أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
التخلف العربي بين مطرقة الأعداء وسندان الحكام !!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 01.11.2009

روى لي سياسي سوداني أنه سمع شخصياً من مسؤول أمريكي كبير ذات يوم بأن أمريكا تريد للسودان أن يبقى دائماً فيلاً جاثماً على بقعة من الحشيش، لأنه لو قـُيّض للفيل الجاثم أن ينهض لأحدث حراكاً خطيراً وصلت مفاعيله حتى إلى أكثر الجيران قوة وحجماً. وهو أمر ترفضه القوى الكبرى، لا بل مستعدة لأن تمنعه بالحديد والنار. لا أدري كيف يمكن أن نفهم أو نفسر هذا التصريح الخطير. هل نفهم منه أن الحكام العرب يريدون فعلاً النهوض بأوطانهم، لكنهم مغلوبون على أمرهم لأنهم غير قادرين على مجابهة القوى المتحكمة بالعالم، وبالتالي راضون بالأمر الواقع الذي يعني مزيداً من التخلف والانحطاط؟ أم أنهم مشاركون في هذا التآمر المكشوف على أوطانهم مع القوى العظمى التي ما كان لهم الوصول إلى السلطة من دون مباركتها أصلاً؟ فمن المعلوم أن الدول العربية هي الأقرب إلى جمهوريات الموز اللاتينية من حيث خضوعها للخارج وقبولها بإملاءاته وأوامره.
ليس هناك شك بأن أمريكا وإسرائيل ومعهما قوى أخرى لن تسمح بنهوض عربي، وأنها لن تألو جهداً في تكسير أرجل أي بلد عربي يفكر بالخلاص من التخلف والفساد والاستبداد والكساد. وقد شاهدنا كيف تكالبت أمريكا والغرب عموماً على العراق، فأعادوه إلى العصر الحجري كما توعد وزير الدفاع الأمريكي وقتها رامسفيلد، فدمروا بنيته التحتية، وقتلوا علماءه، وسحلوا أطباءه ومفكريه بعد أن كانوا قبل سنوات قد دمروا مفاعله النووي الذي كان يتفاخر به صدام حسين على أنه سيكون "عز العرب". بعبارة أخرى لا يمكن إلا أن نصدّق ما رواه السياسي السوداني عن الموقف الأمريكي من السودان وغيره من الدول العربية. لكننا في الآن ذاته لا يمكن لنا أبداً إلا أن نضع الكثير من اللوم على الأنظمة العربية نفسها، فهي ليست دائماً ضحية للتآمر الغربي، بل هي في معظم الأحيان شريك قوي في عملية التآمر على بلادها. فحتى النظام العراقي السابق كان يجاهر، رغم محاولاته التحديثية والعلمية للنهوض بالعراق، بأنه لا يستطيع إلا أن يقبل بمعاداة جارته سوريا والبقاء في حالة تباعد معها، لأن من شأن أي تقارب أو تحالف بين البلدين، على حد زعم مسؤول عراقي كبير وقتها، من شأنه أن يزعج الأمريكيين، وبالتالي كان النظام، كغيره من الأنظمة العربية ، يعترف، ويطبق الأوامر الغربية القاضية بمنع أي تلاق استراتيجي مع الجيران العرب يمكن أن يؤدي إلى النهوض والتقدم.
وإذا كان النظام العراقي السابق قد حاول أن ينهض ببلاده، ويساير المطالب الغربية في الآن ذاته، فإن غيره من العرب قد استسلم تماماً، لا بل شارك بشكل فعلي في المخطط الصهيو- غربي الرامي إلى تكريس التخلف والفساد والديكتاتورية وإبقاء الشعوب العربية تحت النعال كي لا تقوم لها قائمة يمكن أن تؤثر على المصالح الغربية في المنطقة. لا عجب إذن أن المفكر التونسي هشام جعيط قد وصف الكثير من الحكام العرب بأنهم مجرد وكلاء للخارج، فكما أن هناك وكلاء للسيارات والساعات والأحذية الغربية، فإن هناك حكاماً عرباً بوظيفة وكلاء مهمتهم الأساسية الحفاظ على الوضع الراهن والإمعان في دفعه باتجاه الأسوأ سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، بحيث ترضى عنهم أمريكا وإسرائيل، وتبقيهم على عروشهم.
