بقلم : د.خالد الحروب ... 26.08.2009
جزء كبير من النقاش المُثار عربيا في مسألة الديموقراطية دار ويدور حول إشكالية الترويج للدمقرطة والفكر الديموقراطي رغم الحقيقة المريرة المتمثلة بغياب ديموقراطيين حقيقيين - كما هي بشكل أوبآخر أطروحة غسان سلامة التي عرضها في كتابه المعروف "ديموقراطية من دون ديموقراطيين". تتبدى هذه الإشكالية الآن وبعد مرور عقود طويلة من الفشل العربي أعمق مما ظن الكثيرون، وأكثر تعقيدا وصعوبة على التفكيك. المنطقة العربية هي من المناطق القليلة في عالم اليوم التي لا تزال عصية على الدمقرطة.
تتجاوز القضية معضلة غياب "الديموقراطيين" إلى غياب الوعي بجوهر "الديموقراطية" نفسها، بما يقود إلى رؤية ذات الإشكالية بشكل معكوس أيضا، أي "ديموقراطيين من دون ديموقراطية". ولا يعني النظر إلى الإشكالية معكوسة القول بوجود "ديموقراطيين" لكن القصد لفت الانتباه بعمق أكثر إلى معنى "الديموقراطية" نفسها والتسطيح المُضلل الذي تُرى من خلاله. أما استخدام لفظة "ديموقراطيين" هنا فلا يتعدى كونه إجرائياً ويُستخدم ليعكس رؤية ذاتية (أي من الداخل إلى الخارج)، أي تعريف من يصفون أنفسهم بأنهم ديموقراطيون لأنفسهم.
لا جدل في صحة المقاربة الأولى "ديموقراطية من دون ديموقراطيين" والتي أكدتها التجارب المختلفة خلال عقود قيام دولة ما بعد التخلص من الاستعمار العربية. تنظر هذه المقاربة للمكونين اللذين يتم تأملها هنا: "الديموقراطية" و"الديموقراطيين" من زاوية مهمة وهي التركيز على عدم ترسخ فكرة الديموقراطية نفسها في مناخ يخلوعملياً من "الديموقراطيين". أس المعضلة بحسب هذه المقاربة يكمن في غياب الديموقراطيين. لم تتطور بيئات وتجارب وأفكار وسجالات تمكنت من تحويل النخب السياسية والقبلية والحزبية والدينية والاجتماعية إلى نخب تدمقرطت حقا، وتحولت إلى "ديموقراطيين". حتى عند من يفترضون في أنفسهم "الدمقرطة" أويعتبرون أنفسهم ديموقراطيين ليس ثمة شواهد على تعقل ووعي عميق للدمقرطة فكرا وممارسة. ينطبق هذا على من هم في السلطة ومن هم في المعارضة على حد سواء، بما يجعل القاسم المشترك الأسوأ في هذا السياق هوالغياب الكلي للـ "ديموقراطيين" في المنطقة العربية وهم إفتراضا الحامل الأساسي لأي مشروع دمقرطة مأمول.
المقاربة الثانية "ديموقراطيين من دون ديموقراطية" هي الأخرى صحيحة وأسها هنا غياب فهم الديموقراطية نفسها. فهي قد تُفهم إيديولوجيا وخلاصياً بمعنى إتيانها بالحلول الناجزة المؤدلجة فتصبح "الديموقراطية هي الحل" على غرار "الإسلام هوالحل"، بما يحرف الديموقراطية من كونها آلية للاجتماع السياسي والثقافي إلى إيديولوجيا طوباوية وشمولية. وهناك إدراك آخر للديموقراطية بكونها وسيلة لشرعنة السيطرات التقليدية، فمن خلالها يتم إعادة إنتاج أنماط الحكم الاستبدادية القائمة عبر تزييف الانتخابات أوالتحكم في نتائجها مسبقاً، بما يفقدها جوهرها الحقيقي ويحولها إلى واجهة تجميلية. وهناك فهم آخر للديموقراطية يراها وسيلة لتحكم الأغلبية بالأقلية باسم المجموع، ومحاولة فرض إكراهات على المجتمع بشكل عام بمسوغ الحصول على التفويض الانتخابي. وهذا يحرف أيضا فكرة الديموقراطية عن جوهرها الحرياتي ويحولها إلى أداة قامعة للحريات الفردية أوالجماعية.
