أحدث الأخبار
الأربعاء 29 تشرين أول/أكتوبر 2025
سلطة السرد وتحدّي التكرار: قراءة في رواية «عد إلى البيت يا خليل»!!
بقلم : منير الحايك ... 28.10.2025

إنّ المواجهة التي يأخذ كل مثقف ومبدع على عاتقه خوضها من أجل الاستمرار في تثبيت السردية الفلسطينية، هي من أصعب المواجهات، فهو من جهة يجد نفسه في مواجهة «التكرار» الذي قد يقع فيه، أو على الأقل قد يتَّهم به، ومن جهة أخرى قرار الصمود والمواجهة والاستمرار في السرد ضمن هذه السردية في أجواء بدأت تسود حول أسئلة ماهية الأدب العربي والفن بشكل عام ودوره، وحول القضايا التي يجب أن يطرحها، أو لا يطرحها.
وحسب إدوارد سعيد إن «القدرة على السرد، أو حجب السرديات الأخرى من التشكّل والظهور، أمر بالغ الأهمية للثقافة والإمبريالية، وتشكل واحدة من الروابط الرئيسية بينهما»، من هنا نجد أن قرار المواجهة واجب، يستمر فيه الكثيرون، على الرغم من كل الصعوبات والتحديات، وكفى الزعبي واحدة من هؤلاء، فماذا قدّمت في روايتها «عد إلى البيت يا خليل» (دار الآداب 2025).
تقنية ولعبة روائية تبدأها الرواية، تشدّ المتلقي وتوهمه بأنها أساس، فنجد أن كاتبةً، وهي بطلة هامشية في النص، تبدأ نصها بأنها قررت تسمية بطل الرواية «خليل»، ونراه بين القبور والجثامين وبين أنقاض بيته، ولكنها تقرر حمايته من الموت والانتحار، ومن بعدها يبدأ هذا الإيهام بالتلاشي، حتى يكاد حضورها يختفي، وتعود في نهاية النص لتنهيه فقط. وهنا أقول إنّ هذه البساطة التي توخّاها النصّ من هذا الإيهام، أعطته فرادة، فكانت عامل الجذب في بداية النص، في الوقت الذي نجد الكثير من النصوص التي يحتاج المتلقي إلى الصبر في بدايتها لتبدأ المتعة، ولكن الزعبي أرادت العكس، ونجحت.
خليل، منذ اللحظة الأولى هو كائن خيالي على الورق، ومعه يوسف الجد وثريا الجدة، ومطر الأب، وكل عائلته، وبعدهم نورا وأمه وأخواها، وكل من يظهر من الشخصيات، حتى جنود الاحتلال، على المعبر لدخول مخيّم جنين، وفي بيت نورا الذي سيحتلونه لأن موقعه مناسب للقنص، كلها شخصيات وهمية وخيالية في الشكل، وحقيقية في الواقع، وهنا أقول حقيقية لا واقعية، لأنّ الحالة التي عشتها وأنا أقرأ الرواية، وكيف كان يرافقني التفكير فيهم، وأقول فيهم لا فيها، الشخصيات، عندما كنت أغلق الكتاب، لهو أكبر دليل على أنّ «خليل» وكل من كان معه، هم الحقيقة، وهم نحن، وهم كل أولئك في غزة، وفي كل مكان محتل ويتعرض للظلم في العالم، وليس في مخيّم جنين فحسب.
تقول الرواية إن الأحداث في 2002، وأقول إنها كلّ يوم تقريبا، والأسلوب الذي توخاه النص، ولغته الجذلة والبعيدة عن التكلف، كان عنصرا أساسا، أقوى وأكثر تأثيرا من أي إيهام وتقنيات، وقد حرصت الزعبي على تبسيطه لتصل الأحداث والشخصيات، كما أرادت لها، حضورها المهيمن والمؤثر، وهي التي عادت بالزمن إلى الجد الأول يوسف، والهجرة الأولى، واستشهاده، ومجازر دير ياسين وغيرها، وضياع الأم وفقدانها كل أفراد عائلتها بسبب عدم قدرتها على العودة إليهم، وهي أحداث قرأناها بالفعل في روايات كثيرة، ووجودها في المخيّم في بيت سقفه من الزنك، يحميها قبل استشهادها في النهاية، وخليل، حفيدها، والناجي الوحيد من إحدى مجازر صبرا وشاتيلا، والذي يحاول الوصول إليها، بعدما عرفا بأمر بعضهما بعضا، وتبادلا الرسائل، أقول إنها كلها أحداث متوقَّعة، ولكن إبعادها عن الرمزية وإخضاعها لما هو أكثر صعوبة وحساسية، ألا وهو بثّ الحياة فيها في الورق، بين دفّتي كتاب، فكانت كأنها شخصيات حية بالفعل، لهو أمر صعب ونادر، تحقَّق بالفعل في هذه الرواية.