لقد قدمت بعض أنظمتنا "لشيطانها الصهيو-أمريكي" خدمات جليلة يعجز عن وصفها اللسان ولا تـُقدر بأثمان، فمعظم السياسات العربية بحق الشعوب والأوطان تبدو وكأنها مصممة لخدمة إسرائيل وشركائها بشكل مباشر أو غير مباشر، وتمكينهم في المنطقة.
سمعنا قبل عقود كلاماً مفاده أن السياسات التي ينتهجها معظم الدول العربية هدفها بالدرجة الأولى تحطيم مجتمعاتها وشعوبها وإبقائها في حالة تخلف وجمود كي تظل إسرائيل الدولة الأولى في المنطقة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وصناعياً وديموقراطياً وكي يمعن الغرب في السيطرة عليها. لكننا كنا نعتبر مثل هذا الكلام مجرد إشاعات مغرضة ومحاولات مشبوهة لتشويه سمعة الأنظمة العربية. غير أن ما كنا نظنه خيالاً مريضاً بدأ يظهر بمرور السنين على أنه أقرب إلى الحقيقة منه إلى الأوهام، والأمور دائماً بخواتيمها. فليس المهم ما تقول بل ما تفعل. وما فعله الكثير من الحكومات العربية خدم "العدو" أكثر بكثير مما أضره. والأمثلة لا تـُعد ولا تـُحصى.
إن السياسات الشمولية والاستبدادية العربية جعلت إسرائيل تبدو في عيون العالم على أنها الديموقراطية المحترمة الوحيدة في المنطقة العربية مقارنة بالعرب. إذن أول خدمة عربية مطلوب من الحكام إسداؤها لإسرائيل وأعوانها هو الحكم بغير الديموقراطية، أي بالقهر والطغيان. وفي ذلك تلميع واضح لإسرائيل على حساب العرب.
لقد حققت أجهزة الاستخبارات في معظم الدول العربية،العسكرية منها والمدنية، كل انتصاراتها "التاريخية" على المواطن العربي المسكين والذليل، بحيث حولت الناس إلى ثلة من العبيد والمتذللين، ولم نسمع يوماً أنها نفذت عملية يُعتد بها خارج أسوار الأوطان. وكلنا يعلم أن العبيد لم يحرروا يوماً أرضاً محتلة، ولم يبنوا مجتمعاً قوياً ولا حضارة. عجباً كيف تحارب أعداءك القريبين والبعيدين بشعوب مقهورة ومجتمعات مخرّبة ومتخلفة ونفوس منهارة؟ من الواضح أن الذي يتصرف مع شعبه بهذه الطريقة ليس عدواً لأحد، بل أكبر خادم للأعداء وهم سعداء بأمثاله، إن لم يكن موضوعاً في منصبه لتحقيق غايات الأعداء أصلاً، فمحاربة الأقوياء الآن تتطلب سياسات وتصرفات غير التي نراها في الدول العربية جمعاء.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن الحركة الصهيونية تـُعتبر أخطر وأقوى حركة شهدها القرن العشرون، فقد نجحت في تجميع ملايين اليهود من شتى بقاع الأرض في فلسطين التي أقامت على أرضها دولة إسرائيل. ولم تكتف الحركة بإنجازاتها المحلية العملاقة بل استطاعت أن تمد أذرعها إلى أمريكا وأوربا بحيث غدت تتحكم بالامبراطوريات الإعلامية الغربية وتسخرّها لأهدافها المحلية والعالمية. زد على ذلك أن الصهيونية أمسكت بخناق الشركات الكبرى في أمريكا والغرب عموماً مما جعلها تتحكم بأهم سلاحين في العالم ألا وهما الإعلام والاقتصاد. لكن ماذا فعل أعداؤها من العرب؟ لقد أودعوا مدخراتهم في البنوك الصهيو- أمريكية ليخسروها لاحقاً. وبدلاً من أن يباروا الأعداء في الإنجازات الاقتصادية والإعلامية الهائلة راحوا يدمرون مجتمعاتهم بشكل منظـّم كي يجعلوها في نهاية المطاف لقمة سائغة في فم الصهيونية التي يزعمون أنهم يناصبونها العداء.