في معظم الأفهام السائدة عربيا للديموقراطية، سواء التي ذكرت أعلاه أوسواها، هناك أوجه خلط حادة وكبيرة تؤكد فرضيتي "ديموقراطية من دون ديموقراطيين" و"ديموقراطيين من دون ديموقراطية". الوجه الأول للخلط والاختلال الكبير لـ "الديموقراطية العربية" هوفي خفض سقفها التشريعي. فحتى هذه اللحظة ما زال الجدل والخلاف كبيرين حول قضية أين تقع السلطة والمرجعية النهائية هل هي بيد الشعب أم بيد الشريعة. كل الفكرة الديموقراطية تدور حول حسم الصراع التاريخي الطويل على مرجعية الحكم وفيما إن كانت وضعية أم غيبية. وجوهر ما تطور إليه التسيس الجمعي الذي يحمل اسم الديموقراطية وأوصله إلى ما وصل إليه في العصر الحديث هواحتلال فكرة حكم الشعب قلب الممارسة والتفكير الديموقراطي.
وجه الخلط الحاد الآخر في فهم "الديموقراطية" و"الفكر الديموقراطي" بما يدعم من غيابها الفعلي هوافتراض تضمنها احترام أفكار وخيارات الآخرين المُختلف معهم، ويتم عادة توسعة هذه الفرضية إلى درجة حظر النقد وعدم المساس بالخيارات والأفكار الأخرى، وهذه فرضية خاطئة. فإذا كان أحدنا يحترم فكر وخيارات الآخر المختلف معه لتبناهما ولما بقي مختلفاً معه. لكن ما يقع في قلب الفكر والممارسة الديموقراطية هواحترام حرية الآخرين في تبني الفكر والخيارات التي يختارونها، وليس في احترام تلك الخيارات وهناك فرق كبير بين احترام حرية الآخرين في الاختيار، وفي احترام اختياراتهم نفسها. وهكذا فإن "الديموقراطية" تعني فيما تعنيه الإقرار بالتنوع وبوجود الأفراد، والجماعات، والهيئات، والأفكار، والعقائد، والتوجهات، والممارسات المختلفة والمتناقضة في نفس الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي الواحد، ولا تعني الاتفاق الجماعي على ما تتضمنه تلك الممارسات والعقائد والآراء. وبكلمة واحدة فإن الشرط الديموقراطي لا يفرض على كل فرد احترام الأفكار التي يتبناها الآخرون لأن هذا يحد من حرية النقد وحرية التفكير، لكنه يتطلب احترام حرية الآخرين في تبني ما يشاؤون من أفكار.
الفكرة الأخيرة هي سبب مركزي في غياب الفعلي لا اللفظي والتجميلي لـ "الديموقراطية" في المجتمعات العربية، وحتى في الفهم العربي والإسلامي لها. ولعل الأمثلة كثيرة جداً وأكثرها بروزاً في الحالات التي تُثار بها الزوابع محلياً وعالمياً ضد كل من يُناقش أية قضايا حساسة تخص العرب والمسلمين (فكرية، أواجتماعية، أودينية). فالفرضية هنا بوعي أم بدونه تقول بأن على "هؤلاء الذي يزعمون الديموقراطية" احترام خصوصياتنا الثقافية المتعددة وعدم نقدها. ومحلياً فإن نفس تلك الآلية تطبق لكن بقسوة وصلابة أكثر حيث يضمر النقد والفكر النقدي بشكل فادح خشية المساس بقائمة طويلة ولا تنتهي من الحساسيات المختلفة. فالذي يُفترض دوما هنا هوأن الامتناع عن النقد والسكوت المُطبق إزاء ما قد يختلف المرء عليه هوممارسة ديموقراطية تدلل على "الاحترام" لما يتبناه الآخرون. لكن من ناحية عملية فإن ذلك السكوت يأتي على الضد تماماً من الممارسة الديموقراطية الحقيقية ويكرس غيابها. الديموقراطية هي حرية النقد واتساع نطاقه: نقد الخيارات والأفكار والطروحات وتحديها، لأنه من دون آلية النقد المتواصل فإن مصائر تلك الخيارات والأفكار والطروحات والأفراد الذين يحملونها شبه معروف سلفاً وهوالتكلس والجمود والأكلاف الباهظة.