أحدث الأخبار
الخميس 10 تشرين أول/أكتوبر 2024
هل يستطيع الحاكم العربي أن يكون وطنياً؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 15.06.2024

نخطئ كثيراً عندما نتهم بعض الحكام العرب بأنهم غير وطنيين، فهذا بصراحة توصيف خاطئ، لأنه عندما تتهم زعيماً بأنه غير وطني، فهذا يعني أنه تمكن من الوصول إلى السلطة بقوته الذاتية والإرادة والمباركة الشعبية، لكنه خان العهد واستأثر بالحكم ومارس كل أنواع الموبقات والفساد والسلب والنهب والإجرام واهتم بدائرته الضيقة وأهمل الشعب والوطن بسبب أنانيته أو بالأحرى قلة وطنيته، أو انعدام الشعور الوطني لديه. لكن هذا التعريف للحاكم اللاوطني لا ينطبق مطلقاً على الحالة العربية أو حتى العالم ثالثية بشكل عام. لماذا؟ لأن غالبية الحكام العرب لم يأتوا إلى السلطة أصلاً بطريقة وطنية، فليست هناك ديمقراطية ولا انتخابات ولا حرية تنظيم أو تعبير أو مجتمع مدني أو أي مظهر من مظاهر الديمقراطية الوطنية الحقيقية التي توصل الحكام الوطنيين إلى الحكم مثلاً. ولا داعي للتذكير بالمسرحيات الديمقراطية التي يجريها بعض الطواغيت العرب لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، بينما تكون نتائج الانتخابات مقررة قبل أشهر من إجرائها، ولا أهمية أصلاً لكل أصوات الشعب، فحتى لو صوّت الناخبون بالإجماع ضد هذا الرئيس أو ذاك فإن أجهزته ستعلن في آخر النهار بأنه فاز بتسعة وتسعين بالمائة من أصوات الناخبين، لأن وزارات الداخلية وأجهزة الأمن المدعومة من الخارج هي التي تفبرك الانتخابات ونتائجها وعدد المصوتين، ثم تعلنها في وسائل الإعلام الحكومية التي يتحكم بها النظام وأجهزته من بابها لمحرابها.
ولا ننسى أيضاً أنه في العالم المتقدم قلما تسمعهم يتحدثون عن الوطنية. ولو تابعت الحملات الانتخابية في الغرب، لما سمعت كلمة (وطنية) مرة واحدة، لأن أنظمة الحكم الديمقراطية لا تقوم أصلاً على المشاعر الوطنية، بل بالدرجة الأولى تقوم على البرامج الانتخابية والخدمات الملموسة التي تقدمها الأحزاب لناخبيها. أما في بلادنا فلو أحصيت كم مرة تسمع كلمة (وطني) أو (وطنية) في وسائل الإعلام العربية لوجدت أنك سمعتها مئات المرات، فأبواق الأنظمة تستخدمها عمال على بطال لخداع الجماهير أولاً وثانياً لترهيب كل من يفكر بمعارضة الحاكم أو النظام. والويل لكل من يعارض (الخط الوطني) المزعوم، فهو ملعون مطعون إلى يوم الدين. والويل أيضاً لمن يشكك في وطنية السيد الرئيس الذي يقطر وطنية. ولا تنسوا الكم الهائل من الأغاني والأناشيد الوطنية في وسائل إعلامنا العربية، التي يقحمونها على مسامع الشعوب ليل نهار، وكأن الشعوب خائنة لأوطانها ويجب إعادتها إلى الصراط الوطني المستقيم، بينما لو تابعت وسائل الإعلام الغربية مثلاً، لما سمعت أغنية وطنية واحدة. والمواطن الغربي لم يسمع في حياته كلها سوى النشيد الوطني للبلاد الذي يذيعونه في مناسبات محدودة جداً. والمضحك في الأمر أن نسبة الوطنية في البلاد الديمقراطية الحقيقة مرتفعة جداً بالرغم من أن لا أحد يتحدث عن الوطنية لا في الإعلام ولا في السياسة، مع ذلك فإن الغالبية العظمى وطنيون حتى النخاع، لأن الوطنية الحقيقية ليست مجرد أناشيد وأهازيج وطنية كاذبة، بل حقوق وواجبات تجعل الانتماء الوطني نتيجة حتمية.
