بقلم : نقولا ناصر* ... 09.11.2009
(*تشير الدلائل إلى أن اللهاث العربي والفلسطيني وراء وهم "السلام الأميركي" سوف يستمر بلا جدوى، بالرغم مما يبدو حاليا أنه توقف مؤقت عن الركض وراء سراب الوساطة الأميركية)
بصورة سافرة لم تترك لحلفائها العرب غير الاختلاف معها علنا، قدمت إدارة باراك أوباما دليلا دامغا جديدا، بنتائج الجولة الشرق أوسطية الأخيرة لوزيرة الخارجية هيلاري رودهام كلينتون، على أنها لا تختلف عن الإدارات الجمهورية والديموقراطية السابقة في انحيازها لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ليبدو مشهد العلاقات العربية الأميركية الراهن وقد أسقط الفارق الذي كانت واشنطن تحاول افتعاله بين "المعتدلين" وبين "المتطرفين" في المنطقة، عربا كانوا أم غير عرب، فالمنطقة بكاملها الآن "تختلف" مع الولايات المتحدة، وإن بدرجات تتراوح بين الوصف الإيراني لها ب"الشيطان الأكبر" وبين عدم التردد في اتهامها علنا ب"محاباة" دولة الاحتلال الإسرائيلي من "شريك" لها، كما وصفته إدارة أوباما بعد خطابه الأخير إلى شعبه، مثل الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يدرك أكثر من غيره أن بقاء سلطة الحكم الذاتي التي يقودها يعتمد على واشنطن ذاتها، وهو اتهام صريح يشكك دون مواربة في الأهلية الأميركية لأي وساطة في الصراع العربي – الإسرائيلي، وإن لم يقلها عباس.
وفي السياق ذاته كان تصريح وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط، الذي ترتبط بلاده بعلاقات استراتيجية وثيقة مع الولايات المتحدة، يوم الجمعة الماضي بأن صدور قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدعو إلى تجميد كامل للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو "وحده" الذي سيسمح باستئناف محادثات السلام، في خلاف واضح مع واشنطن التي تريدا استئنافا سريعا ودون شروط لاستئنافها. وبغض النظر عن صحة هذا الرأي، حيث تتراكم قرارات مجلس الأمن الدولي في هذا الشأن دون أي تنفيذ بسبب حيلولة الولايات المتحدة نفسها دون تنفيذها، وبغض النظر عما إذا كانت واشنطن سوف تمتنع عن استخدامها لحقها في النقض "الفيتو" لمنع صدور أي قرار كهذا، كما هددت هي وبريطانيا وفرنسا باستخدام هذا الحق لمنع تبني المجلس لتقرير لجنة غولدستون الذي أحالته الجمعية العامة فعلا إلى المجلس يوم الخميس الماضي، فإن تصريح أبو الغيط هو آخر مثال على الاختلاف العلني بين واشنطن وبين حلفائها العرب، واحدث دليل يأس من نتائج احتكار أميركا للوساطة في الصراع.
إن تصريحي عباس وأبو الغيط ليس إلا دليل أزمة ظهرت فعلا إلى العلن بين واشنطن وبين حلفائها العرب الذين يجهد البيت الأبيض، بغض النظر عمن يشغله، منذ زمن من أجل جمعهم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في "جبهة معتدلين" واحدة في مواجهة "الإرهاب" وإيران. وتتلخص هذه الأزمة حاليا في أن واشنطن التي تراجعت أمام الضغط الإسرائيلي قد تحولت إلى الضغط على الطرف العربي في الصراع لتضع شركاءها العرب في "عملية السلام" أمام خيار واحد فقط هو الرضوخ كما رضخت هي للسلام بالشروط الإسرائيلية، مما يحاصر حلفاءها العرب، ليحولهم إلى أسرى استمرار رهانهم على حليفهم الأميركي. وكانت عوامل هذه الأزمة تمور تحت سطح المجاملات الدبلوماسية، لكن ظهورها إلى العلن كان متوقعا بعد أن فشل أوباما في الوفاء بوعوده للعرب، لا بل إنه قد فشل حتى في الالتزام بما طلبه هو نفسه علنا من دولة الاحتلال من "تجميد كامل" للاستيطان فتراجع عن مطلبه.
