بقلم : نقولا ناصر* ... 12.10.2009
(**إن عملية الضغط الأميركي على الرئاسة الفلسطينية يجري تنسيقها على أرفع مستوى في البيت الأبيض نفسه الذي تراهن عليه هذه الرئاسة)
في خضم السجال الفلسطيني والعربي الساخن لتحديد المسؤول والمسؤولية عن تأجيل عرض تقرير لجنة غولدستون على التصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في الأول من الشهر الجاري إلى شهر آذار / مارس المقبل، ثارت عاصفة سياسية غطت كثافة دخانها على المسؤول الأميركي عن زج الوضع الفلسطيني في حالة من الغليان تعمق الانقسام فيه، وتهدد بتأجيل المصالحة الوطنية التي بدا توقيع الاتفاق عليها قاب قوسين أو أدنى في السادس والعشرين من هذا الشهر، كما أعلن الوسيط المصري، بينما تجد رئاسة منظمة التحرير نفسها في أزمة مصداقية لم يسبق لها مثيل، لتثبت واشنطن مرة أخرى أنها غير مؤهلة لأي وساطة نزيهة في الصراع العربي الإسرائيلي وأنها سوف تظل إلى أمد غير منظور أسيرة الابتزاز الإسرائيلي لكي تمنح الأولوية دائما لحماية وكيلها الإقليمي في دولة الاحتلال من القانون الدولي والمجتمع العالمي بحيث أصبحت الإدانة العربية التقليدية لها بازدواجية المعايير قاصرة عن الوصف الدقيق لدورها كشريك لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
وكما أثبت الإجماع الوطني والشعبي الفلسطيني على رفض "التأجيل" ثم قرار الرئاسة الفلسطينية بإعادة عرض التقرير على مجلس حقوق الإنسان، وكما أثبت الإجماع العربي على رفضه كذلك ثم قرار جامعة الدول العربية بعرض التقرير على الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن قرار التأجيل لم يكن فلسطينيا ولا عربيا، بل كان قرارا إسرائيليا قامت الولايات المتحدة بدور الوكيل لإسرائيل في تحويله إلى قرار دولي في جنيف اتخذت منه ذريعة لتهديدها باستخدام حق النقض "الفيتو" لإجهاض المبادرة الليبية إلى عرضه على مجلس الأمن الدولي.
ولا يوجد سبب للشك في أن الرئاسة الفلسطينية كانت صادقة وجادة في استصدار قرار من مجلس حقوق الإنسان بحمل تقرير غولدستون وتوصياته واستنتاجاته إلى مجلس الأمن الدولي علها تتمكن من تجاوز "الفيتو" الأميركي لإحالة الأمر برمته إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، في الأقل لأنها بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد، هما حماس وحكومة دولة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو، قبل أن تقلب واشنطن الطاولة على رأس "شريكها" الفلسطيني في السعي إلى استئناف "عملية السلام"، لتزداد سلطة الرئاسة الفلسطينية ضعفا على ضعف، ولتتعزز قوة حكومة نتنياهو برميها كرة تقرير غولدستون في الملعب الفلسطيني كملهاة جديدة تصرف الأنظار بعيدا عن عملية السلام المأمولة واستحقاقاتها الإسرائيلية وكذلك عن استمرار الحصار المستمرة لقطاع غزة واستمرار الانتهاكات الإسرائلية للقانون الدولي باستمرار التوسع الاستيطاني في القدس بخاصة، ولتخرج حماس أقوى بتعزيز اتهاماتها للرئاسة بالتواطؤ مع الاحتلال والأميركان على حد سواء.