أما في بلادنا التي تتشدق أنظمتها بالوطنية والشعور الوطني ليل نهار، فمعظم حكامها غارقون في الخيانة والعمالة للخارج حتى آذانهم. ‏وهذا يؤكد ما قاله (ميخائيل شيديرين) بأنه «عندما ترى أهل السياسة يتحدثون كثيراً عن الوطنية، فأعلم أن البلاد تُنهب والفساد ينخرها». ولا ننسى أن الوطنية حسب جونسون: «هي الملاذ الأخير للسفلة والأوغاد». وانظر ماذا فعل المتشدقون بالوطنية في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان والجزائر وتونس وبقية الديكتاتوريات العميلة. وهنا نعود إلى سؤال المقال أعلاه: هل يستطيع الحاكم العربي أن يكون وطنياً؟ الجواب للأسف لا، لأن ضباع العالم إما أن يحاصروه أو أن ينقلبوا عليه أو أن يتخلصوا منه فوراً كما حصل لمحمد مصدق في إيران مثلاً ولبعض الزعماء العرب الذين فكروا يوماً بأن يتحرروا من النير الغربي. لهذا فإن كل ما هو موجود اليوم من أنظمة لا علاقة لها بالوطنية، لأن الوطنية هي صنو الديمقراطية، وبما أنه ليس لدينا ديمقراطية حقيقية، فبالنتيجة ليس لدينا وطنية. بعبارة أخرى، فإن القيادة الحقيقية لا تكون وطنية فقط بالتعبير عن حب الوطن ورفع الشعارات الوطنية الزائفة، بل بتنفيذ البرامج الانتخابية وتحقيق مصالح المواطنين الذين انتخبوها، ومن يفشل في هذه المهمة الوطنية الحقيقة، يطرده الشعب بعد فترة عبر صناديق الاقتراع. أما عندنا في هذا الجزء المسمى (الوطن العربي) فإن غالبية الحكام لا يصلون إلى السلطة أصلاً عبر الصناديق أو الرغبة الشعبية، بل هم منتخبون من خارج الوطن كي ينفذوا مهمات وأجندات ومشاريع لصالح ناخبيهم في الخارج مع بعض الفُتات للداخل. لهذا تجد بعض الطغاة والجنرالات يدمر بلده ويشرد الملايين من شعبه ويرهن ثروات البلاد لأسياده، لأن المصالح الخارجية تقتضي ذلك، كما حدث في العديد من الديكتاتوريات العسكرية والمخابراتية القذرة وغيرها.
هل مصيبتنا نحن العرب إذاً أننا نفتقر إلى القيادات الوطنية؟ بالطبع لا، بل نحن نحتاج أولاً إلى أنظمة وطنية حقيقية حرة غير خاضعة أو منتخبة من الخارج لا تتسلط على شعوبها لصالح مشغليها في الخارج. وهذا للأمانة ليس موجوداً حتى الآن في العالم العربي التعيس، لأننا بالأصل لم نخرج من تحت نير الاستعمار، وعندما خرج المستعمر ترك وراءه وكلاءه ليحافظوا على التخلف ولينكلوا بالشعوب بطريقة أسوأ من طريقة المستعمر ذاته، ولينهبوا خيرات البلاد والعباد ويضعوها في خزائن المستعمر. ولا بد هنا أن نذكّر مرة أخرى بالكتاب المهم للرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي بعنوان (الاستقلال الثاني) الذي يرى فيه المؤلف أن بلادنا العربية لم تستقل أصلاً، أما الاستقلالات المزعومة التي حصلت بعد خروج المستعمر فكانت مجرد استقلال مبدئي، ولا بد من الاستقلال الثاني الحقيقي الذي يتمثل بظهور قيادات وطنية أصيلة ولاؤها للشعب والوطن وليس لكفلائها في الخارج كما هو حال معظم الأنظمة العربية حتى اليوم.
باختصار فإن همروجة الوطنية والحاكم الوطني التي يضحكون بها على الشعوب العربية منذ عقود وعقود، فهي كذبة كبيرة. بعبارة أخرى وللتأكيد، لا يمكن أن يكون الحاكم وطنياً إذا كان أصلاً ليس منتخباً من داخل الوطن، وكيف يكون وطنياً إذا كان مجرد أجير عند داعميه خارج الوطن، أو بالأحرى عندما يكون مجرد كلب صيد يصطاد وطنه وشعبه وثرواته ومقدراته لصالح الصيادين الكبار الذين سلطوه علينا. ألم يكن أحمد مطر على حق عندما قال: «أمريكا تطلق الكلب علينا وبها من كلبها نستنجدُ؟».

1