أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"البوكر العربية" ... والصبيانية الثقافية!!

بقلم : د. خالد الحروب ... 23.12.2009

سجالات جائزة "البوكر العربية" للرواية والتي تنهي عامها الثالث تحمل آفاقا واعدة, وتكشف في ذات الوقت أعراضاً بائسة, للمشهد الثقافي العربي. الأفق الواعد يتمثل في النجاح الكبير الذي شهدته هذه الجائزة رغم عمرها القصير, ذاك أنها وفرت لعشرات الروائيين, المعروفين والجدد إطلالات إعلامية وترويجية ما كان لهم أن يحظوا بها من دون قوائم التصفيات الطويلة والقصيرة وما يرافقها من متابعات وأضواء. كما أنها, بالتالي, أوصلت رواياتهم لدوائر من القراء ما كان لهم أن يصلوها. ثم إنها اشتغلت جسراً لترجمة الروايات الفائزة بالمراكز الأولى إلى لغات أجنبية, وساهمت في توسيع عالمية الرواية العربية بعامة. إلى جانب ذلك, عملت الجائزة وتعمل على ترسيخ تقاليد جديدة في المشهد الأدبي, والروائي منه على وجه التحديد. التقليد الأول الشفافية ووضوح الخطوات. فهذه الجائزة تعمل تحت الشمس بدون تردد وبوضوح: الكل يتابع مراحل كل دورة من دوراتها, ولا يتوانى في نقد تفاصيل ونتائج كل مرحلة بحق أو بتحامل. والتقليد الثاني الاستقلالية وعدم وجود ضغوط من المؤسسة المانحة. الجائزة ورعايتها المالية مُقدمة من مؤسسة الإمارات في أبو ظبي, بيد أن آلية عملها مستقلة تماماً, ومجلس إدارتها لا يتلقى ولا يقبل تعليمات أو توجيهات مباشرة أوغير مباشرة من أحد, وهو ما يُقدر للمؤسسة والقائمين عليها. إذا تغير ذلك في المستقبل لن يكون كاتب هذه السطور الوحيد الذي يقدم إستقالته من مجلسها ويُغادر.
التقليد الثالث, وهو الناتج عن سابقه, يتمثل في استقلالية لجان التحكيم. مجلس الأمناء يعين لجنة تحكيم جديدة كل سنة, يُراعى فيها ما أمكن التمثيل الجغرافي العربي, وتمثيل النوع والعمر والتخصص. يحرص المجلس أن لا تكون اللجنة مقصورة على نقاد الأدب, فذائقة الرواية تتعداهم والكاتب لا يتقصدهم بنصه وحسب. فكما في لجان تحكيم الروايات في العالم, يجب أن تتسع اللجنة لقراء عاديين, وصحفيين, وربات بيوت, وآخرين. بعد تعيين اللجنة ليس لمجلس الأمناء أي نفوذ أو تأثير خلال فترة التحكيم. يرفض المجلس وأعضاؤه أي ممارسة أبوية مباشرة أو غير مباشرة على أعضاء لجنة التحكيم, حتى لو كانت مجرد الإشارة عليهم بآلية ما لاختيار الروايات الفائزة. يعود ذلك لأعضاء اللجنة المعنية, فهم بخبراتهم وتعاملهم البيني يصلون إلى الطريقة التي يرونها مناسبة. نتيجة ذلك بالطبع أن ليس ثمة جائزة في العالم, أدبية أو غير أدبية, تقوم على الذائقة والتقدير الذاتي لأشخاص مختلفين تكون موضوعية تامة وعادلة بالمطلق. فمن جوائز نوبل وحتى جوائز المطالعة المدرسية, هناك دوما نقصا ما يمكن نقده.
