القاهرة- تزخر مصر برصيد ثري من التراث الشعبي والثقافي، تتجلّى ملامحه في الفنون والحرف التقليدية التي تعكس عمق الموروث الحضاري، بدءًا من الأزياء والحرف اليدوية، مرورًا بالمنتجات التراثية والموسيقى والمأكولات والأثاث، وصولًا إلى الرياضات الشعبية، بما يجعلها واحدة من أكثر المجتمعات العربية تنوعًا من حيث البعد الثقافي والحضاري. وقد وجدت هذه العناصر طريقها إلى منظمة اليونسكو لتُدرج ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، ومن أبرزها النسيج اليدوي، والتحطيب، والسيرة الهلالية، والصناعات المرتبطة بالخيل، والأراجوز، وطبق الكشري، وآخرها آلة السمسمية التي سُجلت بملف مشترك بين مصر والمملكة العربية السعودية.ووفق تقرير أوردته وكالة الأنباء السعودية (واس)، تمثل السلع الحرفية والإبداعية إرثًا تاريخيّا مصريّا مميزًا، إذ تُعد الحرف اليدوية ركيزة أساسية في الصناعات الوطنية والاقتصاد المحلي. هذا ما دفع جهاز تنمية المشروعات في مصر إلى دعم الصناعات التقليدية وأصحاب المشروعات الحرفية والتراثية، من خلال إتاحة المشاركة في المعارض المحلية والدولية، واستثمار هذه الحرف في تنشيط السياحة الثقافية.وتبرز مدينة أخميم بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، المعروفة بـ”مدينة الألف نول”، بوصفها معقلًا تاريخيًا لصناعة النسيج اليدوي من الكتان والحرير باستخدام الأنوال، وهي حرفة تعود جذورها إلى عهد المصريين القدماء. وقد أدرجت منظمة اليونسكو النسيج المصري عام 2020 ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، كما أنشأت الدولة قرية “النساجين” في حي الكوثر بسوهاج عام 1991، دعمًا للصناعات اليدوية والتراثية، ولاسيما حرفة النسيج، عبر توفير بيوت مجهزة بالأنوال، بهدف حماية الحرفة من الاندثار، وتطويرها وتسويق منتجاتها، وتدريب الحرفيين.وفي محافظة قنا تشتهر مدينة نقادة بصناعة “الفِركة”، وهي حرفة عريقة لإنتاج المنسوجات الحريرية يدويًا، توارثتها الأجيال للحفاظ عليها، وتعود جذورها إلى العصر الفرعوني. وتُعد هذه الصناعة مشروعًا متكاملًا يبدأ بزراعة أشجار التوت وتربية دودة القز، المصدر الأساسي لخيوط الحرير، وقد أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي غير المادي.وإلى جانب “الفِركة” تتلألأ صناعة السجاد اليدوي والكليم والجوبلان في مدينة فُوّه بمحافظة كفر الشيخ، التي احتضنت مئات الورش والمصانع الصغيرة، وذاع صيت إنتاجها عالميًا لما يتمتع به من جودة وتميز. ويُعد السجاد اليدوي والكليم من أقدم الحرف المصرية، إذ استخدم المصري القديم خامات الكتان والقطن، واشتهرت هذه الصناعة بالدقة والمتانة وتجسيد الهوية المصرية. كما تشتهر قرية أبوشعرة في محافظة المنوفية بهذه الحرفة، حيث يعمل نحو 80 في المئة من سكانها في نسج خيوط السجاد لتلبية احتياجات السوقين المحلي والدولي.وامتدادًا لهذا التراث تبرز حرف التطريز اليدوي بوصفها جزءًا أصيلًا من الموروث الثقافي، ومن أبرزها التطريز السيناوي الذي اشتهر به أهل سيناء، وحرفة “التُلي” في محافظة سوهاج، وهي تطريز الأقمشة بخيوط الذهب والفضة، وتُعد من الصناعات النادرة التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر. كما تأتي حرفة الخيامية، التي ازدهرت في العصر الإسلامي، كمنتج مصري مميز يحظى بقبول محلي وعالمي، ويمثل أحد أهم المنتجات التصديرية.