أحدث الأخبار
السبت 26 نيسان/أبريل 2025
هل ما زالت سوريا في حاجة لبرلمان وإعلام حر؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 26.04.2025

ليس هناك أدنى شك أن العالم تغير اليوم بشكل مذهل لم يسبق له مثيل منذ قرون، وخاصة على الصعيد الإعلامي، فقد حصلت تطورات على مدى العقود القليلة الماضية أكثر مما حصل على مدى قرون مع ثورة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والتطور الخارق لوسائل الاتصال.
وتشير الإحصائيات إلى أن حجم المواد التي نشرتها البشرية خلال الثلاثين سنة الماضية قد توازي ما تم نشره على مدى قرون، وذلك بفضل ظهور الشبكة العنكبوتية التي وفرت لسكان المعمورة فرصة للنشر والتعبير لم يشهدها العالم منذ نشوئه. وقد تحول مليارات البشر بفضل ذلك البركان الإعلامي المدهش إلى ناشرين بعد أن كان مجرد نشر سطر واحد في قسم ردود القراء بأي صحيفة أشبه بحلم بعيد المنال بالنسبة لمليارات البشر.
ويُعد هذا التطور التاريخي في مجال الإعلام نقطة تحول عظمى، لا بل بات يلعب دوراً محورياً في إعادة رسم خارطة الأنظمة السياسية ذاتها، فحتى النظام الديمقراطي نفسه الذي تُعتبر فيه سلطة الإعلام سلطة رابعة أكثر نفوذاً ربما من السلطات الثلاث المعروفة، بات يخضع اليوم لتحولات مذهلة بعد ظهور ما يسمى بظاهرة السماوات المفتوحة، أو العولمة الإعلامية التي جعلت من مصطلح عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان المعروف بـ«القرية الكونية» حقيقة لا لبس فيها. وإذا كانت الفتوحات الإعلامية الخارقة على مدى العقود القليلة الماضية قد باتت تفرض على النظام الديمقراطي نفسه إعادة النظر في تركيبته ومنظومته، فلا شك أنها في الآن ذاته أصبحت تشكل كابوساً غير مسبوق تاريخياً لكل الأنظمة الديكتاتورية الشمولية في العالم.
إن أكثر ما تفتقده الأنظمة العربية والعالم ثالثية غير المنتخبة مثلاً هو افتقادها للبرلمانات المستقلة والصحافة الحرة التي تشكل العمود الفقري للنظام الديمقراطي، مما يجعل الشعوب غير قادرة على التعبير عن مظالمها ومطالبها من الأنظمة الحاكمة، فكما هو معروف فإن ما يسمى بمجالس الشعب في بعض البلدان العربية لها علاقة بالشعب كما لي علاقة بالانشطار النووي، فأعضاؤها في أغلب الأحيان ليسوا منتخبين من الشعب، بل من أجهزة الأمن، وحتى لو شاركت الشعوب في انتخاب ممثليها المزعومين ليمثلوها في البرلمانات والمجالس المزعومة، فيبقى «الأعضاء» مجرد أدوات في أيدي الأنظمة الحاكمة، ولا يتجرؤون أصلاً على الدفاع عن الشعوب أمام السلطة التنفيذية أو النظام بشكل عام، كما كان الوضع في سوريا على مدى حوالي ستة عقود من حكم البعث البائد، وبالتالي فإن الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية لم يكن له ممثلون حقيقيون في البرلمانات أو في وسائل الإعلام المؤممة والمسخّرة كلياً للتعبير عن وجهة نظر الحكومات والأنظمة حصراً، لكن الزمن الأول تحول اليوم عالمياً، ولم تعد الشعوب تحتاج إلى برلمانات وصحافة حرة كي تعبر عن آرائها ومطالبها للضغط على الأنظمة والحكومات، فهي باتت تمتلك الآن ما هو أقوى من مجالس الشعب والبرلمانات بكثير، كما بات كل فرد قادراً على أن يكون له صفحته أو جريدته الإلكترونية الخاصة التي يستطيع أن يوصل من خلالها كل احتجاجاته ضد النظام الحاكم. ولو نظرنا اليوم إلى حجم التأثير الهائل الذي صار يمتلكه الرأي العام السوري مثلاً لوجدنا أن الشعب أصبح من خلال منابره الخاصة قادراً على ممارسة دور رقابي كبير وفعال.
**لا شك أن الوضع الجديد في سوريا لم يعد يسمح بأي حال من الأحوال بتكرار الأساليب السلطوية القديمة، فنحن اليوم في عالم جديد على الصعيدين السياسي والإعلامي
وقد باتت السطلة الجديدة في سوريا تتعامل مع الرأي العام السوري عبر وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة مختلفة تماماً، فهي لا تصم أذنيها عن المطالب والشكاوى الشعبية، بل تتفاعل معها إيجابياً بسرعة قياسية مقارنة بالسلطة البائدة. ولا شك أن الوضع الجديد في سوريا لم يعد يسمح بأي حال من الأحوال بتكرار الأساليب السلطوية القديمة، فنحن اليوم في عالم جديد على الصعيدين السياسي والإعلامي كما أسلفت، ولم يعد من الممكن أبداً تجاهل الرأي العام الذي يمتطي صهوة مواقع التواصل ليصبح حاكماً بأمره. كلنا لاحظ أن الحكومة السورية تتحرك فوراً بعد أي حملة شعبية إعلامية على الأثير الإلكتروني لتصحيح الأخطاء أو للاستجابة إلى المطالب الشعبية في هذا المنحى أو ذاك. لأول مرة مثلاً نجد الوزراء يردون على تساؤلات الشعب في مواقع التواصل، أو يقدمون الاعتذارات السريعة عن هذه الهفوة أو تلك أو هذا الخطأ أو ذاك، لا بل إن القصر الجمهوري نفسه بات يصدر التوضيحات العاجلة بشأن هذه القضية أو تلك بعد تداولها بشكل مكثف من قبل السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا تطور تاريخي على الساحة السياسية السورية، فقد أصبحت الأصوات الشعبية الحرة تمارس دور البرلمان وأكثر. ولم يعد بمقدور أي حكومة لا في سوريا ولا في غيرها أن تضرب عرض الحائط باحتجاجات وشكاوى الشعوب الإلكترونية، ولا أحد يقول لي إن بعض الحكومات العربية كالنظام التونسي أو غيره مثلاً مازال يتصرف مع الشعب بنفس العقلية الديكتاتورية السابقة، ولا يهمه الرأي العام. نعم مازال قيس سعيد يتصرف بنفس أسلوب النظام الساقط الذي كان يقوده بن علي، لكن إلى حين، وبالتأكيد فإن الثورات التونسية أو غيرها القادمة لن تكون على طريقة البوعزيزي أو الاحتجاجات الشعبية المطلبية اللطيفة، والأيام بيننا، لهذا فلا يظنن أحد في العالم العربي أنه قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لا أبداً، بل الحكيم هو من يفهم العصر وتطوراته السياسية والإعلامية جيداً، ويعمل بحكمة بمقتضاها، فلم تعد الشعوب تحتاج أصلاً إلى منابر سياسية وإعلامية رسمية طالما باتت هي تمثل نفسها بنفسها ولا تحتاج لمن يمثلها في البرلمانات أو يفسح لها المجال كي تعبر عن نفسها في الإعلام الوطني. لقد باتت تملك الفضاء المفتوح بعد أن رمت الإعلام الرسمي البائد ومجالس الشعب الهزلية في مزابل التاريخ.

1