بقلم : زياد جيوسي ... 23.12.2009
صباح رام الله يمازج بين دفء شمس ونسمات باردة، أجول شوارعها، أحتسي القهوة تحت شجرة بركة، أقتطف بعض الياسمينات، وأتجه إلى مدينة القمر أريحا برفقة شقيقي الأكبر؛ حين أصل حدود رام الله أهمس لها: لن أغيب كثيراً و(سأبقى رغمَ كل الذين داست على جسدي خُطاهم نقيَّاً)، وما أن نطل على أريحا حتى (أعربشُ الأقمارَ في روحي)، وفي المعبر التقي بأخي الأصغر صدفة فأودع أخوتي الاثنين (واغرس في جراحي وردتين)، وعيناي ترنوا إلى عمّان الهوى، أعبر النهر المقدس الذي تُلوث جانبه الغربي حراب الاحتلال، فأرى نفسي (رجلاً مضاءً بالنوارس يقتفي أثر الرحيل)، وفي الحافلة روحي وعيناي ترف (تحملق عبر الشباك، تحاول رسمَ خيالٍ ما: غيم، شجر)، أحلم بلقاء عمّان (صدر امرأةٍ)، حيث هناك أرى مدينة تسكن مني الروح وأرى فيها (الضوءُ، طقوس الخصب)، أحلم أن التقيك على روابيها طيفاً وجسداً، فروحكِ التي (فَرَّت إلى كوة في التلَّ) لا تفارقني أبداً مهما طال المسير.
أبلغ مشارف عمّان في لحظات ما قبل الغروب (حيث الشمسُ تنجزُ من مناديل التوهجِ أول أُرجوان)، فأهمس لتلالها أن (أعيدوا إليّ قميصَ الطفولةِ)، وأهمس لطيفكِ: هل (نسيت أيها العمر عمراً) قضيته أحلم بك، ففي عمّان (قريباً أراني الآن أقرب يدي للجرح)، ففيها قضيت طفولتي وشبابي أستمد الحب (من الأغنيات ومن خبز الحصاد)، وفيها قضيت العمر وأنا (أدلُّ الوجوهَ لدرب المرايا)، وأحلم بلقائكِ وبالوطنِ و(أنا الذي ما زلت أبحث عن قميصي)، لعلكِ حين اللقاء تعيدي (صورة المهر في النهرِ).
تضمني عمّان في حناياها، أجول دروبها فرحاً كأنني (غيمٌ على سهو المدينة)، فأرى روحك تجول معي (تخاتُلَ الدحنون) وكأنها (نوتاتِ زهوَّ للتراب)، فنغني لعمّان معاً، فنحن (في دمنا الأغاني خضراء)، كما حبنا المنقوش في أرواحنا عبر العصور ما زال (ممتشقاً صهيل الماء في كفيه)، وما زال ينهمر (مطرٌ على كتف المدينة)، فأجول وأجول وأعرف أن روح حبيبتي تسكن أحد أحياء المدينة، فأحلم باللقاء في كل زاوية وفي كل شارع، فحب عمّان (أيقظ الدوريَّ في ذاكرة الغريب)، وقلبي من الألم (على أُهبة النوحِ غناءً) من شدة الشوق.
في قلب المدينة أجول فأشعر أنني (مبتلاً من ندى بلدي)، وفي المساء التقي بعض من أصدقاء الزمن الصعب بعد طول فراق، فيرافقني طيفك فأهمس له: أنت وحدك من (تحملني يداكَ مجازات الأساطير)، يهمس صديقي القديم قاسم توفيق لصديقي الشاعر جهاد أبو حشيش: قرأت كتابات لزياد قبل ثلاثين عاماً كتبها في الزمن الصعب فوجدته يتكلم فيها عن الحب وهو يعيش الألم، فيبتسم جهاد ويهمس: زياد كما همس جلال برجس: (تبعثر واستقرَّ في درب إلى حقل- يزيل الآن أتربة على نقش قديم) فحتى تعرفه (أصغِ لبوح الماء في وجع السنونو، واشرع شبابيكَ روحك للبروق)، فأهمس لهما: كنت أكتب لطيفي والوطن وحبي الأزلي (على مهلٍ كصوت فيروز حين يمسحُ في الصباح أول زهرة نبتت بحضن القلب)، فهل مثل الحبيبة من (تخربش في بياض الروح أجمل الكلمات)؟؟.
يعيدني حديث الأصدقاء إلى مرحلة كنا فيها (الأشجار التي وقفت تصد الريح عن بستان قديم)، ولكنها وبعد عقود من الزمان (الآن تصرخ كالذئاب من فرط ما لعجت بروق)، فأعود لصومعتي العمّانية و(على صمت نافذتي شتاءُ حامل في راحتيهِ أغنية الغياب)، فلا تحتمل روحي الصمت فأستغل الوقت وتحت المطر أعود للتجوال في أرجاء عمّان، (أسابق الطير إلى ما تبقى من بذار الحقول)، فأجول الأشرفية التي كانت الشاهد عليّ، وكنت شاهداً على مرحلة شبابها، فترافق شبابي مع شبابها، (إليها أذهب كالصغار المطيعين صوب الفراش)، وأتذكر الماضي وصحبي في دروب الجبل العالي وأزقته، (حين كان جدي يجبّ الدوالي مرة، وينثر في الهواء الشعير)، فأنظر إلى التل المرتفع، وأحاول (أن أغفو على حزني قليلاً، لأني ما عدت أعرف كم تبقى في الطريق)، فأعود لوسط المدينة من جديد، أستعيد ذكرى وذاكرة في مقهى قديم، فأستذكر حباً يرافقني، وأشعر بروح عمّان تهمس لي: لا تنساه أبداً و(اقبض عليه وأمنح غناءك ياقةً غجرية النايات).
هي عمّان كانت ولم تزل مدينة العشق تسكن (في جرار الذاكرة)، أستعيدها دوماً (صوت امرأة تغني كلاماً قديماً)، وأجول دروبها (منذ انصهار الناي في وجع الرعاة)، كبرت معها وبقيت شابة، وكلما التقيتها أجولها، أبحث عن وجه (لم يَعرْ للشمس أدنى انتباه)، وعن حب نما في قلبي (على ورد الصباح)، غنيت معه لعمّان من على التل المرتفع (بالأغاني الذاهبات إلى الندى)، حلمنا بالمستقبل معاً (كأي غصن على شجر)، لكن القدر قادني بعيداً (كالمسافر دونما جهةٍ)، وبقي الحلم يرافقني كما ترافقني عمّان في الترحال والسفر، وبقيت (أشتاق أن أنمو وأُعلي شأنَ أغنيتي)، وروحي تجول دروب المدينة (تفتّشُ في مرايا الليل عن وتر وناي).