وكان ملك الأردن عبد الله الثاني يستشعر انفجار هذه الأزمة في أي وقت مؤخرا عندما حذر -- في مقابلة أجرتها معه صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية في التاسع عشر من الشهر الماضي غداة زيارته لروما – من أن هدف السلام التي انتعشت آمال المنطقة فيه في بداية عهد أوباما قد أصبح هدفا "يبتعد أكثر" الآن، بينما "نافذة الفرصة سوف تنغلق قريبا"، لأنه "بحلول نهاية عام 2010، إذا لم تقتنع إسرائيل بحل الدولتين، فإن إمكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل سوف تختفي". ولا بد أن الملك الذي أعرب عن عدم رضاه عن الجهود الأميركية المبذولة بقوله: "كنت أتوقع أكثر، وأسرع" يكظم خيبة أمله من هذه الجهود التي يراها تبتعد عن الصراع العربي – الإسرائيلي، وكما قال: "سمعت الناس في واشنطن يتحدثون عن إيران، وثانية عن إيران، ودائما عن إيران" مع أن "الصراع العربي الإسرائيلي هو التهديد الأخطر لاستقرار المنطقة والبحر الأبيض المتوسط"، ولا بد أن خيبة أمل الملك الذي حث الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي في تلك المقابلة على ممارسة الضغط على دولة الاحتلال تتحول اليوم إلى إحباط من السياسة الخارجية الأميركية وهو يرى الضغط الأميركي في الوقت الحاضر يرفع عن إسرائيل ويتجه نحو الطرف العربي في الصراع في أضعف نقاطه، أي نحو "الشريك" الفلسطيني في المفاوضات المتوقفة.
وعندما يقول الأردن ومصر، بعد محادثات الملك مع الرئيس المصري حسني مبارك في القاهرة الأحد الماضي، إن استئناف المفاوضات بينما النشاطات الاستيطانية مستمرة هو أمر "غير منطقي وغير مقبول"، فإن البلدين الوحيدين اللذين وقعا معاهدتي سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يستخدما الحد الأقصى الذي تسمح به اللغة الدبلوماسية للإعراب عن اختلافهما مع واشنطن التي تضغط على الدول العربية حاليا لكي تضغط بدورها على المفاوض الفلسطيني من أجل استئناف التفاوض سريعا وتعلن في تحد صارخ للموقف العربي والفلسطيني بأن تجميد الاستيطان ليس شرطا لاستئنافها، لأنه لم يكن شرطا لمواصلة التفاوض منذ مؤتمر مدريد عام 1991.
وذلك صحيح، لكنه كان خطأ عربيا وفلسطينيا فادحا حول "عملية السلام" إلى غطاء أضفي شرعية عربية وفلسطينية على استمرار مشروع الاستيطان الإسرائيلي تحت مظلة السلام، ليجري تهويد الضفة الغربية لنهر الأردن والقدس باسم السلام، مما قاد إلى إفراغ عملية السلام من أي مضمون لها، وباسم السلام تحولت هذه العملية إلى إطار شرعي لنسف أسس السلام نفسها على الأرض، بنسف ما تبقى من أساس مادي لإقامة دولة فلسطينية وبالتالي نسف أي أساس مادي لتحويل "الرؤية" الأميركية لحل الدولتين إلى واقع ملموس.
وتراجع المفاوض الفلسطيني عن هذا الخطأ فضيلة وطنية، والدعم العربي لهذا التراجع فضيلة أخرى قومية، لكن "إنقاذ عملية السلام"، كما يأمل الشركاء العرب في هذه العملية، يتطلب سلسلة تراجعات عن أخطاء فادحة مماثلة أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر اشتراط إنهاء عزل القدس عن محيطها الوطني الفلسطيني، وهذا استحقاق فلسطيني عمره من عمر توقيع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) مع دولة الاحتلال في واشنطن عام 1993 وكان على المفاوض الفلسطيني أن يعلق استمرار عملية السلام عليه منذ أغلق الاحتلال القدس وعزلها عن بقية الضفة الغربية بعيد توقيع ذاك الاتفاق المشؤوم، لكن هذا المفاوض لم يفعل، وما زال لا يفعل، ثم اشتراط فك الحصار عن قطاع غزة، واشتراط العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل عملية اجتياح مناطق سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية عام 2002، وغير ذلك من شروط الحد الأدنى لاستئناف أي عملية تفاوضية، ومنها طبعا ما يطالب به عباس مثل اعتماد مرجعية للعملية التفاوضية، وجدول زمني لها، وضمانات لتنفيذ نتائجها، وغير ذلك مما أورده في خطابه الأخير.
