بقلم : سهيل كيوان ... 14.01.2010
أهالي قريتنا شجعان، ولهم قصص في قتل الضباع والأفاعي والتصدي للصوص ومطاردتهم، بل ان (فزع سليمان الحمود) قتل نمراً، كان هذا في سني الاحتلال الأولى، تصارع معه إلى أن سقطا متعانقين من علو شاهق، وكان نصيب النمر أن يسقط تحت (فزع) ليموت وينجو (فزع)!
ورغم شجاعتهم كانوا يخافون من الماء، ولا أقصد البحار والمحيطات والحوامات العملاقة البعيدة عنهم، بل من ماء العين الصافية التي يشربون منها وتترقرق بهدوء لتنساب في سهل القرية في قنوات وأحواض لتروي الخضار والأشجار والماشية!
كل من يمر بجانبها يطلب 'الدستور'، والدستور هو أن يقول 'دستور يا صالحين بسم الله الرحمن الرحيم' ثم يتلو الفاتحة!
الجميع يقرّ ويعترف بأن العين مسكونة بـ'الصلاّح'، وفي قعر بئر العين توجد بلاطة، من نظفوا البئر أكدوا أنه مكتوب عليها 'بسم الله الرحمن الرحيم'!
هناك إجماع حول هذا الأمر، ولكن توجد قلة نادرة شككت بوجود 'الصلاّح'، وحتى هؤلاء لم يذهبوا بعيدا وأبقوا طريقاً للتراجع، أنكروا أمام الناس تظاهراً بالمرجلة ثم عادوا وطلبوا الدستور سراً!
يتجلى'الصلاّح' في بقبشات المياه الهادئة، إنها أرواح الصالحين الأتقياء، وهم لا يؤذون أحداً إلا من يستهتر ويحاول تنجيس المياه فهم حرسها! ومن النادر أن تجد رجلاً أو امرأة في قريتنا ليست له قصة مع 'الصلاّح'! كانت هذه القصص متشابهة أحيانا لدرجة التطابق: 'في ليلة معتمة لا ترى فيها أصبعك مررت بجانب العين وإذا بشبح يرتدي الأبيض من أخمص قدميه إلى قمة رأسه له لحية بيضاء تصل حتى صدره سد لي الطريق..ذهبت يميناً فانزاح الى اليمين، ذهبت شمالا فذهب شمالا، حاولت التقدم فارتطمت كأنما بجدار..قلت: دصطور يا صالحين، بسم الله الرحمن الرحيم، وبدأت بتلاوة الفاتحة، كأنه ملحة وذابت!'، أو..'مررت بجانب العين في ليلة ظلماء وإذا بشبح كأنه عامود نور، رجلاه في الأرض ورأسه في السماء سد لي الطريق، ذهلت، ولكنني أسرعت وقلت 'دصطور يا صالحين، بسم الله الرحمن الرحيم' فاختفى قبل أن أنهي الجملة كأنه لم يكن'...'فلان مرّ بجانب العين، لم يطلب الدصطور ويقال والله أعلم (ما بحطّ على ذمتي) إنه بصق في العين فالتوت شفتاه وانزاح فمه جانباً..الله يكفينا شرّه!' هذه القصص كانت تلقى آذناً صاغية وقلوباً وجلة منا نحن الصغار عند سماعها!
ولهذا عندما كنا نمر بجانب العين بعد السهرة خصوصاً في ليالي خروج القمر إلى إجازته، نكثر من الدسترة والبسملة وقراءة الفاتحة! طبعاً دائماً يوجد من يدعي أنه لا يخاف، ولكن هؤلاء بالذات وبعدما راقبناهم كانوا يمرون بجانب العين ركضاً مدسترين مبسملين أكثر من غيرهم!
جميعنا كنا نخاف وهذا مشروع، صحيح أن الصلاح طيبون ولكن بإمكانهم أن يعاقبوا وأن ينتقموا!
في ليلة ما كانت السهرة عامرة في بيتنا المحاذي للعين حول لعبة الورق، (اسكمبيل)، والنشاط في أوجه لتزويج القصّ من الديكة! ولا تسمع سوى (حُط كبير وقيم كبير)، ترك عمي (فزع) زوج عمتي حفيظة السّهرة وخرج ثم عاد بعد دقائق وقال مستهتراً.. 'بُلت في العين.. والصلاح لم يفعلوا شيئاً'!
بهت الجميع، وقالت عمتي حفيظة الجالسة بين النسوة في الجهة الأخرى من البيت 'يا ويلك من الله شو بدك تعمل فينا..صحيح يا (فزع) قتلت النمر بسّ هون لا تلعب...'! وأصبنا نحن الأطفال بالذعر، شعرنا أن شراً ما قد وقع، دسترنا وبسملنا كثيراً وطلبنا المغفرة والسماح لعمّي (فزع) زوج عمتي حفيظة الذي واصل لعب الورق منتصراً وضاحكاً غير مكترث لأحد!
