عمالقة التنمية العقارية لا يتوقفون عن تخريب النسيج الاجتماعي في بيروت ولو بخطوات بطيئة وممنهجة لكنها عمقت الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء.
بيروت- يتواصل تدمير النسيج الاجتماعي في بيروت في ظل تحويل الأماكن العامة إلى مبان ضخمة وفضاءات فخمة ودفع الفقراء إلى ضواحي المدينة.يستحوذ تدمير المدن والمباني في سوريا، جراء الحرب الأهلية الدائرة هناك وبث الرعب في قلوب السكان في المدن العراقية، على اهتمام العالم حاليا، في ما قد يبدو لفت الانتباه إلى مباني العاصمة اللبنانية بيروت، الغير بعيدة عن تلك المناطق، أمرا ثانويا.لمحة بسيطة لكنها عميقة تستوقف كل من يلاحظ ذلك التدمير “الناعم” الذي تشهده مدينة بيروت ويسير بخطى بطيئة لكنها ثابتة على مرأى من أعين مواطنيها.
تطور “عقيم” في المباني وهوة شاسعة بين الطبقات الاجتماعية يشهدها اللبنانيون الذين عايشوا ويلات الحرب الأهلية ودمارها، فمنذ ذلك الحين لم يتوقف جشع المستثمرين اللبنانيين وعمالقة التنمية العقارية عن تخريب النسيج الاجتماعي للمدينة بخطوات بطيئة وممنهجة. وقد أصبحت الفجوة بين أصحاب المنازل والعقارات والمستأجرين واضحة للعيان اليوم.ولفهم طبيعة التنمية العقارية في لبنان، يستوجب ذلك زيارة خاطفة لوسط بيروت، حيث استحوذت شركة “سوليدير” اللبنانية على مشروع إعادة إعمار المدينة بعد الحرب الأهلية (من 1975 إلى 1990) فأعيد تأهيل وبناء الساحة حسب مخططات معمارية حديثة وأنشئ مسجد محمد الأمين الضخم غربي الساحة ورمم نصب الشهداء وعادت الساحة قلب العاصمة بيروت من جديد.
ويضم وسط بيروت عدة مراكز جديدة تعج بالفضاءات التجارية الضخمة والمباني الحديثة ذات الأدراج الإلكترونية التي تمت إعادة بنائها بتكلفة باهظة لكنها بقيت فارغة، باستثناء بعض المحلات والمكاتب التي استأجرتها شركات كبرى لبيع منتوجات أرقى الماركات العالمية، حيث لم يعد للفقراء مكانا فيها وصارت المحلات للأثرياء فقط.
أما فيما يتعلق بأسواق بيروت التي تمت إعادة ترميمها مؤخرا، فلم تعد توحي بالطابع العتيق، حيث كان يعرض التجار بضاعتهم في جو تفوح منه رائحة التوابل النادرة ويأتيه المتسوقون من كل حدب وصوب، فقد أُطيح بالنسيج الاجتماعي لهذه الأسواق المنشأة في القرون الوسطى، واستُبدلت الأسواق العتيقة بـ”مولات” ضخمة مخصّصة لشرائح اجتماعية معينة.
وطغت رائحة مستحضرات التنظيف على الروائح العطرة التي كانت تميز الأسواق القديمة وسط بيروت، حيث أصبحت علامات الحالات الطارئة والعناوين واللافتات كلها مدونة باللغة الإنكليزية وكل ما يمكن لزوار مراكز التسوق سماعه اليوم هو الموسيقى الصاخبة وخطوات المتسوقين السريعة التي توازي سرعة الحياة العصرية. لا شيء يوحي بأنك وسط بيروت القديمة وقد يخيل للسائح للوهلة الأولى أنه في نيويورك رغم محافظة المكان على التخطيط المدني السابق.
أسواق أياس والطويلة والجميل والصاغة وأوراد والأروام، التي بنيت وفق النمط العربي القديم وكانت أسواقا شعبية ومقصدا للبنانيين كافة ومكانا لتفاعلهم وتواصلهم لم تعد كسابق عهدها.
أسواق مدينة بيروت الجديدة والمستحدثة، باتت صادمة لمن يعرفها قديما، حيث مسح ما بقي من ذاكرة اللبنانيين عن صور مدينتهم وتاريخ أسواقهم التقليدية الشهيرة. بقيت الأسماء لكن تاريخ وسط بيروت محي كله.
