
ليس هناك أدنى شك، كما ذكرت في مقالي السابق، أن مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون بمثابة سلطة رابعة حقيقية لا بل برلمان مفتوح فعال في البلدان التي تفتقد للديمقراطية وآليات المراقبة والمحاسبة، لأنها تشكل ضغطاً كبيراً على السلطات لتصحيح مسارها، لكن الفضاء الإلكتروني يبقى في الآن ذاته سلاحاً ذا حدين، فهو قد يكون ترياقاً في مكان ما وسُماً في مكان آخر، ففي الوقت الذي نجح فيه السوريون مثلاً في استغلال مواقع التواصل كأداة لمراقبة الحكومة وسياساتها وتصويبها والتفاعل معها إيجابياً في القضايا الوطنية التي تهم الجميع، فإن البعض يسيء استخدام النشر الإلكتروني لأغراض قذرة وخطيرة جداً، خاصة في عصر الذكاء الاصطناعي الذي صار بدوره أيضاً سلاحاً ذا حدين، وما أسهل تقليد الأصوات والفبركات واختلاق الفتن ونشرها على نطاق واسع. والمشكلة أن بعض الجمهور العام مازال يتصرف بشكل غريزي وخاصة في القضايا العقدية دون تدقيق وتمحيص، فما أسهل أن تخترع فيديو لشخص معين وهو يقول كلاماً خطيراً حول هذه القضية أو تلك، ثم تنشره على مواقع التواصل فيخلق ضجة كبرى، خاصة إذا كان فيه إساءة للرموز الدينية، وقبل أن يتم التحقق من صدقية الفيديو تكون قد وقعت أحداث مأساوية بناء على أكاذب وفبركات. وهذا ما حدث قبل أيام عندما فبرك أحد المغرضين فيديو لأحد أبناء مدينة السويداء السورية وهو يسيء للرموز الدينية، فثارت ثائرة الكثيرين، وتوعدوه وتوعدوا طائفته بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا بل قتلوا وجرحوا الكثيرين في مدينتي جرمانا وصحنايا قبل أن يكتشفوا لاحقاً أن الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل كانتشار النار في الهشيم كان مفبركاً بشهادة وزارة الداخلية السورية.
*كل الدول اليوم باتت تسن قوانين قاسية جداً لمعاقبة المسيئين والمستغلين للفضاء الإلكتروني لأهداف قذرة وتجريمهم. وبات من حق أي دولة أن تضع منظومة جديدة من القوانين لمواجهة الفضاء الإلكتروني
ولا يقتصر الأمر على الفبركات عبر الذكاء الاصطناعي اليوم، بل باتت مواقع التواصل تشكل ساحة سياسية وإعلامية خصبة لنشر الإشاعات والأكاذيب والأخبار المزيفة، وباتت الجيوش الإلكترونية تسيطر على حيز كبير في الفضاء الإلكتروني، فكل جهة تستطيع أن توظف مئات الأشخاص للكتابة والتعليق في مواقع التواصل لتوجيه الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك حسبما يخدم مصالحها، حتى لو وصل الأمر بها إلى تشويه سمعة الأشخاص والحكومات والدول والطوائف والجماعات والتنظيمات وشيطنتها لأغراض قذرة وخطيرة. وفي سوريا اليوم مثلاً هناك حملات إلكترونية مكثفة لإثارة الفتن ودق الأسافين بين الشعب السوري وتأليب المكونات السورية على بعضها البعض خدمة لمشاريع خارجية، وكما هو واضح اليوم هناك أكثر من جهة لها مصلحة في تفتيت سوريا وتقسيمها إلى دويلات قزمية عبر بث الإشاعات وتحريض الناس على بعضها البعض، وقد كشف مصدر بأن أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من الأكاذيب والإشاعات التي تستهدف سوريا مصدرها خارجي، وهذه الفبركات تفعل فعلها اليوم في أوساط السوريين المنهكين المتعبين الذين يعانون كل صنوف الفقر والقهر والعذاب.
صحيح أن مواجهة الذباب الإلكتروني متعدد الجنسيات ليس بالأمر السهل، لكن كل الدول اليوم باتت تسن قوانين قاسية جداً لمعاقبة المسيئين والمستغلين للفضاء الإلكتروني لأهداف قذرة وتجريمهم. وبات من حق أي دولة أن تضع منظومة جديدة من القوانين لمواجهة الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي، وهذا ليس اعتداء على حرية التعبير، لا أبداً، بل هو إجراء ضروري لضبط الإعلام الإلكتروني المنفلت من عقاله. قانون الجرائم الإلكترونية أصبح حاجة ملحة، وكثير من البلدان بدأت العمل به جدياً. وللعرب الذين يرفضون فكرة المحاكم الإلكترونية عليهم أن يعلموا أن القوانين الديمقراطية في الغرب باتت اليوم تعاقب المسيئين على أبسط التعديات التي يرتكبها البعض على مواقع التواصل، وهناك آلاف القضايا المرفوعة في المحاكم الغربية على أشخاص ليس بسبب تغريدة أو منشور أو صورة، بل حتى بسبب إعادة نشر تغريدة لشخص آخر فيها إساءة بسيطة لجهة ما. حتى إعادة النشر في منصة أكس مثلاً يعاقب عليها القانون البريطاني ويمكن أن تكلف الدعاوى ملايين الدولارات. وأعرف أن أشخاصاً رفعوا دعاوى على أشخاص آخرين لمجرد أنهم أعادوا نشر مجرد رابط لا يحوي أي كلمة بارزة، لكنه يتضمن إذا فتحته جملة يتهم فيها أحدهم شخصاً آخر بالكذب مثلاً. تصوروا أنه بإمكانك اليوم أن ترفع دعوى قضائية في بعض المحاكم الغربية على شخص لمجرد أنه نشر كلاماً لشخص آخر اتهمك بالكذب، وليس لأنه قال الكلام بنفسه. وإذا باتت القوانين «الديمقراطية» الغربية بين قوسين قادرة على محاكمة شخص لمجرد أنه اتهم آخر بالكذب، فمن حق الحكومات العربية أن تسن قوانين صارمة لمواجهة حملات التشويه والقدح والذم والافتراء والفبركة والشيطنة التي يمارسها كثيرون اليوم على مواقع التواصل بخفة عجيبة دون حسيب أو رقيب. وقد أصبح الوضع خطيراً للغاية ولم يعد محصوراً بشتيمة أو مسبة بين أشخاص، بل صار مصدراً لزعزعة استقرار البلدان وتأليب الناس على بعضها البعض مما يؤدي إلى صراعات دموية وأعمال عنف مرعبة على نطاق واسع، كما حصل في سوريا مثلاً بسبب منشور أو فيديو مفبرك. لقد أصبح الوضع مسألة أمن قومي للدول وليس مجرد حرية تعبير، فشتان بين حرية التعبير وحرية التبعير التي يمارسها كثيرون اليوم على مواقع التواصل. وللذين يتشدقون بالديمقراطية، فالديمقراطية لا تعني مطلقاً الانفلات الإعلامي والإساءة للآخرين، بل للديمقراطية أنياب حادة أقسى من أنياب الديكتاتورية أحياناً. ولا بأس أن تبدأ سوريا بالتصدي قانونياً للإرهابيين والمخربين والمفترين والمفتنين الإلكترونيين الذين لا يقلون خطراً عن المخربين والإرهابيين الحقيقيين في أقرب وقت ممكن.
