(تجريد المقاومة من أسلحتها هو الهدف المعلن للعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، وقد فشلت دولة الاحتلال في تحقيقة، وتحاول الولايات المتحدة سياسيا الآن أن تحقق هذا الهدف الذي فشلت دولة الاحتلال في تحقيقه عسكريا)
لقد عبر أمين عام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عبد الله شلح في مقابلته مع فضائية الميادين يوم الاثنين الماضي عن نبض الشارع الفلسطيني وجهر بما تتردد "القيادة الفلسطينية" في الجهر به حتى الآن عندما رفض رفضا باتا التوصل إلى أي اتفاق لوقف إطلاق النار أو "التهدئة" بين المقاومة وبين قوات الاحتلال في قطاع غزة ب"ضمانات" أميركية.
فعندما تعلن الولايات المتحدة تبنيها للمبادرة المصرية للتوصل إلى اتفاق وقف لإطلاق النار أو لاتفاق تهدئة في العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة الفلسطيني، ويعلن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، في مؤتمره الصحفي بالدوحة الأربعاء الماضي أن الولايات المتحدة هي أيضا التي طلبت من قطر وتركيا استخدام علاقاتهما الجيدة مع حماس لإقناعها بقبول التفاوض على اتفاق كهذا، ينبغي على المقاومة الفلسطينية أن تحذر لأن أي اتفاق يتم التوصل إليه في الحالتين سوف يكون أميركيا في جوهره.
ووجود ضمانات ل"عدم تكرار" الحروب العدوانية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وبخاصة في قطاع غزة، كواحد من شروط "الحد الأدنى لأي تهدئة قادمة"، هو مطلب أضافته المقاومة الفلسطينية إلى مطالبها للتوصل إلى وقف إطلاق النار أو للتهدئة في العدوان المتواصل على القطاع منذ الثامن من تموز/يوليو الجاري، كما جاء في كلمة نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" يوم الاثنين الماضي.
وتعلن دولة الاحتلال أن الضمانة الوحيدة المقبولة لديها هي تجريد قطاع غزة من السلاح واجتثاث المقاومة منه وتحويله إلى نسخة من الضفة الغربية التي يحكمها التنسيق الأمني الفلسطيني معها ويدعمها في ذلك راعيها الأميركي الذي وعد سابقا ويعد الآن بمكافأة القطاع المحاصر على ذلك باستثمارات تمول من جيوب الدول العربية النفطية بصفة رئيسية مع مساهمات أميركية وأوروبية من دون أن ترفع دولة الاحتلال حصارها عن القطاع أو تتحمل ولو جزءا يسيرا من مسؤولياتها حسب القانون الدولي كقوة قائمة بالاحتلال.
وقد تحدثت وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية رئيسية (الواشنطن بوست والنيويورك تايمز وهآرتس) عن مسودة اقتراح اتفاق لوقف لإطلاق النار في غزة قدمه وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال اليومين الماضيين يتضمن تقديم "ضمانات لكلا الطرفين" من "الولايات المتحدة والأمين العام للأمم المتحدة والاتحاد الأوروربي" بهدف بدء مفاوضات بعد وقف إطلاق النار تستهدف الاتفاق على مبادلة "تجريد غزة من الصواريخ والأنفاق" ب"إنهاء حصار غزة" (هآرتس).
وتجريد المقاومة من أسلحتها هو الهدف المعلن للعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، وقد فشلت دولة الاحتلال في تحقيقة خلال حروبها الثلاثة الأخيرة التي شنتها على قطاع غزة خلال ست سنوات، وتحاول الولايات المتحدة سياسيا الآن أن تحقق هذا الهدف الذي فشلت دولة الاحتلال في تحقيقه عسكريا بواجهة مصرية أو قطرية وتركية.
وفي مؤتمره الصحفي بالدوحة رد خالد مشعل بأن نزع سلاح المقاومة مشروط ليس فقط برفع الحصار عن القطاع بل بإنهاء الاحتلال و"تجريد" دولة الاحتلال بالمثل من أسلحتها، ولم يكتف مشعل، بالإعراب عن "أمله" في أن "تعمل أمريكا على تغيير سياستها" بل أضاف بأن "الأمة ستفرض على أمريكا تغيير سياستها".
