بقلم : سليمان الشّيخ ... 21.06.2009
في الخامس من حزيران (يونيو) 1967، وفي أعقاب الحرب التي شنتها القوات الإسرائيلية على بلدان عربية عدة تحيط بفلسطين، وبعد الهزيمة التي تكبدتها جيوش تلك البلدان، بادرت القوات الإسرائيلية، وبعد استيلائها على القدس بأكملها، إلى نسف وتدمير حي المغاربة في المدينة، المحاذي للحرم القدسي مباشرة بعد أيام قليلة من احتلالها للمدينة. فما أسباب ذلك، وما هي دوافعه وأهدافه، وما علاقة حائط البراق بالأمر؟.
من المعروف أن مدينة القدس تحتوي أماكن دينية مقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية، وإدارة المدينة كانت تعترضها مشاكل دائمة منذ زمن الإدارة العثمانية، وبعدها البريطانية، حتى عام 1948، عندما احتلت المدينة من قبل التنظيمات الصهيونية وتم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. ولم يكن ذلك الاحتلال إلاّ للجزء الغربي من المدينة، في حين أن الجزء الشرقي بما يحويه من أماكن مقدسة، فقد أصبح من ضمن المملكة الأردنية بعد توحيد ضفتي الأردن في أوائل خمسينات القرن الماضي، فما الذي قامت به إسرائيل من إجراءات، وما الذي اتخذته من قرارات بالنسبة للقدس بالذات؟
في 11/12/1947 اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارا بجعل القدس مركزا للحكومة الإسرائيلية، علما أن مدينة تل أبيب كانت تعتبر العاصمة الإدارية للدولة الوليدة، وقد هدفت الحكومة من وراء ذلك: 1ـ كسب اليهود في جميع أنحاء العالم، حتى ولو كان بعضهم غير صهيوني ولا يتمسك بالعودة إلى فلسطين. 2 ـ تعطيل تنفيذ توصية الأمم المتحدة باعتبار القدس مستقلة عن التقسيمات السياسية التي تم فرضها، والتوجه إلى تدويلها، وإخضاعها إلى نوع من التنظيم المستقل عن كلا الجانبين الصهيوني والعربي. 3 ـ في 18/6/1967 وبعد حرب الأيام الستة أعلنت الحكومة الإسرائيلية توحيد شطري المدينة، واعتبرتها عاصمة رسمية للدولة. 4 ـ بادرت ومباشرة وبعد توقف الحرب إلى مصادرة منطقة امتدت من جبل سكوبس وحي الشيخ جراح، واستولت على ستمائة بناية ومساكن أخرى كان يقطنها نحو ستة آلاف عربي فلسطيني، وهدمتها وشردت أهلها.
إذا ما كانت الأسباب الكامنة وراء التصرفين، إيجاد مساحات مناسبة لبناء أحياء يهودية، وإسكان مهاجرين يهود فيها، وزيادة عدد السكان اليهود في قلب القدس وعلى مقربة من الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، إلا أن تدمير حي المغاربة له خصوصية، وله أهدافه الخاصة فوق ما في ذلك من أهداف عامة، فما هي تلك الخصوصية في الأهداف؟
ذكرت المصادر التاريخية أن الأفضل إبن صلاح الدين الأيوبي، وعندما كان حاكما لمدينة القدس وغيرها من مناطق، فإنه وفي عام 1193، أوقف الحارة التي بجوار سور المسجد الأقصى من جهة الغرب إلى المغاربة ـ الحجاج المغاربة الذين جاءوا من بلدان المغرب العربي واستقروا في القدس ـ لتوفير المساعدة وتقديم الخدمات اللازمة للحجاج والمجاورين من بينهم. وأوقف الأفضل مدرسة الأفضلية لتقديم الخدمات التعليمية لهم، وليسكنوا في مساكنها، وينتفعوا بمنافعها. واستمر هذا التقليد على حاله، وقد تعزز بعد وصول مجموعات من الأندلسيين المغاربة إثر نكبتهم في الأندلس نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن الذي تلاه. فازدادوا عددا وتكاثروا وتوسعوا في الحي الذي حمل اسمهم، وظهر بينهم علماء ومجتهدون وإداريون أكفاء.
يذكر أن الحد الشرقي للوقف المغربي يعرف بحائط البراق ـ هو الحائط الذي ربط به البراق أثناء إسراء النبي ومعراجه إلى السماء. ويحتل جزء من هذا الحائط مكانة مقدسة عند اليهود أيضا، حيث يعتقدون أن المداميك الستة السفلى منه هي بقية من سور الهيكل الذي دمره الرومان عام 70 ميلادية.. كما وتجدر الإشارة إلى أن السلطات الإسرائيلية لجأت بعد حرب العام 1967 إلى تدمير جميع الأوقاف والمساكن في الحي الغربي، بهدف تهويد المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى، لا سيما منها المحيطة بحائط البراق. فهل سبقت حادث النسف والتدمير، حوادث عنيفة واشتباكات بين المسلمين واليهود، وهل ذهب ضحايا من جراء ذلك؟
بوجود الدولة القادرة والقوية، فإن مشاكل كثيرة يمكن معالجتها وحلها، كما أنه يمكن مواجهة ووضع حد لطمع الطامعين من الدول الخارجية والولاة المحليين. إلاّ أن الدولة عندما تضعف وتمرض، فإن عش دبابير المشاكل يمكن أن ينفتح ويزداد وجع رأس الدولة، وتصبح عرضة لابتزازات ومساومات، ومحاولات بعض الدول والولاة تحقيق مطالب ومكاسب على حساب بعض أقاليمها، وربما على حساب وحدتها أو حتى مصيرها. هكذا يمكن اختصار "قانون" وجود الدول واستمرارها. والدولة العثمانية في عمرها الطويل، كانت نموذجا لذلك. فمن المؤكد أن مشاكل كثيرة كانت تبرز، ومنها ما كان يهدد وحدتها واستمرارها، إلاّ أنها وعندما كانت في فتوتها وشبابها وقوتها، فإن كفاءة وقدرة السلطات فيها كانت قادرة على احتواء أعقد وأصعب المشاكل وحلها، أو قمعها وتسويتها، إلاّ أن علم اجتماع القاعدة الخلدونية في نهوض وقيام الدول، ثم تراجعها، أصاب الدولة العثمانية.