وبما أن دولة الاحتلال ترفض حتى هذا الحد الأدنى، وبما أن الوسيط الأميركي ينحاز إليها في رفضها، فإن الفضيلة الكبرى فلسطينيا وعربيا تتمثل الآن في الإعلان في الأقل عن سحب مبادرة جامعة الدول العربية للسلام و"تجميد" عملية السلام إلى أجل غير مسمى حتى يتوفر "شريك سلام إسرائيلي" ذي مصداقية ينفذ شروط الحد الأدنى لاستئناف التفاوض، ولا يتفاوض مجددا على تنفيذها، وحتى يتوفر وسيط أميركي نزيه غير منحاز، وتوفره في المدى المنظور ليس متوقعا وسوف يطول انتظاره على الأرجح.
وبما أن توقع الأمرين لا يعتبر أمرا واقعيا وفق المعطيات الراهنة، فإن من الأجدى أن يعود قادة السلام العرب إلى حضن أمتهم، وأن يعود المفاوض الفلسطيني إلى حضن شعبه، للبحث عن بدائل عربية وفلسطينية لحل الصراع أو مواصلته على أساس الثوابت القومية العربية والوطنية الفلسطينية التي انطلقت "عملية السلام" على حسابها منذ حوالي عشرين عاما، فالتمسك بهذه الثوابت قبلها كان هو الذي انتزع اعتراف المجتمع الدولي بوجود شعب فلسطيني، وبوجود ممثل شرعي له، وبحق هذا الشعب في أرضه.
وبما أن أي عودة عربية وفلسطينية كهذه ليست حتى الآن على جدول أعمال شركاء السلام العرب، كما يستدل من مسارعة الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى مناشدة عباس التراجع عن "رغبته" في عدم ترشيح نفسه للرئاسة، وبما أن الرهان العربي على الدور الأميركي لم يسقط وما زال شركاء السلام العرب أسرى تحالفهم مع الولايات المتحدة، بحيث تحول هذا التحالف عمليا إلى حصار عليهم لا يسعهم الانفكاك منه دون مخاطرة لا يستطيعونها، فإن الدلائل تشير إلى أن اللهاث العربي والفلسطيني وراء وهم "السلام الأميركي" سوف يستمر بلا جدوى، بالرغم مما يبدو حاليا أنه مجرد توقف مؤقت عن الركض وراء سراب الوساطة الأميركية، لتظل القضية العربية في فلسطين تدور في دوامة الحلقة المفرغة التي كانت تدور فيها طوال العقدين الماضيين، فأحداث هذين العقدين أكدت بما لا يدع مجالا لأي شك بأن أي سلام حقيقي في المنطقة لن يكون أميركيا بالتأكيد، بل سيكون سلاما إسرائيليا يسميه الكثيرون في المنطقة والعالم استسلاما.
فالرئيس الفلسطيني عباس، على سبيل المثال، ما زال مصرا على أن حل الدولتين "ما زال ممكنا" كما قال في خطابه يوم الخميس الماضي، وأن الدور الأميركي ما زال "مركزيا" في حل الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي فإنه لم يعلن فشل البرنامج السياسي لمنظمة التحرير، ولا فشل النهج التفاوضي الذي قادته المنظمة لتحقيق هذا البرنامج، ولا فشل رهان المنظمة على الوسيط الأميركي، وبالتالي فإن إعلانه عدم رغبته في ترشيح نفسه لرئاسة سلطة الحكم الذاتي سوف يدور في إطار المناورة السياسية، إن لم يكن على المستوى الشخصي فعلى مستوى المنظمة وحركة فتح التي يقودها، بالرغم من نفيه أنه كان يناور أو يساوم أو يزايد، بدليل مسارعة الأطر القيادية في المنظمة والحركة إلى التمسك بقيادته وترشيحه قبل أن تبدأ الحركة في تنظيم دعم شعبي لقيادته وترشيحه، مما يحول خطابه الخميس الماضي عمليا إلى بيان انتخابي يحسن فرصه في أي انتخابات مقبلة، إن جرت، ويدل على الاستمرارية في البرنامج والنهج والرهان على أميركا، سواء تراجع عباس أم تغير اسم العنوان الفلسطيني للتفاوض، وذلك أمر منطقي، لأن الاعتراف بفشل البرنامج والنهج يستتبع انسحاب أصحابهما إن لم يكن من الحياة السياسية ففي الأقل من مواقعهم القيادية من أجل إخلائها لأصحاب برنامج آخر، وبالتالي فإن عدم إعلان فشل كهذا هو بمثابة إعلان عن استمرار الوضع الفلسطيني الراهن على حاله المتدهور بتسارع يجعل رضوخ المفاوض الفلسطيني لمزيد من التنازلات هو الخيار الوحيد المفتوح أمامه إذا ما أصر على التمسك بالبرنامج والنهج إياهما.
