بقلم : سهيل كيوان ... 04.12.2009
في خطابه لجمهور المستوطنين ولمن وصفهم بجيرانه الفلسطينيين وللعالم مساء يوم الثلاثاء الأول من أمس[ الماضي] وعد بيبي نتنياهو (وعد شرف) بأن الاستيطان سيجمّد لعشرة أشهر، وبعدها (يعني حين تروق الأمور) سوف يُستأنف، وقال بلهجة إمبراطورية..إن التجميد في الأشهر 'الحُرُم' العشرة لا يشمل ما سبق وأقر في مُحكم قرارات الوزراء السابقين واللاحقين من بناء في القدس ومحيطها وما وراء وراء محيطها!
ولن يبت بأمر المستوطنات إلا في الاتفاق النهائي! ومقابل هذا السخاء والنبل الإمبراطوري حض جيرانه الفلسطينيين على العودة إلى الطاولة وأن يعترفوا بيهودية الدولة وهم شاكرون! بعد تقرير غولدستون الفوسفوري وانزعاج باراك أوباما بسبب استمرار الاستيطان واستقبال الرئيس مبارك لشمعون بيريس ببرود لدرجة أن تحريض الأخير على إيران لم يمنعه من انتقاد الاستيطان، حتى ظننا أنه سيقول له 'بلاش الحركات القرعة دي يا شيمعون'! بدأ الإسرائيليون بالتحدث بلهجة حسن الجوار، والمثل يقول..جارك المستوطن القريب ولا أخوك البعيد في بورصة دبي!
وتأتي خطبة الجيرة الحسنة هذه لأن قادة اسرائيل اعتادوا إذا شعروا بتعكر ولو بسيط في مزاجهم أن يأتيهم الفرج من العرب أنفسهم، ولهذا يلحون على السلطة أن تعدّل مزاجها ومزاجهم ومزاج أوباما ومبارك ومزاج السويد المتكدر منذ أشهر وذلك بالعودة إلى طاولة احتساء الشاي والقهوة ولا بأس من تجربة مشروبات أخرى...(بس انت تعال)!
وحين يعود الفلسطيني إلى احتساء مغلي الزنجبيل والحديث عن ميزاته وطرق إعداده ثم فعالية الشاي الأخضر في منع التأكسد على طاولة المفاوضات، حينئذ لا يبقى أي مبرر لانزعاج أو زعل أحد حتى ولو من باب الأمل، والنصيحة التي كانت بصفقة طائرات وغواصة صارت مرفوضة حتى مع مظلة صاروخية نووية، وعلى دولة مثل السويد تدعو الاتحاد الأوروبي للاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين أن لا تتدخل بين البصلة وقشرتها!
لهذا يلح نتنياهو على الفلسطينيين أن يحترموا حق الجار الذي نصت عليه كل الشرائع، ويعدهم باختراعٍ اسمه الثلاجة يتم تجميد الاستيطان في داخلها فتجعله استيطاناً صلباً بدلا من حالة السيولة، ولا يطلب منهم مقابل الثلاجة ومصروفات الكهرباء سوى الاعتراف بيهودية الدولة!
خطبة الامبراطور تخللها مديح وإطراء للمستوطنين وتأكيد على روحهم الوطنية وطلائعيتهم، وأنا أقسم لو كنت مراهقاً يهودياً بعد سماع خطبته لما ترددت بترك (فيلا) في تل ابيب والإسراع إلى تلة مشرفة على نابلس أستوطن فيها لأكون بطلاً، أو أتطوع لمساعدة إخواني الطلائعيين بقطع دابر التين والزيتون الفلسطيني وهذا أضعف الإيمان!
في هذه الأيام المباركة نفسها قالت أم كلثوم 'يا ليلة العيد أنستينا' وقالت شولميت ألوني وزيرة المعارف السابقة صاحبة التوجه الإنساني 'إن الإسرائيليين شريرون' فهي تعرف النوايا والتخطيط الحقيقي للقيادات الإسرائيلية بيمينها وما يسمى يسارها ولهذا قالت 'لا يوجد هنا من أمتدحه' وأهل تل أبيب أدرى بشعابها.
فالاستراتيجية المعلنة بالنسبة للقدس هي تحويل نسبة العرب فيها إلى 12' فقط من السكان حتى العام 2020، وهذا يعني تكثيف الإستيطان لصالح أبناء اسحاق والهدم والترحيل لأبناء اسماعيل الذبيح، أما داخل ما يسمى مناطق الـ48 (والحقيقة أنها مناطق 47ـ48ـ49) فالإستراتيجية هي'كل كلب بييجي يومه..'!