أكثر ما يجلب انتباه المارة وسط بيروت هو ذلك الجانب “الاستثنائي” الذي لا يمكن رؤيته إلا في لبنان. فعلى الرغم من أن المحلات التجارية لم تخصص بالضرورة للأثرياء فقط كما يقال عنها غالبا، إلا أنها تبقى مثالا لبنانيا جيدا لما يطلق عليه البعض “البنية العدائية” التي عمقت الهوة بين الفقراء والأغنياء.
فالمحلات هناك تقوم على نظام الملكية الخاصة تصطف كاميرات المراقبة على طول شوارعها، بالإضافة إلى حراس الأمن الذين عادة ما يكونون مصحوبين بكلاب حراسة.
البنية الجديدة لوسط بيروت أصبحت مرآة تعكس الفوارق الاجتماعية بين اللبنانيين، ولا سيما في صفوف السياسيين والطبقة الحاكمة. ففي حين حافظت بعض الأسر الأرستقراطية التي حكمت لبنان سابقا على بعض تقاليد الضيافة وأبقت حدائقها وبعض منازلها القديمة مفتوحة للجمهور، حول معظم السياسيين الحاليين مقرات سكنهم ببيروت إلى حصون حقيقية داخل المدينة، مستحوذين بذلك على أجزاء كبيرة من الأماكن العامة التي باتت توثق العديد من الانتهاكات والمضايقات في حق المارة من قبل حراس أمن تلك المنازل.
وفي حين يستحوذ أغلب أصحاب السلطة على مناطق بأكملها وسط بيروت، يتم الاستيلاء على أجزاء أخرى من المدينة بتحويلها إلى مناطق خاصة بالطبقة البرجوازية مثل منطقة مار ميخائيل الساحرة بمنازلها التقليدية الجميلة.
قبل قرن، لجأ الناجون من الإبادة الجماعية للأرمن إلى تلك المنطقة لكسب عيشهم من مختلف الأعمال الحرفية. ومنذ حوالي أربع سنوات، بدأت الحانات الشعبية والمعارض والورش الفنية تزدهر هناك، مما أدى إلى اجتذاب عدد أكبر من النخبة والمثقفين للمكان الذي سرعان ما استحوذت عليه الشركات العقارية، فقامت بتدمير بعض المنازل التقليدية لتعوضها بفيلات وطوابق سكنية ضخمة وفاخرة.
في المقابل قام سكان المنطقة البسطاء ذوو الجذور الأرمينية، بشطب اسم الشارع الرئيسي في مار ميخائيل وإعادة تسميته بشارع ”أرمينيا”، خوفا من أن يتم استبعادهم تماما نحو مشارف المدينة.ويظهر الفرق الشاسع بين الطبقات الاجتماعية في لبنان بوضوح أكبر خاصة في هذه المنطقة، حيث تعرض إحدى مكتبات الفنون العصرية أعمالا فنية لنخبة من الفنانين اللبنانيين الذين يقدمون معروضات تم جمعها من ضاحية بيروت الفقيرة مثل علبة كبريت وغيرها من الأدوات اليومية، والنظر إليها كما لو كانت أشياء غريبة تم جمعها من كوكب آخر وهذا ما يذكرنا بمعارض الحقبة الاستعمارية للقرن 19 بأوروبا.
ويبقى مشروع إعادة إعمار وسط بيروت فرصة هامة لإعادة الحياة للمدينة، كما يعود بالنفع خاصة على الاقتصاد اللبناني، لكن الهندسة المعمارية ليس لها إلا أن تعكس صورة المجتمع.أموال طائلة أنفقت لتجديد وسط بيروت وإعادة بناء أسواقها وتجديدها بعد الحرب، لكن إلغاء المسحة الشعبية من المدينة ساهم في تحصين الطبقات الغنية لزيادة تغلغل نفوذها في البلاد وهو ما ساهم بدوره في تواصل تهميش الطبقات الوسطى والفقيرة من السكان. أما المكان الفاصل بين الطبقتين، فهو إما في طور الاختفاء أو التحول إلى مراكز تسوق ومواقف سيارات في زمن تصبو فيه وسائل التكنولوجيات الحديثة إلى تقليص المسافات بين أفراد المجتمع.
إعادة بناء وسط بيروت تدمير ناعم للنسيج المجتمعي !!
بقلم : الديار ... 10.03.2015