لذلك فإن قرار قيادة التفاوض الفلسطيني بالاختلاف علنا مع الوسيط الأميركي الذي تراهن عليه، لأول مرة منذ وضعت هذه القيادة كل بيضها في السلة الأميركية، ليصف الرئيس عباس الموقف الأميركي ب"المحاباة" وبأنه "غير منطقي"، إنما هو قرار يتحول عمليا إلى مجرد وسيلة لامتصاص الإحباط الشعبي الفلسطيني من التفاوض ومن قيادته ومن الوسيط الأميركي على حد سواء، بغض النظر عما إذا كانت الرئاسة الفلسطينية قصدت ذلك عن وعي أم لم تقصده، ..
أو هو قرار يمهد لكي يحل محله في الرئاسة مرشح آخر أقل اختلافا مع واشنطن وأكثر تساوقا مع "السلام الاقتصادي" الذي يدعو إليه رئيس وزراء حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي أجبر إدارة أوباما على التراجع، وفي هذا السياق توجد دلالة لإعلان كلينتون عن استعداد واشنطن للتعامل مع عباس مهما كانت صفته دون أن تكرر مناشدة عمرو موسى لعباس التراجع عن عدم رغبته في ترشيح نفسه.
إن مسارعة وزير خارجية سلطة الحكم الذاتي في رام الله رياض المالكي إلى التعبير عن "رضاه" لأن هيلاري كلينتون "صححت" في مراكش تصريحاتها في تل أبيب التي أثارت سخط عباس لأن "الموقف الأميركي عاد إلى ما كان عليه" بعد تصحيحها هو مثال على عدم جدية أي اختلاف للمفاوض الفلسطيني مع الوسيط الأميركي، ويبدو أن جدية الموقف العربي ليست أكثر مصداقية كما اتضح من ارتياح نظيره المصري أبو الغيط ل"تصحيحات" كلينتون ومسارعته بدوره إلى التأكيد بأن "الولايات المتحدة لم تغير موقفها".
وإن المراقب ليتساءل حقا عما إذا كانت هناك أي جدوى في مسارعة الرئاسة الفلسطينية إلى طلب عقد اجتماع عاجل للجنة المتابعة العربية لمبادرة السلام العربية، طالما لا تغيير حقيقيا هناك لا في الموقف الفلسطيني ولا في الموقف العربي ولا في الموقف الأميركي ولا في موقف حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أقر محمود عباس في خطابه بواقع "مركزية" الدور الأميركي في حل الصراع، غير أن المطلوب منه هو الإقرار علنا أيضا بمركزية الدور الأميركي في إطالة أمد الصراع حتى الآن، وفي إدامة الاحتلال منذ عام 1967، وفي دعم دولة الاحتلال من أجل تحويل احتلالها العسكري إلى احتلال استيطاني إحلالي، ثم الإقرار بضرورة العودة إلى حضن الوحدة الوطنية الفلسطينية من أجل صياغة برنامج سياسي بديل يبني على هذه الحقائق، بعيدا عن الشروط الأميركية الإسرائيلية، فهذه هي حقا "الحلقة المركزية" لإخراج القضية الفلسطينية من الحصار الذي تفرضه عليها بالإكراه وساطة أميركية لا تفتأ يوميا تقدم دليلا جديدا على انحيازها وعدم نزاهتها.