
-1-
وأنا أتدثر بمعطف نجوم هذا العراء الموحش.
أناغي النخيل، وأجعله أنيسي.
وأبحث في الواحة، عن ملاذ يقيني يباس روحي!
إلهي،
من أين تأتي ينابيع النور،
لتخرجني من هذا التيه،
ومن يعصمني منه، سواك؟
أنهض تحت سماء الإشراق،
أتامل حرائق بساتين أعماقي.
وأتأبط ناري المستعرة في قلبي اللّجوج،
وأمضي مرتلاً أنغام موسيقى نفس عطشى إلى اليقين!
أخاطب السماء: من أنشأك؟
وأسأل الصحراء، من سواك هكذا؟
وأقول لطيور الليل والنهار، من أودع هذه الرشاقة فيك لتحلقي في الأعالي؟!
أرقب الإبل، وأحار في صبرها المعجز!
كنتُ أحتاج خرق هذا الصمت المهيمن، لأشدو بآيات البديع،
لم ترتو النفسُ، فاشرأبت صوب مكة،
لعلها تمسك بزوغ خضرة النبوة!
وأراني أتوكأ على أحزاني،
أنتظر المطر الخصيب، ليبل ظمأ قلبي،
ويدس بركة الطمأنينة في عقلي المترع بالتساؤلات!
أحس قمر الحق،
ينبثق من هذا المدى الرحيب،
ويحيل الصحراء حديقة!
ويجعل الرمل يصدح بلغة ترفل بجداول لا تكف عن الجريان!
أحلم بتقويض هذه الأوثان البليدة،
وأرنو إلى نداء من أنشأني،
وأسرى بي إلى مدائن النور،
لأعبر هذا العالم المحكوم بالجنون،
وأعانق بساتين جناتٍ تسكن سموات ربي!
وبكل وجع المحكوم بالألم الممض،
المرتمي في هذه الوحدة العارية،
يحدوني، أمل احتضان الأنوار التي تولد من رمال الصحراء!
لأواصل سفري المرهق، في هذا اللهيب البهيج!
كنتُ وحيداً،
صاحبي جوادي، والسيف لغتي،
وهؤلاء الفقراء أصحابي،
وكنت أنتظر المطر المدرار، ليكون أليفي!
-2-
في الربذة، أحمل غربتي،
وعذابي، وأنا أبصر زمرة الدنيويين،
الذاوين، المشوهين لذاك النور الأول،
فارقني الأصحاب، ورحلوا، تاركين الأسى جليسي،
تُرى كيف أمكن لهم نسيان وصايا قمر الحق؟
وكيف طحنوا عذوبة إشراق أبي تراب، ودثروها بالرماد؟
هرست روحي، هذه الشهوات التي امتطت عُبّاد الدنيا،
وأردتني، نزوات أسرى الدينار!
استبدَ بي الحزنُ،
وأحرقني لهيب المارقين!
لظىً برح بي، وأخذني مني،
ترى كيف لي، أن أعيدهم إلى ذاك الزمن الميمون!
ومن يطفئ هذا الشجن الكامن في دمي؟!
قال لي الحبيب:
«الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»
فاحترس، وصن فؤادك من العطب،
واحذر هاوية المنافع المهلكة!
وأهداني كنزَ «قليل يكفيني، خير من كثير يرديني»!
الآن،
فقهتُ أن «الجوع كافر وبئس الضجيع»!
والآن،
أدركتُ، بلاغة بشارة الحبيب لي:
«رحمك الله يا أبا ذر تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك».
والآن، أبصر قمر الحق متشبثاً بأستار الكعبة وأقرأ في عينيه بريق دمعتين مخضلتين بالندى، أشهده، في حجة الوداع،
وأسمعه يردد: «الأكثرون، هم الأخسرون».
وأعرف أن المثقلين بالمال، آخر أصحابه لحوقاً به يوم القيامة!
ولذا عافت روحي، عطاء أبناء وكائنات السخام، الطلقاء.
وتحاشيت نفثات الأفاعي التي تسكن ضلوعهم!
وقلتُ لمقلد كسرى، وقيصر والمارقين معه:
يا أبناء الخراب، هو مال الأمة، وليس مال الدولة!
ها أنذا الآن، أبصر أبناء المتعة، يتمرغون في مستنقع السحت،
ويأكلون ثدي الحرائر! ويكنزون أوشاب الربا!
ينطقون بإسمي قمر الحق، وابي تراب، ويلوثون خضرة رايتهما!
وأبصر فك الجحيم، يتلقف الساسة القتلة، باعة الأوطان والعباد!
ماذا أبصر الآن في مدينة الرشد؟!
وما معنى هذا البناء المرتفع في أطرافها، والبساتين التي تسوم الرقيق
العذاب المُشين؟!
مُذ قامت المباني المتطاولة، قامت الفتن،
واندلع السم في دم أصحاب الشهوات التي لا ترتوي!
آه، واويلاه، صارت المنافع المبتذلة،
علامة النفوس الغريقة في سعير الدنيا!
وكثر المتمرغون في وحول كسرى، وقيصر!
إلهي،
افترس البلاء قلوب الناس،
وتسيّد الحمقى المدنسون، المشهَد!
وضاعت الجادة الواضحة!
ولذا عافت نفسي، عبيد الأموال الطائلة، المكتنزين ، وقلت لأم ذر:
«المخفف فيها أهون من المثقل».
إلهي،
بطر الناس باتساع الدنيا.
وأبصرت القناطير المقنطرة من الذهب، تكسر بالفؤوس!
حاز الخائرون الحفاة الملايين، ونهبوا أموال الفقراء،
ولم تعد لي حاجة في دنيا المتملقين ، المتنكرين لشرف دعوة قمر الحق ،
وليس لي إلاّ أن استعيد موسيقى صوته:»ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً».
*أديب ومؤرخ عراقي