سياسة السلطة المنهجية جعلت عشرات آلاف المنازل العربية داخل اسرائيل بدون ترخيص، وكل هذه البيوت محكومة قانونيا بالهدم أو أن أصحابها في الطريق لتلقي مثل هذا الحكم، وحتى لو لم ينفذ الهدم بجميعها على المدى القريب ولكن المؤكد أن الآلاف منها ستهدم، وكل هذا جرى ويجري حسب قوانين البناء والتنظيم، ومن يسمع أمراً كهذا من خارج حلبة الرقص يظن أن العرب داخل دولة اليهود فوضويون ويبنون بشكل عشوائي ولهذا فإن الفيضانات قد تجتاحهم في يوم ما مثلما اجتاحت إخوانهم في الأحياء العشوائية في جدة! لكن الحقيقة هي غير ذلك، فقد بات العرب مضطرين للبناء بدون ترخيص منذ عقود لأن الرخصة عند الوزير و'الوزير بدو بيضة والبيضة عند الجاجة والجاجة بدها قمحة والقمحة في الطاحونة والطاحونة مسكرة فيها مي معكره..ولأنهم بأيام اللولو شو هللولو وشو رشوا ملبّس يا ماما وشو زينوا لو..الخ الخ'! وهذه ليست بيروقراطية ساذجة كتلك المتأصلة في بلاد العرب أوطاني، بل هي سياسة منهجية لا تصيب إلا العرب، فمعظم التجمعات العربية لم توسّع منذ أكثر من ثلاثين عاما وبعضها لم يتغير منذ قيام الدولة!
إلى جانب هذا فالبناء غير المرخص يدخل أرباحا كبيرة من المخالفات الباهظة لخزينة الدولة ويحوّل صاحب الأرض وكأنه يشتريها من جديد أو كأنه يستأجرها من الدولة، ولكن الأخطر هو أن الساكن في بيته يعيش حالة قلق مستمرة كأن تحته الريح، فتعب العمر كله مهدد، والهدم يعني التشرد داخل الوطن وتيئيس الجيل الصاعد وحضه على الهجرة الاضطرارية!
من يزر قاعات المحاكم من الشمال إلى الجنوب ير طوابير العرب الواقفين بالدور لتلقي الأحكام بهدم منازلهم بأيديهم في النقب والمثلث والجليل، ومن لا ينفذ بيده يُحكم بدفع تكاليف الشرطة ووحدة خاصة وعتاد لتنفيذ الهدم! هذه الأوامر ينفذ بعضها على الفور ويتم تأجيل تنفيذ أكثرها ولكن القرارات تبقى في الأدراج بانتظار الفرصة المواتية لتنفيذها! وهذا يعني أن العرب داخل مناطق الـ48 هم مواطنون مع وقف التنفيذ، وعليهم تقبّل التمييز ضدهم لأن الدولة يهودية، ومن حق الدولة اليهودية أن تفعل ما تراه مناسباً لاستمرار يهوديتها وتعميقها وتحديد نسبة العرب فيها كما تحددها الآن في القدس!
هذا الأسبوع شاركت في تشييع أحد المعارف في الناصرة، عندما دخلت المقبرة وجدت نفسي واقفاً إلى جانب ضريح كتب على رخامه بيت الشعر الشهير..'سأحمل روحي على راحتي وأهوي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا'، 'ضريح الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود شهيد معركة الشجرة - الفاتحة-'.
وعلى مسافة عشرات الأمتار منه ضريح الشاعر توفيق زياد الذي قضى في حادث طريق أثناء زيارة إلى أريحا لاستقبال الراحل الشهيد ياسر عرفات، تجولت في المقبرة فرأيت عدداً كبيراً من الأضرحة لشهداء منذ ثورة 1936 وحتى انتفاضة الأقصى عام 2000!
جداول الدماء الزكية لا تسمح لأحد بالتخاذل، وممنوع أبدا العودة الى طاولة احتساء القهوة والشاي ثم تسميتها طاولة مفاوضات، والعرب هم الذين يجب أن يشترطوا لأنهم أصحاب الحق والأرض التي يدور عليها الصراع وعليهم العودة الى الشرعية الدولية والتمسك بها بدون فذلكات ومغامرات تفاوضية انفرادية.على العرب والفلسطينيين التخلي عن دفن الرؤوس في الرمال كي لا نسمع شاعرا عربيا بعد مائة عام أو حتى أقل من هذا بكثير ينشد بل يندب كما ندب درويش..'الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس' وهذه المرة بأداء فرقة الموسيقى العربية والماسية وفرقة رضا وليالي الشام والفحيص...يبكون على العرب الخارجين من فلسطين...