من أبرز المشاكل التي كانت قابلة للتصعيد والاحتدام بين فترة وأخرى، يمكن إيراد مشكلة حائط البراق وما يمثله للمسلمين واليهود، والخلاف فيما يتعلق بآليات التواجد حوله وزيارته. ففي ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، وأثناء اندفاعة محمد علي باشا وابنه إبراهيم للسيطرة على بلاد الشام وانتزاعها من أيدي السلطنة العثمانية، برزت مشكلة الحرم القدسي وحائط البراق، إذ حاول اليهود ـ كما ذكرت المصادر التاريخية ـ تبليط المكان المحاذي للحائط ورفع أصواتهم عنده وزيادة تجمعاتهم حوله، ما حدا بشيخ المغاربة بالقدس للتقدم بعرائض احتجاجية إلى حكمدار حلب ـ كانت القدس تابعة لسلطاته ـ وإلى محمد علي باشا وإلى مجلس شورى القدس، وقد جاء في رد مجلس شورى القدس.
إلاّ أن وجود القناصل الأجانب في القدس، وازدياد تدخلاتهم بالقضايا المحلية، وبسط حمايتهم، على الأجانب واليهود، أخذ يثير مشاكل لاحقة، بين الحين والآخر، خصوصا فيما يتعلق بحائط البراق، إلى أن تم انهيار وتفكك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وصدور وعد بلفور عام 1917، واحتلال فلسطين من قبل الاستعمار البريطاني، وتوالي قيام الاشتباكات بين أبناء البلاد من الفلسطينيين مع العناصر الصهيونية تؤيدها وتدعمها القوات البريطانية التي أخذت تغذي العداء والكراهية وزيادة هجرة اليهود الصهاينة والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وأملاكهم، خصوصا حائط البراق في القدس. ومن أهم الحوادث التي سجلتها المصادر التاريخية الحديثة، انتفاضة البراق عام 1929. فما الذي حدث ذلك العام؟
لقد سبق انتفاضة البراق أو هبّته، أو ثورة البراق عام 1929 حسب مصادر أخرى، حوادث ومصادمات كثيرة، وبعضها عنيف ودموي بين الصهاينة وبمساعدة من البريطانيين من جهة، وبين الفلسطينيين العرب من جهة أخرى قبل وأثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين، خصوصا بعد منح وعد بلفور لليهود. فيما أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن الصهاينة رتبوا قيام تظاهرة ضخمة في مدينة تل أبيب في 14/8/1929 بمناسبة ذكرى تدمير هيكل سليمان، أتبعوها بترتيب قيام مظاهرة ضخمة أخرى في اليوم التالي بمدينة القدس، أحاطوا فيها بالحرم القدسي وحائط البراق، ورفعوا العلم الصهيوني وأطلقوا العنان لأبواقهم وهتافاتهم وأناشيدهم، وشتموا المسلمين، وطالبوا باستعادة حائط المبكى، كونه حسب اعتقادهم الجدار الباقي من الهيكل، إلاّ أن المسلمين ردوا في اليوم التالي ـ وكان يوم ذكرى المولد النبوي ـ بمظاهرة حاشدة بعد أد
هذا وقد شكلت عصبة الأمم في أيار/مايو من عام 1930 لجنة للتحقيق في حوادث العام 1929، وتوصلت بعد تحقيقات أخذت وقتا طويلا، وبعد اجتماع وتحقيق مع عشرات الأشخاص إلى النتائج التالية: 1 ـ للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي ـ حائط البراق ـ ولهم وحدهم الحق فيه، لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه وقفا حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير. 2 ـ لليهود حرية السلوك إلى الحائط الغربي لإقامة التضرّعات في جميع الأوقات، مع مراعاة الشروط الصريحة التي أصدرتها إدارة فلسطين بشأن استعمال الأدوات، ولا يجوز جلب أي أدوات عبادة إلى جوار الحائط، ويمنع جلب خيم أو ستارات أو ما شابهها، وعدم النفخ بالبوق الخ.
إلا أن القوانين والإجراءات التي تم تثبيتها قبل شهر حزيران من عام 1967، من قبل جهات وسلطات دولية ومحلية، صارت أثرا بعد عين، وطبق المحتل الإسرائيلي قوانينه وإجراءاته، ونسف بيوت حي المغاربة كلها، واستولى على الرصيف المحاذي للجدار، وعلى تكايا وزوايا وأوقاف كثيرة بالقرب من الحرم القدسي وجدار البراق. وكأن لسان حاله كان يقول للجميع، بمن فيهم المنظمات الدولية: بلّوها واشربوها قراراتكم وإجراءاتكم السابقة، فالسلطة لنا، ونحن الذين نقرر هنا ما هو مناسب أو غير مناسب.