إن التقارير الإخبارية عن مبادرة المبعوث الرئاسي الأميركي للسلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل إلى الاتصال بمسؤول فلسطيني رفيع، وقيام وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بمهاتفة الرئيس محمود عباس، عشية اليوم الذي كان من المقرر أن يقترع فيه مجلس حقوق الإنسان على التقرير في الأول من الشهر الجاري، يثبت أن عملية الضغط الأميركي على الرئاسة الفلسطينية من أجل التراجع كانت عملية يجري تنسيقها على أرفع مستوى في البيت الأبيض الأميركي الذي ما زالت هذه الرئاسة تراهن عليه، وذكرت أميرة هس في هآرتس أن عباس "استسلم للضغط الأميركي بعد زيارة من القنصل العام الأميركي له في اليوم نفسه" هاتف بعدها جنيف. وأعقب ذلك في اليوم التالي قيام ممثل باكستان بإبلاغ مجلس حقوق الإنسان بأن جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وحركة عدم الانحياز التي قدم مشروع القرار باسمها بدعم الاتحاد الإفريقي ترغب في تأجيل الاقتراع على المشروع إلى دورة المجلس في آذار / مارس المقبل. وفي الثاني من الشهر أكدت إيسثر بريمر مساعدة كلينتون "التدخل" الأميركي قائلة إن حكومتها "بحثت .. مع السلطة الفلسطينية كيفية مقاربة تقرير غولدستون" بينما قال مسؤول أميركي رفيع المستوى للأسوشيتدبرس في اليوم نفسه إن القرار الفلسطيني بالتأجيل جاء بعد "دبلوماسية مكثفة" من واشنطن لإقناع القيادة الفلسطينية بأن المضي في مشروع القرار يضر بعملية السلام، مضيفا أن "الفلسطينيين أدركوا بأن هذا ليس هو الوقت الأفضل للمضي في ذلك".
وكان نتنياهو، مباشرة بعد إعلان القاضي اليهودي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون عن انتهاء لجنته من وضع تقريرها، وقبل تسليم هذا التقرير إلى مجلس حقوق الإنسان في 29 الشهر الماضي، قد استنفر دبلوماسيته وحرك جماعات الضغط اليهودية والصهيونية الأميركية من أجل تجنيد الإدارة الأميركية في جبهة موحدة مع دولة الاحتلال ضد التقرير، لأن مصير التقرير كما قال يعتمد "إلى حد كبير على موقف الولايات المتحدة". وقد استخدمت حكومته حجتين لإقناع واشنطن، الأولى أن تقدم التقرير في المحافل الدولية سوف يوجه "ضربة مميتة إلى عملية السلام"، وهذه هي الحجة التي ابتزت بها إدارة أوباما لاحقا الرئاسة الفلسطينية التي ربطت مصيرها بهذه العملية، والحجة الثانية كانت عبارة عن عملية ابتزاز هددت فيها حكومة نتنياهو الإدارة الأميركية بكشف سجلها الحربي ضد المدنيين في العراق وأفغانستان وغيرهما. ففي اجتماع طلب خلاله من السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سوزان رايس، سحب تقرير غولدستون من جدول أعمال المنظمة الأممية، قال نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون لرايس إن التقرير سوف يكون سابقة "تجعل دفاع البلدان الديموقراطية عن نفسها ضد الإرهاب عملا غير قانوني بصفة أساسية"، بينما كان المتحدث باسم سفارته في واشنطن أكثر وضوحا عندما قال: "إننا بحاجة إلى التأكد من أن هذا التقرير لا يعرض الولايات المتحدة للخطر".