قد تكون الأحداث اليومية في غزة التي كُتبت الرواية في أثناء حدوثها، وقرأتُها وهي ما زالت تحصل، سببا من أسباب «حياة» الشخصيات في مخيلتي، والأمر هنا ليس صدفة جاءت داعمة للنص، بل أقول إنه ذكاء يُضاف إلى ما حققته الكاتبة، فاستغلال واقع الحال، للحديث عن السردية في مواجهة الزيف اليومي، هو برأيي حنكة من الكاتبة استغلتها لتعيد السرد من أجل إثبات الحق، وإثبات أن الجرائم ليست وليدة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولن تتوقف مع توقّف الحرب.
أعطت الرواية أملاً في النهاية عندما لم تصب الرصاصة قلب نورا، وعندما لم تمزقها الدبابة أشلاءً، وعندما تصل رسالتها إلى خليل ويعرف بما حصل مع جدته، على الرغم من عدم تحقق اللقاء، فالأمل لا يعني الاستغناء عن واقعية ما يحصل والسردية كما هي، وما قامت به الكاتبة/البطلة داخل النص، بأن تركت خليل حيّاً، هو أمر عميق أيضا، فهو يعود إلى عمله، ويقول في رأس الرسالة التي لم يكن باستطاعته إكمالها «صباح الخير يا نورا»، ويقنع نفسه بأنه سيكملها، وعلى الرغم من كل الموت والدم الذي نقلته الرواية كما هو، بين موت الجد ومن معه، وبقاء أبناء ثريّا، التي خرجت لتبحث عن زوجها يوسف، مع أختها، ومجزرة صبرا وشاتيلا التي نجا منها خليل، وأحداث المخيّم الذي يجوع فيه الناس وتتمزق أجسادهم تحت الدبابات في الشوارع، تأتي عبارة «صباح الخير» لتكون الخاتمة التي كان المتلقي بانتظارها، فالسردية كما هي، قرأها وتفاعل معها وأصابه ما أصابه بسببها، ولكن «الخير»، وقدرة الكاتبة على السرد كانت الأساس الذي معه ستبقى السردية حية تدافع عن نفسها.
تعددت الأصوات، ولكنها بالفعل صوت الكاتبة/البطلة، ولم تحمل عناوين فرعية، تلك الفصول التي كانت تتبادل فيها الشخصيات السرد، وذلك يُضاف إلى أهمية الأسلوب في هذا النص، فالمتلقي لم يكن يجد صعوبة في متابعة الراوي، لأنه تحدث عن الأحداث نفسها، بالعودة إلى التاريخ، أو واقع زمن الرواية الحالي، حتى عندما كانت الكاتبة/البطلة تتدخل، كان المتلقي يعرفها بعد الفقرة الأولى. وهنا تقنيات متعددة لجأت إليها الزعبي، لم تُغرِق في اعتماد إحداها، كي لا يغرق نصها في الشكل، بل من أجل الجذب فقط، ومن أجل مساعدة شخصياتها على الاستمرار في الحياة.
«عد إلى البيت يا خليل»، رواية مكرَّرة أحداثها، فيكفي أن تكون فلسطينيّا، أو أن تعرف فلسطينيّا، أو تشاهد التلفزيون وتتابع وسائل التواصل الاجتماعي، كي تحصل على أحداث مشابهة، أو أن تقرأ كنفاني وسحر خليفة وإلياس خوري وغيرهم، ولكن أهميتها تكمن في «المواجهة» المستمرة، واستمرار السرد في السياق الاجتماعي والتاريخي والفني والأدبي.. للسردية الفلسطينية، مع الإبقاء على اللذة والمتعة حاضرة، لأنّ الفنّ «غايته الإمتاع»، حتى ولو كانت المتعة تتضمن الألم وإحياء المشاعر الإنسانية، واستفزاز الدموع في الكثير من الأحيان، فهذا على الأقل يعيد المتلقي للشعور بإنسانيته! أوليست إنسانية الإنسان غاية يسعى المبدع إلى إبرازها لدى من يتذوق إبداعه؟

1