وفي مجال المشغولات المعدنية اليدوية، تبرز منطقتا الجمالية وخان الخليلي في قلب القاهرة الفاطمية، حيث حرفة النقش على النحاس وصناعة قطع فنية تمزج بين الفن الإسلامي والقبطي، إلى جانب منتجات مستوحاة من الرموز الفرعونية مثل زهرة اللوتس، ومفتاح الحياة، والصولجان.وتُعد صناعة الفخار والخزف من أعرق الحرف التقليدية المصرية، إذ تمثل جوهر التراث الحرفي، وتنتشر في مناطق عدة، من بينها منطقة الفواخير بمصر القديمة، وقريتا تونس والنزلة بمركز يوسف الصديق في الفيوم، وقرية جريس بالمنوفية، وقرية المجفف في الشرقية، ونجع حمادي بقنا، فضلًا عن النوبة في أسوان، والوادي الجديد وسيناء. بينما تتركز صناعة الخزف بشكل خاص في قرية تونس بالفيوم، ومركز بسيون بالغربية، ومصر القديمة في القاهرة.ومن الفخار إلى النخيل، تبرز صناعة منتجات الخوص والجريد كإحدى أقدم الصناعات التقليدية في مصر، حيث استخدم المصري القديم مكونات البيئة المحيطة به لصناعة أدوات تلبي احتياجاته اليومية، ولا تزال هذه الصناعة منتشرة في المناطق الغنية بسعف النخيل، مثل الواحات البحرية وسيناء والصعيد ومحافظات الوجه البحري.
وفي سياق الحرف التراثية يعود تاريخ صناعة الجلود في مصر إلى عهد المصريين القدماء، مرورًا بالعصر الإسلامي، حيث شكلت منطقة المدابغ بسور مجرى العيون في مصر القديمة مركزًا رئيسيًا لهذه الصناعة منذ العصر العثماني، إلى جانب انتشارها في الإسكندرية وحلايب وشلاتين. وضمن اهتمام الدولة بتطوير هذا القطاع، أُنشئت مدينة الروبيكي للجلود ومنطقة الصناعات الجلدية المتطورة في مدينة العاشر من رمضان.وفي مجال التراث الإنساني الجدير بالحماية تبرز لعبة التحطيب، التي تتخذ من محافظة الأقصر موطنًا لها، ويُقام لها مهرجان سنوي، بوصفها واحدة من أقدم الرياضات في التاريخ، والمحفورة على الجداريات الفرعونية. وتمثل لعبة التحطيب تراثًا إنسانيًا يجسد قيم الشجاعة والاحترام والالتزام بقواعد أخلاقية متوارثة، ما أهلها للتسجيل ضمن قوائم التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو عام 2016.ويمتد التراث المصري من الحرف إلى المجال الثقافي والموسيقي، حيث برزت آلة السمسمية رمزًا ثقافيًا حيًا يعبر عن الهوية المصرية، وارتبطت بأفراح المصريين ونضالهم، خصوصًا في منطقة قناة السويس. وقد نجحت مصر والمملكة العربية السعودية في تسجيل آلة السمسمية، صناعةً وعزفًا، عام 2024 ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو، في ملف مشترك يعكس أهميتها الثقافية ودورها في تعزيز التماسك الاجتماعي بالمجتمعات الساحلية.ولا يكتمل الحديث عن التنوع الثقافي المصري دون التوقف عند المأكولات الشعبية، مثل الفول والطعمية والملوخية، وعلى رأسها طبق الكشري الذي حاز شهرة عالمية، وأُدرج عام 2025 بوصفه العنصر الحادي عشر المسجل باسم مصر على قوائم التراث الثقافي غير المادي للإنسانية لدى اليونسكو، تأكيدًا جديدًا على مكانة التراث المصري وتقدير المجتمع الدولي لقيمته الحضارية.