رغم كل سبق لم تتعرض جائزة أدبية في العالم العربي لما تتعرض له "البوكر" من اهتمام ونقد, وتشكيك واتهام, وهو بكل الأحوال ما يؤكد نجاحها. مثقفون كبار, وروائيون مبدعون, وكتاب معروفون, يستسهلون الهجوم على الجائزة وتوجيه الاتهامات إليها. هناك طبعا ما يمكن نقده في الجائزة كما في أي نشاط آخر, لكن كثافة النقد وعدم موضوعيته مثير للاهتمام والبحث العميق, ويعكس فيما يعكس سوسيولوجيا مثقف مرحلة الانحطاط. فهنا لا ينجو المثقف من الحالة العامة التي يعاني منها المجموع, مشاركاً من ينقدهم في انفعالاته وردود أفعاله, تتقدمها الحيرة, والشيزوفرينيا, والتهويل, وعقلية المؤامرة, واستدعاء البطولات الدونكوشيتية. ويُضاف إلى ذلك كله, بسب طبيعة الاختصاص, السقوط الأبله في إغواء اللغة وإغراءات الغوغائية. الحيرة والشيزوفرينيا يستفزهما كون الجائزة منبثقة في فكرتها عن جائزة "البوكر البريطانية". فهنا نجد المثقف نفسه الذي ينظر للمجموع العام بضرورة التفريق بين حداثة الغرب وسياسة الغرب ينزلق إلى جمع الاثنين معا, ناسياً تنظيره ونقده السابقين. تصبح الجائزة, إن لم تتماش ومزاجه, "إمبريالية" والقائمين عليها يحملون أهدافا مشبوهة. مثقفون وأدباء لا يمكثون في عواصم بلدانهم أكثر مما يمكثون ضيوفاً في محافل غربية حضورا لندوات ومشاركة في نشاطات, لا يترددون في ترداد ما يلوكه أي أُمي عندما لا يجدون أسماءهم أو أسماء من يفضلونهم في قائمة الفائزين. مثقفون وأدباء كبار يكتبون نصوصاً في حق الجائزة وحق زملائهم في لجان التحكيم يخال المرء أن المقصود بها عدو أباد شعب الكاتب, أو اغتصب أرضه, أو استباح كل محرماته. حدة لغة الهجوم ونزق الشتائم مدهشة وتستدعي ألف سؤال. يفاقهما التلذذ المرضي بتفكير المؤامرة. يفوز روائيان مصريان بالجائزة في السنة الأولى والثانية, ولأن القائمة الطويلة في السنة الثالثة لا تحتوي إلا على اسمين مصر من ضمن 16 اسماً, فإن ذلك "مؤامرة على مصر" وأدبائها! والمؤامرة نفسها التي تدور كل عام على بلد أو منطقة ما, كانت قد بدأت في عامها الأول ضد السعودية والخليج لأن القائمة الطويلة لم تحتو روايات من هناك. زميلة عضو في لجنة تحكيم الدورة الحالية لم يعجبها أن يُصار إلى حسم أسماء الفائزين بالقائمة القصيرة عبر التوصيت وبعد تسع ساعات من النقاش, أي أطول من الجلسة النهائية لمؤتمر كوبنهاغن لحماية كوكب الأرض. انسحبت من اللجنة وأصدرت بيانات عسكرية انتصارية كأنها خرجت من حرب أكتوبر. هل هناك آلية اخترعها البشر لحسم النقاش الطويل سوى التصويت؟ إذا رفضت الزميلة الكريمة قرارا ديمقراطيا في لجنة مكونة من خمسة أشخاص, فكيف يحق لأي مثقف فينا أن يعترض على رفض الأنظمة المستبدة حولنا لأي خيار ديمقراطي نُطالب به؟ روائية كبيرة كانت تنتظر على أحر من الجمر أن تكون هي الفائزة, وعندما لم تفز قالت بأنه لا يشرفها أن تفوز بالجائزة أصلا, وشتمت لجنة التحكيم ومن فيها.
هناك معضلتان ضمن أشياء كثيرة يطرحها الهجوم المتوتر على "البوكر العربية", أولاهما أخلاقية والثانية رياضية. الأولى هي أن استسهال الهجوم على الجائزة يأتي في جانب كبير منه بسبب استقلاليتها, وعدم وجود أكلاف مباشرة للهجوم عليها. معظم الجوائز الأدبية العربية لا تتمتع باستقلالية وشفافية "البوكر العربية", لكن تلك الجوائز لها "أب". و"الأب" هناك يلقن الناقد دروسا قاسية, بالحرمان من الدعوات واللقاءات في البلد المعني وسوى ذلك. ذلك يشي بلا أخلاقية الشجاعة الدونكوشيتية التي نراها تباري نفسها هنا, وتركن إلى جبنها هناك. المعضلة الثانية, أي الرياضية, تكمن في الحقيقة الفلسفية القائلة بأن عدد الروائيين الذي من الممكن أن يحتلوا المركز الأول في كل دورة هو واحد, وأن عدد الروايات التي من الممكن أن تحتل مواقعا في القائمة القصيرة المكونة من ستة مواقع هو ست روايات فقط. كيف يمكن إقناع جيوش الناقمين على الجائزة باستحالة تغير هذه المعادلة الرياضية, واستحالة حشر عشرين روائيا, مثلاً, في المركز الأول؟