»، بل كان الخلاف في التاريخ والحكم والعدالة والسياسة.
ومع تدهور القرون، التبست الأصول وبهتت وبليت معادنها الأولى، وزاد ثقل الأساطير وركام التخاريف، وعميت الأبصار، وبدا الأمر كما لو كان فراقا في أصل الدين نفسه، وكان السيد حسن واعيا بما جرى من آثام المغالين، ومحذرا من استخدام الغزاة لهم كمعاول هدم وفتنة وتفريق، وكان تأثيره الكاريزمي أقوى في ناسه «الشيعة» من أثر المراجع وآيات الله، وإن لم تخل أحاديثه من تواضع نادر، كان يقول «أنا مقلد، ولست مرجع تقليد»، وكان التعبير في معرض بيان انحيازه لوحدة المسلمين، وتأكيده على تقليده الديني لمرجعية «الولي الفقيه» الإمام الخميني والإمام خامنئي من بعده، واختار التركيز على تحريم شتم الصحابة والخلفاء الراشدين ولعن السيدة عائشة رضى الله عنها، ثم كان فهمه الناضج لما جرى في صدر الإسلام من انحيازات دنيوية لا دينية، وانحيازه هو الآخر لسيرة آل البيت وسادتهم الشهداء الأبرار، وكان ضنينا بعظات دم الإمام الحسين، أن يجري امتهانها في عادات وطقوس مبتذلة، وانتقد جرح الصدور وإسالة الدماء بشدة الحزن على النهاية «الكربلائية» لسيد شباب أهل الجنة، وكان يقول ما معناه، وفروا الدماء واذهبوا بها لتحرير فلسطين، كان واجب الوقت دليله الديني، ولم يكن ذلك سهلا على الإطلاق في بيئة الطوائف اللبنانية، ولا في الصيغة المريضة لحكم لبنان، ومع كل هذا التعقيد المقعد، الموروث منه والمستجد، كانت مهمة السيد تبدو مستحيلة .
وعبر 32 سنة من قيادته لحزب الله، وقد كان من مؤسسيه الأوائل، خاض السيد حسن معارك وملاحم كبرى، وقفز بجماعة المقاومة الصغيرة إلى جيش تحرير حقيقي وجاد، وخاض الصدامات الكبرى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، من معركة 1993 إلى معركة 1996، وإلى تحرير الجنوب اللبنانى كله أواخر مايو 2000، ومن دون توقيع صك استسلام ولا اتفاق تطبيع، وإلى حرب 2006، التي كانت إلى حينها الحرب الأطول زمنا من نوعها، ولم يكن الرجل يؤمن بدعاوى لبنان المعزول، أو لبنان المحايد بضعفه، بل جعل من «حزب الله» أكبر خطر وجودي على كيان الاحتلال الاستيطاني «الإسرائيلي»، الذي أراد ويريد ضم أجزاء واسعة من لبنان إلى كيانه الاحتلالي، وفعلها في حملات غزو همجي تعددت في 1978
و1981 و1982، أي قبل ظهور «حزب الله» نفسه، وقبل الزحف الإيراني إلى دور إقليمي بعد ثورة الخميني، وكان السيد حسن صادقا مقنعا صريحا، وقالها مرات بوضوح قاطع، قال إن «أكل وشرب وسلاح حزب الله يأتي من الجمهورية الإسلامية في إيران»، كان صدق السيد حسن علامته وآيته وطريقه إلى قلوب الناس، وكان صادما لأصحاب المصالح والأهواء، وكان صدقه عن الدعم الإيراني الحصري من عناوين اللحظة التي ولد ونما فيها «حزب الله»، وشهدت خذلانا مخزيا شاملا من الكيانات العربية كافة لمعنى المقاومة وجماعاتها، وقد رآه الرجل بأم عينيه، وقت أن كان شابا لا يزال، ولم يكن من بديل عنده ولا عند غيره عن الدعم الإيراني المستعد، إن أراد أحد أن يقاوم هذه «الإسرائيل».
صحيح أن إيران دولة لها مصالحها وأولوياتها وتداعيات نفوذها المتضخم في المنطقة، بل في الروح الطائفية التي نفخت فيها من نارها، وإن كانت تمددت في خلاء عربي موحش مخيف، وأوقعت السيد حسن نفسه في أخطاء وخطايا سحبت من وهج قيادته، وأفقدته تعاطف قطاعات واسعة في المشرق العربي المحطم بالذات، على طريقة توريط «حزب الله» في المستنقع الطائفي وحروبه النتنة، كما جرى في العراق وسوريا مثلا، وكان ذلك مما خدش ـ ربما شرخ ـ صورة الحزب وزعيمه التاريخي، لكن الرجل للإنصاف، ظل مع ما جرى من نفاد أرصدة، ظل الزعيم السياسي الأكثر تأثيرا في ضمائر العرب العاديين، فلم يتح لأحد منذ رحيل القائد جمال عبد الناصر، أن يهتم العرب بالاستماع إلى خطاباته، كما جرى في سيرة السيد، الذي ظل قادرا على عبور حدود الطوائف والأقطار، واستعاد مع «طوفان الأقصى» الفلسطيني كثيرا من تألقه الأقدم، وكثيرا من انجذاب الناس إلى كاريزميته وبلاغته ومصداقيته، وحتى إلى «لثغته الرائية « المحببة، وكانت حساباته هذه المرة محررة من كل قيد، رغم أنه لم يحط بعلم مسبق عن خطة «حماس» وأخواتها انطلاقا من غزة، ولم تعلم إيران هي الأخرى، وكان بوسعه التنصل من الأمر كله، غير أنه لم يتنكر أبدا لإيمانه الفلسطيني، ووسع في هوامش استقلالية قراره عن الاعتبارات الإيرانية، وأدخل «حزب الله» في حرب مع كيان الاحتلال، تطورت وقائعها الدامية من «حرب إسناد» لغزة إلى حرب وجود «إسرائيلي» مع حزب الله نفسه، وظل الرجل ثابتا راسخا على اختياره إلى ساعة استشهاده، وترك وديعته إلى «حزب الله» من بعده..

*كاتب مصري
1