بقلم : د. خالد الحروب ... 28.10.2009
يحتاج المرء إلى قدرة خارقة من ضبط الأعصاب والتروي عند الكتابة عن شؤوننا العامة. تردينا السياسي والاجتماعي والثقافي يتفاقم فضائحية عندما نراه في مرآة العالم الحديث. العالم بمجمله يسير في اتجاه, ونحن نسير في اتجاه معاكس. الدمقرطة والانفتاح السياسي تنتشر في كل رقاع الأرض, أو على الأقل تصبح هي أداة قياس جودة وجدية الحكم, إلا في بلادنا العتيدة حيث يتكرس الاستبداد وتنتشر الأتوقراطيات بأنواعها. تترسخ دعوات التسامح والاعتراف بالتعدديات, فيما نحن نرتكس إلى كل أنواع الطائفيات وأيديولوجيات الإقصاء, ونوظف كل ما وصلت إليه تكنولوجيا الاتصال الحديث للتشبث بكل ما هو قديم. تضيق خياراتنا السياسية والثقافية وتنحصر اليوم بين تأييد دكتاتوريات فاسدة, أو تأييد أصوليات متعصبة – كأنه لا منازل ولا حتى منزلة أخرى زائدة بين هاتين المنزلتين!
كارثة الكوارث أن وضعنا المُتردي والذي لا يحتاج إلى شواهد إضافية لإثباته تم تشخيصه وتفكيكه إلى كل عناصره الأولية, لكن من دون فائدة. تقارير التنمية الإنسانية العربية, ثم التقارير المختلفة التي تبعتها وفككت جوانب التردي الثقافية والمعرفية والعلمية, كلها وضعت الكف, وليس فقط الأصبع, على الجرح المُتسع. مع ذلك بالكاد يتم الانتباه لما تقدمه هذه التقارير من توصيات وخلاصات لباحثين وخبراء أضاعوا شهورا وبعضهم سنوات من أوقاتهم كي يقدموا لصانع السياسة ما يجب أن يسترشد به في اتخاذ القرارات عوض الخبط العشوائي الذي نراه يمينا ويساراً. لماذا لا نتقدم ولو على أي صعيد من الصعد؟ أو بالأحرى لماذا لا نحافظ على درجة تردينا ثابتة عوض أن نتقهقر في التردي أكثر وأكثر. تواضعت طموحاتنا إلى درجة بات بقاء التخلف على مستواه هو الأمنية الأثيرة في ظل الانحطاطات المتوالية.
أحد مظاهر تخلفنا العام أن وسائل إعلامنا جبانة في مناقشة القضايا الحساسة, وعوض أن نفتح كل الملفات بوضوح, نظل ندور في نقاش العموميات ولا نقترب من جوهر أي قضية. لا نناقش ما يحيط بنا ونغرق فيه كل يوم إلا بـ"الريموت كنترول" – حالة مذهلة من السوريالية: كيف يمكن أن تناقش ما تتنفسه ويخنقك لكن عن بعد فقط, ومن دون تسميته, أو حتى الاقتراب منه لدرجة كافية من التشخيص والتحليل. لذلك نجد كل الكتاب ممن يحاولون البقاء في دوائر التأثير في وسائل الإعلام الرئيسية يدورون حول الفكرة, ويناورون لإيصالها, ويغلفون رأيهم بطبقات متعددة من الاستدراكات والاسثناءات والتحفظات حتى يمر ما يكتبون من تحت قلم الرقيب. والمُراقِبُ اليقظ, والمُراقب المحتار, يعرفان ما يتم الحديث عنه, وينخرطان في تواطؤ ساذج أساسه استغباء عقل القارئ واستسخافه. تفاصيل قضايا "الحساسة" وجوانبها كلها مكشوفة وتُناقش في وسائل الإعلام العالمية: التوريث السياسي, الدكتاتوريات, الطائفيات, الدين, المرأة واضطهادها, الجنس, الصراعات القبلية والحدودية, التخلف العلمي, الأمية الفاضحة, تغول عائلات القادة وأبنائهم وزوجاتهم وأصهارهم وأنسبائهم على مقدرات وثروات البلدان, وكل ما لا يخطر على البال. وكل من يهتم بالشرق الأوسط يعرف في هذه القضايا أكثر مما يعرف أبناؤها المحرومون من مناقشتها والاطلاع عليها. نصبح جميعا قطيعا من النعام رؤوسه مدفونة في الرمال ومؤخراته مكشوفة في الهواء – مرتاحين لجهلنا وتجاهلنا لكل ما هو حساس من شؤوننا.
