بقلم : رشاد أبو شاور ... 11.11.2009
تنفتح ذاكرتي على أيّام بعيدة زمنيّا، مع أولى زخّات المطر الذي انهمر مدرارا مع مطلع هذا الشتاء، لكنها لا يمكن أن تزول، فهي ترسبت في النفس، ما أن أتذكرها حتى يقشعر بدني من شدّة برد تلك الأيّام.
يعيدني المطر والبرد والشعور بثقل الزمن بين الطفولة الشقيّة، والعمر الذي بات واضحا في قسمات الوجه، وألم الروح، إلى تلك الأيّام...
انتقل أهلنا بنا من (بيت جبرين) إلى مدينة الخليل. ألقوا بما حملته أيديهم، وظهورهم، تحت أشجار الزيتون قرب الحرم الإبراهيمي، وارتمينا مُتعبين جوعى ذاهلين، نحن الصغار الذين لم نكن نعرف بالضبط ما الذي يجري، ومن يتسبب لنا به، ولماذا؟!
ولمّا عرفنا أن هناك قرب الحرم الإبراهيمي من يوزّع ( البركة) ـ وهي شوربة قمح ـ على المحتاجين، اندفعنا حاملين ما توفر من الأواني، لنمدها بأيد راجفة إلى ذلك الرجل الذي بدا حزينا وهو يغرف لنا من الوعاء الكبير، ويسكب في صحوننا، لنعود إلى ذوينا الذين كانوا يدّعون ـ وهذا ما عرفناه عندما كبرنا قليلاً ـ أنهم غير جوعى، ليوفروا لنا هذه الشوربة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولأن البرد هجم، وبرد الخليل يبدو أنه كان يأتينا من (سيبريا)، فقد لاذ بنا أهلنا في الأماكن التي تيسّرت، فكان أن انتقلوا بنا إلى منطقة اسمها (جورة بحلص).
في بيت فسيح مبني من الحجارة، يطلقون عليه اسم (العقد)، يُصيّف فيه أصحاب الكرم في موسم (القيظ)، وهو فصل الصيف عندما ينضج العنب والتين.
أربع أسر انحشرت اضطرارا في ذلك (العقد)، في عّز الشتاء، دون وجود أي نوع من التدفئة...
كان الأعمام يُحضرون قطعا خشبية ينهمكون في تكسيرها ليسهل إشعالها، ولكن الدخان كان يتصاعد منها بحيث يمتلىء (العقد)، فتسيل الدموع ـ هل كانت من الدخان والبرد؟!ـ ويسود الصمت إلاّ من سُعال جدتي فاطمة التي كانت تطلب من ابي أن يفتح الباب لأن البرد أفضل من هكذا دخان بلا نار.
كان أهلنا يعطوننا كسرة خبز صباحا، وكسرة خبز ظهرا، وكسرة خبز مساءً، ولا إدام، فمن اين لهم، ولو توفّر شيء يُطبخ فمن أين النار في هذا الطقس الذي كان يصفه عمّي عبد الرحمن بأنه يقص المسمار.
هرب بنا أهلنا من (جورة بحلص) إلى مخيّم الدهيشة، حيث بدأت رحلتنا مع ( الخيام)، وهي انواع، فمنها المخروطي، ومنها ذات الأعمدة الأربعة في الزوايا والعمود الأطول في المنتصف، والخيّام تتشابه جميعها بأنها تُشّد بالحبال.
رياح عاتية عاصفة أخذت تهب مع أمطار تسفع الوجوه، وتخلخل الخيام، فتقتلع الأوتاد الخشبيّة، وقد تُطيّر الخيام الصغيرة عن رؤوس اللائذين تحتها اتقاءً من طقس غير معهود، ولا محتمل، ولا وسيلة لمواجهته واتقاء أذاه.
رأيت خياما تطير من فوق رؤوس بعض الأسر، وسمعت اللعنات على هكذا حياة، وعلى من سببّوا هذه المعاناة، وأحيانا ارتفعت ضحكات غير مرحة، ضحكات من شدّة القهر، والعجز، وكشكل من أشكال الاحتجاج، ضحك كوميدي أسود، ضحك ناس يغرقون في الوحل، ولا خيار أمامهم سوى العيش، ومغالبة نتائج التهجير من القرى والمدن إلى ما هو غير متوقع، ولم يحسب له حساب، وهو غير عقلاني، ولا منطقي...
مع الجوع، وحياة الوحل، هجم علينا الثلج، ولم نكن قد عرفناه من قبل. ثلج ناصع البياض، تنعكس عليه شمس ترهق العيون، شديد البرودة، ارتفع حتى أغلق ابواب الخيام، وهكذا وقعنا في حصار الثلج من فوق خيامنا، ومن حولها، ومن تحتنا برودة الأرض الطينيّة، فزحفنا كالحيوانات، وشققنا مسارب في الثلج، و..لعنا الثلج الذي فاقم معاناتنا.