إن الجدل الدائر بين المؤيدين ل"المبادرة المصرية" التي تبنتها الولايات المتحدة ورفضتها المقاومة الفلسطينية -- لأنها لا تتضمن مطالبها برفع الحصار عن القطاع أولا ولأنها تدعو إلى العودة لاتفاق "التهدئة مقابل التهدئة" الذي رعته مصر عام 2012 -- وبين المؤيدين لوساطة قطرية تركية للتوصل إلى مبادرة معدلة أو بديلة تتضمن مطالب المقاومة يتجاهلون الحقيقة التي أعلنها مشعل بأن التحرك القطري والتركي إنما جاء بطلب من الولايات المتحدة لإقناع حماس بقبول اتفاق ترعاه وتضمنه الولايات المتحدة على أساس المبادرة المصرية.
أي أن الولايات المتحدة هي الراعية على حد سواء للمبادرة المصرية ولأي مبادرة معدلة أو بديلة لها تتمخض عنها الوساطة القطرية – التركية وبالتالي فإن أي اتفاق يتم التوصل إليه برعايتها لن يخرج في الجوهر عن مقايضة تجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها برفع الحصار عن غزة بضمانات منها.
وما تسرب للإعلام عن مداولات الوسطاء للتوصل إلى اتفاق لوقف العدوان المستمر على القطاع المحاصر يشير إلى توجه لطلب ضمانات أميركية، سواء عبر مصر أم عبر قطر وتركيا، ولا يتردد جون كيري -- الذي وصل المنطقة يوم الثلاثاء الماضي عارضا وساطة بلاده – في عرض "ضمانات لكلا الطرفين".
لكن تاريخ الضمانات والتعهدات والتطمينات والوعود الأميركية للشعب الفلسطيني هو تاريخ مسلسل من الضمانات التي لم تضمن شيئا، والتعهدات التي ما زالت تنتظر الوفاء بها، والتطمينات التي لم يعرف الفلسطينيون اطمئنانا منذ تقديمها، والوعود التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
إن الجدل الدائر الآن بين المقاومة التي تطالب "برفع الحصار أولا قبل أي اتفاق تهدئة"، كما قال مشعل، وبين الوسطاء الذين يطلبون العكس إنما يعبر عن فقد الثقة الفلسطينية في أي "ضمانات" أميركية، بعد أن أثبتت تجربة ما يزيد على عقدين من الزمن أنها ضمانات لا قيمة لها، وأنها استخدمت فقط ك"جزرة" لنزع فتيل المقاومة الوطنية للاحتلال، ولزرع الانقسام في الصف الوطني، ولتحويل الوضع الانتقالي المؤقت الذي تمخضت عنه "عملية السلام" إلى وضع دائم، ولمنح دولة الاحتلال الوقت الكافي لخلق المزيد من حقائق الاستعمار الاستيطاني المادية على الأرض التي تجعل من المستحيل تحقيق ما تسميه منظمة التحرير "المشروع الوطني" المتمثل بإقامة دولة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
فالذاكرة الوطنية الفلسطينية لم تنس بعد أن أهم بنود الاتفاق الذي رعاه المبعوث الأميركي فيليب حبيب لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية ومقاوميها من لبنان بعد الغزو فالاحتلال الإسرائيلي له عام 1982 كان تعهد الولايات المتحدة بضمان عدم تعرض قوات الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين واللاجئين الفلسطينيين، ولم تنس أن مجزرة صبرا وشاتيلا في السادس عشر من أيلول/سبتمبر من ذلك العام كانت هي ثمن الرهان الفلسطيني على الضمانات الأميركية.