مرت أيام وأسابيع وأشهر، وفي ليلة ما استفاقت القرية على 'دبّة الصوت'.. 'جاي يا غلمان جاي'، كانت بالات القش تشتعل في البراكية، وهي بناء من ألواح الزنك ملاصق لبيت عمي (فزع) استخدمه كحظيرة للماعز ومخزن للقش، لم يكن وقتها مياه في البيوت، امتد صف الرجال والنساء من العين إلى البراكية يناولون بعضهم الدلاء والتنكات وكل آنية ممكنة لإطفاء الحريق، كانت النتيجة مأساوية....احترق ونفق سبعة وعشرون رأساً من الماعز، وأصيب بعضها بحروق، ولم ينج سوى بضع عنزات! أما (فزع) زوج عمتي فقد لفحت النار وجهه وتشلوط شعره فلفّ رأسه ووجهه بكوفية بيضاء واستلقى في الفراش لأيام والناس من حوله يعودونه ويواسونه! كان التفسير لما حدث أن جدياً قفز فوق بالات القش وأسقط نواصة الزيت المشتعلة عليها.
الحريق ذكر البعض بفعلته، ولكنهم اكتفوا بالنظر إلى عينيه الحزينتين ولم يبوحوا بما يفكرون به كي لا يبدو الأمر تشفياً لا سمح الله! فكل أبناء القرية وأينما ذهبوا يفخرون بـ (فزع) الذي قتل النمر...ومرت أشهر أخرى!
أذكره يمسح دمعته وهو يردد بذهول 'سيموت مبارك.. مبارك سيموت..يا ويلي عليه..فخذه الأيمن منتفخ بل متيبس وعاجز عن الحركة'! توافد الرجال والنساء من كل الحارات إلى ساحة داره والجميع يتأمل بشفقة ما حصل لفزع وثوره، إنه 'مبارك' اسم على مسمى، كان فحلاََ يستخدم لتعشير الأبقار الوحمانة في طول البلاد وعرضها، كانوا يصلون من القرى البعيدة يطلبون استعارة 'مبارك' لعدة أيام ثم يعيدونه شامخ الرأس مع هدية متواضعة من الحبوب أو العسل بعدما ملأ بطون بقراتهم بعجول من سلالته! مسكين عمي (فزع) قبل أشهر فقد شلعة من الماعز والآن يفقد ثوره 'مبارك'!
في ذلك الصباح لم يخرج سوى قلائل من القرية إلى أعمالهم في المحاجر والحقول! الجميع التفوا حول الأسرة المنكوبة بعزيزها 'مبارك'، خصوصا وأن نكبة الماعز ما زالت ماثلة في الأذهان، ولكن الجميع نظروا إلى عمي (فزع) الذي نجا من النمر بعتاب..لقد آن أوان التوبة و(الاستقعاد) أي الاعتراف!
جاء رجال من الجارتين دير الأسد والبعنة وحتى من نحف لتقديم يد العون والنصح!
سبحان الله، هل هذا 'مبارك' الذي كان يتعاون عدد كبير من الرجال للسيطرة عليه إذا ما أفلت من عقاله! إنه يخور بألم يكاد يستغيث ويخرج من فمه زبد كثير...!
بعد التشاور تقدم أحد الرجال الأشداء وحمّى سيخاً ضخماً من أسياخ الجزارين على (ببّور البريموس) الكبير (نمرة خمسة) حتى احمرت شفرته، بسمل ثم شق أعلى الفخذ والساق حتى العرقوب طولياً من الجانب المتيبس بأقصى قوته فخرج صوت نشيش اللحم مع الخوار والألم ورائحة احتراق الشعر والشواء...وصار الدم والصديد ينزان بغزارة، والرجال يضغطون بأصابعهم وأكفهم القوية على فخذ وساق ومؤخرة 'مبارك'، لإخراج السّم والصديد. لم تمض ساعة حتى انتصب مبارك على قوائمه الأربع وتحرك...دار دورة في الساحة...تململ وخار خواراً قوياً كأنه يشكر المهتمين بسلامته فأعاد للناس ابتسامتهم. تهللت الوجوه وتكررت الحمدلات..انتهى الكابوس وأجهش كثيرون بالبكاء شفقة على عمي (فزع) وثوره..عانقوه ولكن بملامة وعيون متسائلة! كانت رسائل العيون واضحة...! وفجأة صاح وهو يبتلع دموعه: يا أهل بلدنا إشهدوا..هذا نذر عليّ..أن أقيم مولداً نبوياً شريفاً لوجه الله الكريم...
- مبروك مبروك سلف..هذا الحكي المزبوط...
- يا جماعة أنا (مستقعد)..مثلي مثلكم ولكنني مزحت..!
- مزحت..!شو مزحت..!لأ يا (فزع) مش هيك المزح....قال مزح قال...هذه شغلات ما بنمزح فيها.
صمتت العين وأغلقت، ورغم هذا ما زلت أبسمل إذا مررت بجانبها ليلاً، وأتذكر الرجل الذي كنت أدعوه عمي (فزع) زوج من كنت أدعوها عمتي حفيظة رحمهما الله، ويقال إن خبراء يهودا نزلوا إلى البئر أكثر من مرة بحجة فحص نوعية المياه، ولكنهم استبدلوا بلاطة 'بسم الله الرحمن الرحيم' ببلاطة من عندهم وهذا سبب غيض المياه وتسربها إلى مكان آخر واختفاء الصلاح منها...