وسرعان ما توجه الحليفان إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي افتتحت دورتها الجديدة الشهر الماضي "لدفن" التقرير المكون من 574 صفحة، وبدا "من المؤكد" أن التقرير "لن يصل إلى أية محافل دولية ملزمة" كما قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في السابع والعشرين من الشهر الماضي. وأوضحت الولايات المتحدة بأنها لن تسمح بتحويل التقرير من مجلس حقوق الإنسان إلى مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية الدولية، وذكرت وكالة الأنباء اليهودية "جويش تلغرافيك آجينسي" في الثالث والعشرين من أيلول / سبتمبر الماضي أن مسؤولا كبيرا في البيت الأبيض أبلغ قادة المنظمات اليهودية الأميركية بأن الاستراتيجية الأميركية هي إيصال التقرير إلى "نهايتة الطبيعية" في مجلس حقوق الإنسان "بسرعة"، وأن إدارة أوباما سوف تستخدم "الفيتو" في مجلس الأمن للتعامل مع أي "صعوبات" تنجم هن التقرير، مضيفا أن إدارته أوضحت للسلطة الفلسطينية "عدم رضاها عن طلب أخذ المزاعم الواردة في التقرير" إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وقبل ذلك بأسبوع كانت سوزان رايس قد وصفت قرار مجلس حقوق الإنسان بتأليف لجنة غولدستون بأنه "غير متوازن وأحادي الجانب وغير مقبول بصفة أساسية"، مضيفة أن الولايات المتحدة تساورها "مخاوف خطيرة جدا حول كثير من التوصيات الواردة في التقرير". وقالت رئيستها وزيرة الخارجية كلينتون للصحفيين في نيويورك إن "المكان المناسب" للتعامل مع التقرير على الصعيد الدولي هو مجلس حقوق الإنسان فقط إضافة إلى "المؤسسات داخل إسرائيل". وفي التاسع والعشرين من الشهر الماضي قال مساعد كلينتون لشؤون الديموقراطية وحقوق الإنسان والعمل، مايكل بوزنر، إن بلاده كانت "واثقة من أن إسرائيل، كنظام ديموقراطي ملتزم التزاما راسخا تماما بحكم القانون، تملك المؤسسات والقدرة على إجراء تحقيقات فعالة في هذه المزاعم". وكانت منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان قد وثقت 773 حالة قتلت فيها القوات الإسرائيلية مدنيين ليسوا متورطين في القتال أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أواخر العام المنصرم وأوائل العام الحالي ولم تجر إدانة إلا واحد منهم بسرقة بطاقة ائتمان!
إن الولايات المتحدة التي وقعت اتفاقيات مع أكثر من سبعين دولة في العالم تضمن حصانة عسكرييها ضد أي ملاحقة قانونية وقضائية في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان أمام المحاكم الوطنية أو الدولية لم تترك مجالا للشك في أنها تمثل درعا سياسية لتوفير حصانة مماثلة للعسكريين الإسرائيليين تضعهم فوق القانون الدولي، لكن خطيئتها المميتة فلسطينيا وعربيا تتمثل في إصرارها على توريط سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية في شبكة الحماية السياسية لجيش الاحتلال الإسرائيلي ضد انتهاكات القانون الدولي والإنساني التي ارتكبها جنود هذا الجيش ضد جزء من شعبها في قطاع غزة.
وتتذرع الولايات المتحدة بحرصها على استئناف "عملية السلام"، لكن خلاصة سياستها هذه كانت نتائج عكسية تمثلت في تعزيز القوى المعارضة لهذه العملية، وإضعاف الرئاسة الفلسطينية حد الانكسار وهي الطرف الوحيد الذي ربط مصيره وبقاءه السياسي باستئنافها.
وهذه السياسة الأميركية التي أفقدت عباس "الكثير من المصداقية لدى الشعب الفلسطيني"، كما قالت حنان عشرواي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي، بسبب تنازل عباس عن شرطه المسبق المعلن بتجميد كامل للتوسع الاستيطاني اليهودي لاستئناف الاتصالات مع دولة الاحتلال عندما جرجرت واشنطن الرئاسة الفلسطينية ضد إرادة شعبها إلى قمة عباس – أوباما – نتنياهو الثلاثية في نيويورك الشهر الماضي، .. إن هذه السياسة قد دمرت ما بقي له من مصداقية بدفعه إلى "تأجيل" الاقتراع على تقرير لجنة غولدستون. وبينما استهدفت "لجنة التحقيق" التي ذكرت تقارير الأنباء أن عباس أمر بتأليفها (دون أن يتأكد الخبر) للتحقيق في من هو المسؤول عن قراره هو نفسه بالتأجيل قد عمقت أزمة المصداقية التي يجد نفسه فيها وزادت من حالة التخبط التي ظهرت الرئاسة فيها مترددة ومتناقضة، أما قراره بإصلاح "الخطأ" الذي وقعت فيه قيادته -- حسب الوصف الذي أعطاه له أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه وعضو هذه اللجنة وكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات – والطلب ثانية من مجلس حقوق الإنسان عقد جلسة طارئة في اقرب وقت ممكن لإعادة عرض تقرير غولدستون على التصويت فإنه زاد من عمق أزمة مصداقية الرئاسة الفلسطينية لدى أربع مجموعات إقليمية شقيقة أو صديقة تبنت مشروع القرار الأصلي قبل تأجيله، ووضعت الرئاسة في طريق مواجهة سياسية مع راعيها الأميركي، وجعلت استئناف "عملية السلام" التي كانت حجة الإدارة الأميركية في ممارسة ضغوطها عليها أصعب وأبعد منالا من ذي قبل، في ضوء إعلان نتنياهو بأن نقل التقرير إلى المحافل الدولية سيوجه "ضربة مميتة لعملية السلام، نظرا لأن نتنياهو يتمتع بمصداقية أكبر في احترام مواقفه المعلنة وعدم تراجعه عنها.