في تلك الأيّام خرج آباؤنا من تحت الخيام، وصرخوا، ورجموا الخيام بالحجارة، وقطعوا طريق بيت لحم الخليل، فتركنا خيم الدراسة، وانطلقنا لنشاركهم غضبا لم نكن نعرف كيف نعبّر عنه، غضبا متراكما في نفوسنا البيضاء. تلك كانت أوّل تظاهرة...
المطر والوحل والثلج والجوع دفعت أهلنا إلى الرحيل بنا إلى (اريحا) حيث الدفء، والأعشاب البريّة التي يمكن أن تطهوها الأمهات، فتلهي بطوننا، ولا نحتاج إلى ملابس ثقيلة في اريحا موطن الشمس الحّارة، والقمر الجميل حين يكتمل..آه ما أجمل قمر أريحا، تلك التي أحد أسمائها : مدينة القمر...
عراةً ركضنا في البراري
عراة عرّضنا صدورنا للريح
عراة تركنا صدورنا للشمس، وفتحنا نوافذها مبكّرا لتنبض القلوب بنظرات خفرة، بالنظرات الأولى لفتيات أينعت الشمس في أوردتهن
عراة في فضاء أريحا كبرنا، رغم الجوع، والعراء...
في اريحا بنى أهلنا من الطين غرفا، وسوروها بقوالب من الطين، وفي الأحواش زرعت الأمهات الحبق والنعناع، وربيّن الطيور، فبدأنا نأكل ما تنتجه تلك الحيوانات الأليفة .
في مُخيمات اريحا سمعنا اجراس المدارس، وأحضر لنا الأساتذة كرات نلعب بها، بالأقدام، والأيدي، وقرأنا أوّل كتاب بتوجيه من الأستاذ عدلي عرفات يرحمه الله، وأنشدنا أوضح نشيد: عائدون..وصرخنا: قسما بجوع اللاجئين.
وهناك، في مخيمات أريحا، عبّرنا عن غضبنا الواعي، فصرخنا ضد (حلف بغداد) و الجنرال البريطاني تمبلر الذي لقننا أهلنا أنه سفّاح (الملايو) ..من بعد عرفنا اين تقع الملايو، ونما وعينا بالتضامن الإنساني، وبأن قضايا البشر المظلومين واحدة، فهم أخوة في الإنسانيّة.
سررت بأوّل المطر هذا العام، رغم أن بيتي بدأ بالدلف، ووجدتني أردد بيت الشعر الجميل:
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
ولأن المعاناة رنّخت في نفوسنا، ولأن أهلنا عادوا للعيش تحت الخيام، في غزّة، ومخيم نهر البارد ومخيّم التنف على الحدود العراقيّة السوريّة، فقد عادت الذاكرة بي إلى أيّام الجوع والوحل والحزن والخيام التي لا تحمي، ووجدتني أتنقّل بمشاعري بين المخيمات الجديدة القديمة، فبعض من عادوا للعيش تحت الخيام عايشوا أيّام النكبة الأولى، ثمّ هاهم يعودون بعد كل شقاء العمر، فلا عودة للبلاد، ولكن ترحيلا إلى البرازيل والدول الاسكندنافيّة، وتهجيرا من جديد، فكأنما يولد الفلسطيني منذ أجيال للمعاناة والعذاب وتحمّل التنكيل به، والكذب عليه، وتشريده بعد سنين الوعود الخلّب بالعودة...
الذاكرة الفلسطينيّة الشقيّة مفتوحة طيلة الوقت، ورغم تراكم ما هو موجع طبقات طبقات، فإنها لا تنسى، فذاكرة الفلسطيني وجدت للتذكّر لا للنسيان، ففي كل يوم يهيجها ما لا يعطيها فرصة لالتقاط الأنفاس بحيث ترتاح للحظات من هذا الحمل الثقيل على النفس والعقل والقلب... نحن جيل، بل اجيال، لم تعرف الفرح، وكأننا اخترنا لنكون الشعب الوحيد على هذه الأرض الذي مهنته الحزن والغضب والموت المبكّر بالقتل العمد من نفس القتلة ...
ومع ذلك، فالفلسطيني يسّره أن يرى السيول وهي تكتسح شوارع المدن العربيّة وتنظفها، وهو يشارك فلاّحي بلاد العرب الأشقياء وهم يخطّون أوّل الأثلام في ارضهم تحت خيوط المطر التي تعدهم بانتهاء فصل الجفاف.. فالفلسطيني يتخيّل نفسه في أرضه، و..يرى بعين روحه حقول قمحه في فلسطين وهي تُخصب، ولهذا يكبر على الحزن والألم وقسوة الحياة، ولا يستسلم لليأس.