
لم يمر سوى بضعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، لكن يبدو وكأن ستين عاماً من المذابح والجرائم والأهوال والكوارث قد اختفت من الذاكرة الجماعية بسرعة البرق، وكأن سوريا لم تُذبح، وكأن الدماء لم تُسفك، وكأن ملايين البشر لم يُشرّدوا. هكذا ببساطة، نُسي بشار الأسد! هذا المجرم الذي ورث الحكم عن أبيه الأكثر إجراما، وحوّل بلداً بأكمله إلى مسلخ مفتوح، فجأة صار خارج دائرة الحديث. لم يعد أحد يذكر جرائمه التي فاقت كل تصور: خمسة عشر مليون سوري مشرّدين بين مخيمات الداخل ومنافي الخارج. أكثر من مليون شهيد قضوا ببراميل وصواريخ ومدافع وطائرات. مئات آلاف المعتقلين الذين ذابوا في أقبية المخابرات، ولم يخرج منهم إلا القليل. الكيماوي الذي خنق الأطفال وهم نائمون في الغوطة وخان شيخون وحمص، جريمة لم يجرؤ عليها حتى النازيون. ثلاثة أرباع المدن السورية دُمّرت بشكل كامل أو شبه كامل، وسويت أحياء بكاملها بالأرض. اقتصاد وطن بأكمله نُهب وسُرق، حتى صارت سوريا واحدة من أفقر دول العالم بعد أن كانت غنية بمواردها وبشعبها. كل هذا، وكأن شيئاً لم يكن.
الشعوب قصيرة الذاكرة… بل معدومة الذاكرة. الشعوب تنسى بسرعة، وهذا أخطر ما في الأمر. في لحظة ما، تتحول المأساة إلى «خبر قديم» يُركن في زاوية النسيان. ربما لأن الإنسان لا يحتمل التذكّر المستمر، وربما لأن سرعة الأحداث الصغيرة التي يضخمها الإعلام تجرف الوعي، وربما لأن الإعلام يسحب الأنظار نحو ملفات جديدة كي ننسى ما قبلها. لكن في الحقيقة: ذاكرة الشعوب أقصر من ذاكرة السمك. اليوم يصرخ الناس ويغضبون، وغداً يلتفتون إلى قضية جديدة، وبعد أشهر ينسون الجريمة الكبرى. وهذا بالضبط ما يراهن عليه الطغاة: الزمن. الزمن عندهم ليس دواءً للجراح، بل أداة قتل ثانية. حين يمر الوقت وتُنسى الجرائم، ينجو القاتل.
أما الإعلام فهو آلة طمس متقنة. النسيان لم يأتِ صدفة، بل هو صناعة. الإعلام لعب دوراً قذراً في طمس تاريخ ستين عاماً من الدم. كيف فعل ذلك؟ بالتضخيم والتهويل: يضخّ الإعلام أحداثاً صغيرة اليوم أصغر بمئات المرات من جرائم الماضي وأهواله لتصبح على حساب المآسي الكبرى بالأمس. بالتكرار: يكرر قصصاً جديدة حتى يملأ الفضاء ويخنق الحديث عن الماضي. بالتجاهل المتعمد: لا يذكر المجرمين الكبار، يترك أسماء بشار وماهر الأسد، علي مملوك، وفيق ناصر، لؤي العلي، كفاح الملحم ومئات الضباط والقادة المجرمين لتذوب في النسيان. بإعادة صياغة الرواية: فجأة تصبح المأساة «حرباً أهلية» أو «صراعاً داخلياً» بدلاً من أن تُسمى باسمها الحقيقي: جرائم دولة، جرائم إبادة، جرائم عائلة مافيوية حاكمة.
**العدالة الحقيقية تبدأ حين يُعاد فتح كل ملف، كل مجزرة، كل سجن، كل جريمة كيماوية. وحين يُساق بشار الأسد وزمرته إلى المحاكم
هكذا يُطمس التاريخ. لا بالصدفة، بل بعمل منظم ومخطط له. جريمة النسيان. النسيان جريمة ثانية فوق الجريمة الأولى. من ينسى مليون شهيد، يشارك في قتلهم مرة أخرى. من ينسى أطفال الغوطة، يخنقهم بالغاز مرة أخرى. من ينسى المعتقلين، يتركهم يموتون تحت التعذيب من جديد. السكوت على طمس تاريخ الأسد هو مشاركة في الجريمة. والتغاضي عن محاسبة القتلة يعني إعطاءهم عفواً غير معلن، وتبرئة من أبشع سجل دموي في المنطقة.
رسالة إلى السوريين… والعالم. يا سوريون: لا تسمحوا لجرائم ستين عاماً أن تُمحى كأنها لم تكن. أنتم شهود دم، وشهود موت، وشهود خراب. النسيان خيانة لدماء مليون شهيد ولدموع ملايين الأمهات.
يا عرب: لا تنسوا أن بشار الأسد لم يذبح سوريا وحدها، بل ذبح آخر ما تبقى من كرامة عربية. بجرائمه سحق فكرة الحرية والكرامة من وجدان المنطقة.
يا عالم: إن كنتم تنسون بهذه السرعة، فأنتم شركاء في الجريمة. الإعلام الذي يطمس، والسياسيون الذين يصمتون، والرأي العام الذي يتجاهل وينسى… جميعهم متواطئون.
لا عدالة مع النسيان. لا يكفي أن يسقط النظام. لا يكفي أن يهرب المجرمون بما سرقوه. العدالة الحقيقية تبدأ حين يُعاد فتح كل ملف، كل مجزرة، كل سجن، كل جريمة كيماوية. وحين يُساق بشار الأسد وزمرته إلى المحاكم، لا إلى قصور الاستجمام.
إن لم نُعِد التركيز على جرائم النظام الساقط، فسوف تُمحى سوريا من التاريخ، كما مُحيت جرائم كثيرة من قبل. لا بد أن نحاكم ونلاحق ونعاقب المجرمين على الجرائم والانتهاكات التي اقترفوها بعد سقوط النظام. من الضروري أن نحقق العدالة لآلاف الضحايا الذين سقطوا منذ عشرة أشهر، لكن حذار وألف حذار أن تنسوا دماء مليون شهيد، وصرخات مئات ألوف المعتقلين الذين ذابوا في أقبية سجون صيدنايا والمزة وتدمر وغيرها، وعذابات خمسة عشر مليون مهجر. حذار أن تتركوا أحداث الحاضر الصغيرة جداً مقارنة بأحداث الماضي المهولة وغير المسبوقة تاريخياً، حذار أن تتركوها تطمس التاريخ الأسود الرهيب لآل الأسد وشركائهم، فالعدالة لا تتجزأ أبداً.