ففي الوقت الذي كانت بعض أنظمتنا تتذمر من هيمنة "اللوبيات الصهيونية" على وسائل الإعلام الغربية وتجييرها لصالح "الصهاينة" كانت تقوم بعملية ذبح مبرمج لوسائل الإعلام العربية بحيث غدت مهزلة المهازل ولا يتابعها الإنسان العربي إلا ربما للتندر بسخافتها وتخلفها. من الذي جعل المشاهدين والمستمعين العرب يولون وجوههم صوب الإذاعات والتلفزيونات الأجنبية "المدعومة صهيو-غربياًً"؟ بالطبع الأنظمة العربية التي تعطيك الانطباع بأنها دمرت السلاح الإعلامي المحلي عن قصد كي يقع المواطن العربي فريسة سهلة "للإعلام المتصهين" القادم من وراء الحدود.
وبدلاً من خلق مجتمعات صناعية وتكنولوجية واقتصاديات حديثة لمنافسة التطور الصهيو- غربي الخطير فقد حولوا بلدانهم إلى "سكراب" اقتصادي وعسكري وسياسي، فعادوا بالسياسة إلى عهد يزيد والحجاج بدلاً من عصرنتها، وبدلاً من تكوين جيوش تنافس جيش الاحتلال الإسرائيلي حولوا الجيوش إلى مطايا وبؤر للاسترزاق، فتحول الضباط إلى تجار ومتعهدين وأصحاب أرزاق وقصور منيفة وسيارات فارهة، كما لو أنهم يطمئنون الأعداء بأن يناموا قريري العيون، فيما غدا الجنود المساكين عبارة عن أقنان مستعبدين. وكذلك الأمر طبعاً لبقية الشعوب التي لم يرم له جلادوها وجلاوزتها سوى الفـُتات، بينما استأثروا هم بالقسم الأعظم من إجمالي الناتج القومي أو بالأحرى بالقمح والزيوان. كيف نحارب الأعداء بهذا النوع البائس من الشعوب؟
هل كان الأعداء يريدون منكم غير أن تعاملوا شعوبكم كالأنعام، وتسوموها سوء العذاب، وتقمعوها، وترهبوها، وتدوسوها، وتجوعوها، وتحاربوها بلقمة عيشها، وتحولوا الأوطان إلى مزارع خاصة؟ آه لو كان لديكم ذرة عرفان بالجميل أيها الأعداء لشيدتم تماثيل من ذهب مرصعة بالألماس والأحجار الكريمة لمعظم الأنظمة العربية، ووضعتموها في كل الساحات والميادين الإسرائيلية والغربية إكراماً لها على خدمتكم، فهي التي مكـّنتكم وجعلتكم تتربعون فوق أنقاضنا، فمجتمعاتنا، حسب كل تقارير التنمية البشرية الدولية، تعيش في غياهب القرون الوسطى تربوياً وصناعياً وتكنولوجياً وسياسياً.
آه كم هي مضحكة بعض المزاعم العربية التي تعزو تأخرنا "للعدو الخارجي"! أليس حرياً بنا أن نعكس الآية لنعزو تقدم الأعداء في بعض جوانبه إلى الحكام العرب أنفسهم؟ قد تكونين مسؤولة عن بعض تخلفنا وتدهورنا يا أمريكا وإسرائيل، لكننا بلا شك أصحاب فضل كبير عليكما لما قدمناه لكما من خدمات "تاريخية" عظيمة.
آه كم أنتم ناكرون للجميل أيها الأعداء!!