إعلامنا تزداد أسقفه انخفاضاً, وتسيطر على موضاعاته ثقافة التحريم. والأمل الذي ساقته الفضائيات والإعلام المعولم منذ سنوات بأن ترتفع أسقف الحريات الإعلامية, ويزداد الجدل الحر بما يؤدي إلى تعيمق الفكر وتعددية الأفكار, ذلك الأمل تم دفنه الآن. "البديل" الذي قدمته هذه الفضائيات لم يتجاوز إعادة إنتاج تخلفنا من جديد, وتكرار الانحياز إلى كل ما هو بدائي وغريزي فينا, مُسلمة القيادة للطوائف والعواطف عوض الفكر والعقل. المشهد الإعلامي الفضائي العربي هو مشهد قبائل داحس والغبراء وحروب البسوس وصراعات ملوك الطوائف. كل من يستيطع الوصول إلى ممول مهووس بفكرة تزايد على بقية الأفكار تعصبا وطائفية, يفتتح فضائية تعلن أنها "ينبوع الحقيقة" والآخرون, كل الآخرين هراطقة يتشوق حد السيف لحز رقابهم!
وسط هذا المشهد الكابي يتسع سرطان التوريث السياسي في العالم العربي. الآباء "المؤتمنون من قبل الآلهة" على حاضر ومستقبل بلدانهم لا يتخيلون أن تفلت السلطة من يد العائلة المقدسة, ويصرون على نقل السلطة للأبناء الذين عجزت الأوطان عن إنجاب نظرائهم. من أكبر دولة في العالم العربي إلى أصغر دولة نتحول جميعا إلى إقطاعيات تابعة للعصور الوسطى, ولا علاقة لها بالعصر الحديث. العبقرية الوحيدة المشهود لها بوفرة تتمثل في كيفية تحويل وتحوير أي منتج علمي أو حداثي أو معرفي أو تكنولوجي حديث ليخدم آليات التخلف ويعيد إنتاجها ويكرسها ويضمن مستقبلها. لنأخذ أي فكرة, أو وسيلة علمية: فكرة "الدولة الأمة" أو "السيادة"؟ لننظر كيف تحولت هذه الفكرة إلى مجرد "مزرعة" ومالك يتحكم فيها, ينقل السيطرة عليها إلى الابن. فكرة "الثورة"؟ لننظر كيف تحولت بقدرة غرائبية وعبقرية إلى "آلية شعبية" يصعد عبرها ابن القائد ليرث والده في "تحمل أعباء الثورة". فكرة "الخصخصة" وتحرير القطاع العام: هذه الفكرة وآلياتها قفزت باقتصاديات بلدان أكثر فقرا من البلدان العربية إلى مستويات عالية, لكنها تحولت عندنا إلى آلية لتوسيع دوائر النهب, ومنح الأقرباء فرصا إضافية للغنى غير المشروع. فكرة تكنولوجيا الإعلام أو الاتصال أو علوم الجينات, كله يدخل إلى معمل "التحويل والتحوير" ويتم تفريغه من أي جانب إيجابي يخدم البشر العاديين, ويُعاد إنتاجه ليكون في خدمة النخبة الحاكمة وفقط. فكرة "حقوق الإنسان" والمنظمات غير الحكومية: لننظر كيف تم احتواء هذه الأفكار والمنظمات وأصبحت حكوماتنا العربية المُستبدة وأنظمتها هي حاملة لواء الدفاع عن حقوق الإنسان بقدرة قادر.
كيف يمكن أن نفسر شيوع فكرة "التوريث السياسي" في المنطقة العربية وفي أي إطار تحليل منطقي أو فلسفي أو علمي بارد أو سياسي براغماتي يمكن استيعابها؟ كيف يمكن أصلا أن يُطرح هذا الموضوع من أساسه في بلد كبير مثل مصر يدعي قيادة العالم العربي, بل والشرق الأوسط, فيما تنافسه على النفوذ الإقليمي دول راسخة وديموقراطية مثل تركيا, أو قوية ونووية مثل إيران؟ لماذا فجأة يصبح سيف الإسلام القذافي هو أصلح من أنجبت ليبيا لقيادتها, وكأن بقية الشعب جموع من المُعاقين؟ كيف يُطرح بين الوقت والآخر اسم ابن الرئيس اليمني عبد الله صالح كأحد أهم المرشحين لقيادة اليمن. ولماذا كان بشار الأسد هو الذي خلف والده في الجمهورية العربية السورية وعلى أي أساس, وهل خلت سوريا من أية شخصيات أو قيادات تستحق المنصب. ولماذا يتغير الدستور التونسي كل عدة سنوات ليفسح للرئيس زين العابدين بن علي الترشح لدورة جديدة كل مرة, حتى وصلت إلى خمس دورات, بعد أن كان يحظر الدستور على كل "مواطن" تونسي أن يترشح لأكثر من دورتين؟ يتناسل سيل الأسئلة, ولا جواب على أي منها سوى أن هذه هي معالم مسيرة الانحطاط, وسنظل نرى منها الكثير طالما بقينا نسير فيها بثبات ورسوخ.