ولم تعد هذه السياسة على إدارة أوباما بأية مكاسب تحسن صورة بلاده لا لدى الفلسطينيين ولا لدى الإسرائيليين، حسب استطلاعات الرأي العام، بالرغم من منحه السابق لأوانه جائزة نوبل للسلام الأسبوع الماضي، فالتأييد له بين الإسرائيليين سجل أدنى مستوى له على الإطلاق كما قال سفير دولة الاحتلال في واشنطن مايكل أورين يوم الخميس الماضي، بينما حوالي عشرين في المائة فقط من الفلسطينيين يؤيدون الولايات المتحدة، وأقل من ثلاثين في المائة منهم يؤيدون أوباما نفسه، و 45% منهم يتوقعون منه إحراز تقدم في عملية السلام، حسب استطلاع لآرائهم أجراه معهد السلام الدولي برئاسة تيري رد لارسون، مبعوث الأمم المتحدة السابق للمنطقة، ونشره أواسط الشهر الماضي. ونترك للقارئ أن يتساءل عن نتائج أي استطلاع مماثل يجريه لارسون ومعهده بعد "ثلاثية نيويورك" ومعركة تقرير غولدستون المستمرة. ويتساءل المراقب عن مصير "احتواء العداء لأميركا" الذي حوله باراك أوباما إلى هدف رئيسي لإدارته من أجل تحسين صورة بلاده في الخارج، وبخاصة في الشرق الوسط، حيث تزداد هذه الصورة سوادا بدل تبييضها بعد أكثر من تسعة أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض.
إن وصف "الانعكاسي" الذي أعطاه أوباما للعداء لأميركا حول العالم في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة لا ينطبق على هذا العداء عربيا وفلسطينيا، فشبه الإجماع العربي والإسلامي على الترحيب برئاسته منحه، في الأقل، فائدة الشك كما يقول المثل الغربي، ونجحت واشنطن في "تغيير النظام" الفلسطيني لصالحها بعد "إزاحة" الزعيم الراحل ياسر عرفات من طريقها إلى نظام مرتهن لها تحميه قوات أمن تدربها الولايات المتحدة وتوافق دولة الاحتلال على كل قطعة سلاح تحملها، وأصبحت معظم الأنظمة العربية إما "حليفة" أو "صديقة استراتيجية" لها، بينما يرعى التمويل الأميركي الذي يتجاوز الحكومات منظمات غير حكومية للمجتمع المدني تعمل بنشاط على نشر القيم الليبرالية والسياسية الأميركية على المستوى الشعبي دون منافسة إلا من المنظمات المماثلة الممولة أوروبيا، ومع ذلك فإن العداء لأميركا الذي يتسع انتشارا فيهدر كل هذا الرصيد ومعه أموال دافع الضرائب الأميركي هو صناعة أميركية خالصة ناتجة عن سياسات واشنطن الخارجية في المنطقة، وليس صناعة عربية أو فلسطينية، وكان أحدث مثال لها الموقف الأميركي ضد تقرير لجنة غولدستون.