فمنذ أعطى الرئيس الأميركي الثاني والثلاثين، فرانكلين روزفلت، الملك عبد العزيز آل سعود عام 1945 "ضمانات" بعدم اتخاذ أي خطوة معادية للعرب في فلسطين (التويجري، ص 587)، لم تف الولايات المتحدة بأي ضمانات قدمتها، إلا لدولة المشروع الصهيوني في فلسطين التي اعترفت بها بعد دقائق من إعلانها لتتحول بعد ذلك إلى الضامن الأول لتفوقها العسكري النوعي والكمي على مجموع محيطها العربي والإسلامي متجاهلة توسعها العدواني الاستعماري الاستيطاني وكذلك حقيقة أنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا تزال بلا حدود أو دستور.
ومنذ تعهدت الولايات المتحدة برعاية "عملية سلام" عربية إسرائيلية انطلاقا من مؤتمر مدريد عام 1991 ب"ضمانات" قدمتها ووعدت فيها بأن تلتزم نصا وروحا بمبدأ "الأرض مقابل السلام" على أساس قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 ورقم 338 والاعتراف بالقدس الشرقية جزءا لا يتجزأ من الأرض المحتلة عام 1967 والإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، حولت واشنطن هذه العملية إلى غطاء سياسي لترسيخ الاحتلال الإسرائيلي التوسعي في الجوار العربي ولتهويد القدس وتقسيم الضفة الغربية لنهر الأردن بين مواطنيها العرب وبين مستوطنيها اليهود ولمحاصرة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ب"طوق سلام" عربي يضمن أمن دولة الاحتلال ويعزل المقاومة الفلسطينية عن عمقها الاستراتيجي العربي بإملاء معاهدات "سلام" على دول الطوق العربية وقعت فعلا مع مصر والأردن بينما لا تزال سوريا ولبنان يدفعان ثمن عدم توقيع معاهدات مماثلة حتى الآن.
وما زال النكث بالوعود والتعهدات والضمانات الأميركية لمنظمة التحرير الفلسطينية المسؤول الرئيسي عن عدم انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من المنطقة "ج - سي" في الضفة الغربية للتوصل إلى اتفاق على "الوضع النهائي" بحلول عام 1999 بموجب المرحلة الثالثة من اتفاق أوسلو، وعدم التوصل إلى تسوية دائمة ونهائية فلسطينية – إسرائيلية بحلول عام 2005 بموجب المرحلة الثالثة من "خريطة الطريق"، لتتحول إلى مسلسل من التعهدات الكاذبة والضمانات الخادعة وعود الرؤساء الأميركيين ب"دولة فلسطينية" متصلة جغرافيا في قطاع غزة والضفة الغربية عاصمتها في شرقي القدس، أولا في سنة 1999 ثم في سنة 2005 وبعدها في سنة 2008 ثم بعد سنتين من وصول الرئيس الحالي باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
وجددت الولايات المتحدة وعودها وضماناتها لجر منظمة التحرير إلى استئناف مفاوضاتها مع دولة الاحتلال في مؤتمر أنابوليس عام 2007 ثم لمفاوضات غير مباشرة عام 2010 وبعدها لمفاوضات ثنائية مباشرة لمدة تسعة أشهر في أواخر تموز/يوليو العام المنصرم، من دون أن تفي بأي وعد أو ضمان منها.
وعندما أخلت الولايات المتحدة بضماناتها للرئيس الفلسطيني محمود عباس بالإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال في نيسان/أبريل الماضي تساءل عباس مستنكرا كيف تستطيع واشنطن "إقناع إسرائيل" بإعطائه شرقي القدس إذا كانت تعجز عن "إقناعها" بإعطائه ستة وعشرين أسيرا فلسطينيا، ليعبر بعد ذلك عن فقد ثقته وشعبه في الوعود والضمانات الأميركية بتوقيعه طلبات الانضمام إلى خمسة عشرة معاهدة واتفاقية دولية، بعد أن عبر في سنة 2012 عن يأسه من النكث الأميركي المتكرر بها بالتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعترفت بفلسطين دولة مراقبة غير عضو فيها.
الضمانات الأميركية للفلسطينيين لا صدقية لها!!
بقلم : نقولا ناصر* ... 26.07.2014