بقلم : نقولا ناصر* ... 19.12.2009
كل الأدلة والدلائل تدفع إلى تصديق النفي المصري للتقارير التي قالت إن القرار كان مصريا لبناء جدار من الفولاذ تحت الأرض على الحدود المشتركة مع قطاع غزة المحاصر من أجل قطع شريان الحياة الوحيد عن مليون ونصف المليون من الأشقاء العرب والإخوة المسلمين والجيران الفلسطينيين على الجانب الفلسطيني من هذه الحدود المتمثل في الأنفاق في الأسفل التي تمدهم بأسباب البقاء على قيد الحياة، ولو على الرمق، لكن هذه الأدلة والدلائل نفسها تنفي أن لمصر "مطلق الحرية" في ممارسة سيادتها على جانبها من هذه الحدود كما قال وزير الخارجية أحمد أبو الغيط.
والأدلة والدلائل نفسها تدحض تصريح مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان لقناة الجزيرة الفضائية يوم الأربعاء الماضي بأن قرار بناء جدار كهذا هو قرار سيادي مصري وليس قرارا أميركيا، وتدحض ما صرح به دبلوماسي أميركي لصحيفة الديلي تلغراف البريطانية في العاشر من الشهر الجاري بأن بلاده "ليس لها أي دور في أي مشروع على حدود غزة – مصر يشمل أي حاجز أو جدار".
في السابع عشر من كانون الثاني / يناير هذا العام نشرت صحيفة هآرتس نص "مذكرة التفاهم" الأميركية – الإسرائيلية "لإنهاء تهريب السلاح إلى غزة" -- وهي نفسها الصحيفة التي سبقت إلى نشر الخبر عن بناء الجدار الفولاذي تحت الأرض الذي سوف يكتمل بناؤه بعد ثمانية عشر شهرا حسب التقارير الإعلامية -- باعتبار ذلك "أولوية" ذات أبعاد متعددة، مكوناتها دولية وتركيزها إقليمي، وتشمل "التعاون" مع الجيران"، تعهدت بموجبه "الولايات المتحدة بالعمل مع الشركاء الإقليميين وفي الناتو" من أجل تحقيق الهدف من الاتفاقية في ساحة عمليات تشمل البحر الأبيض المتوسط وخليج عدن والبحر الأحمر وشرقي إفريقيا (حسب النص) "من خلال تحسين الترتيبات القائمة أو إطلاق مبادرات جديدة" كما تعهدت "بتحسين التعاون الأمني والاستخباري مع الحكومات الإقليمية" للغرض ذاته، وبإشراك القيادات العسكرية الأميركية الوسطى والأوروبية والإفريقية وقيادة العمليات الخاصة في هذه العملية.
وتزامنت هذه العملية بصورة لافتة للنظر مع ظهور "القرصنة الصومالية" التي اتخذت ذريعة لحشد الأساطيل الغربية وغير الغربية في ساحات العملية، والتي ما زال يلفت النظر أيضا أنها بالرغم من جبروتها ما زالت عاجزة عن اجتثاث هذه الظاهرة من مكان انطلاقها في "جمهورية أرض الصومال" شبه المستقلة عن بقية الوطن الصومالي بفضل الدعم الذي تحظى به من أطراف مذكرة التفاهم هذه أنفسهم.
ولم يصدر عن مصر حتى الآن أي احتجاج دفاعا عن السيادة المصرية كون مذكرة التفاهم تلك قد أبرمت ثنائيا بين دولة الاحتلال وراعي أمنها الأميركي من وراء ظهر مصر ودون مشاركتها ودون أي حد أدنى من الاحترام لسيادة مصر بالرغم من أن ساحات عمليات الاتفاق الثنائي الأميركي – الإسرائيلي تمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة حدود مصر الشرقية والشمالية والجنوبية الإقليمية والبحرية، مثل الاحتجاج الذي نشرته صحيفة الجمهورية المصرية يوم الخميس في افتتاحيتها على الانتقادات الموجهة لبناء الجدار الفولاذي على حدود القطاع باعتبار بنائه "حقا سياديا" لمصر للفصل بينها وبين غزة، وباعتبار الجدار ليس جديدا بل هو مجرد إضافة تحت الأرض للجدار القائم فوقها.
وكانت افتتاحية الجمهورية هذه هي أول اعتراف مصري شبه رسمي ببناء هذا الجدار بعد النفي الرسمي المتكرر.
وفكرة الجدار أصلا إسرائيلية، وبدأت بفكرة حفر حاجز مائي بعد إعادة نشر قوات الاحتلال حول حدود القطاع عام 2005 وهي الفكرة التي تبنتها وزيرة الخارجية آنذاك تسيبي ليفني، لكن نظيرتها الأميركية السابقة كوندوليزا رايس اقترحت تعديل معاهدة الصلح المصرية مع دولة الاحتلال لعام 1978 تعديلا يسمح لمصر بالمزيد من ممارسة سيادتها على حدودها مع القطاع عن طريق مضاعفة عدد الجنود المصريين المسموح لهم بالانتشار من (750) جنديا إلى (1500) جندي، لكن دولة الاحتلال رفضت هذه الفكرة.
وبعد أن وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض التزم بمذكرة التفاهم، ووعد مباشرة بعد العدوان على غزة بمساعدة مصر على وقف التهريب إلى القطاع، وكانت إدارة سلفه جورج بوش التي وقعت مذكرة التفاهم قد منحت مصر "معونة عسكرية" قدرها (32) مليون دولار وأرسلت مسؤولين رفيعي المستوى هما روبرت دانين من وزارة الخارجية ومارك كيميت من وزارة الدفاع إلى سيناء للاطلاع على كيفية معالجة مصر للمشكلة على أرض الواقع ثم لحق بهما فريق من سلاح المهندسين الأميركي لتدريب المصريين على الحدود مع القطاع على كيفية التعامل مع الفلسطينيين الباحثين عن أسباب الحياة تحت الأرض بعد أن تقطعت بهم السبل فوقها بالطريقة التي يتعامل بها الأمن الأميركي مع مهربي المخدرات والمجرمين على الحدود مع المكسيك.
إن مصر وقطاع غزة ليسا في حالة حرب، ومع ذلك فإن مواصفات الجدار المزمع بناؤه، أو الإضافة عليه حسب افتتاحية الجمهورية، هي مواصفات جدار بين بلدين في حالة حرب، فهو فولاذ قواه سلاح المهندين الأميركي بحيث لا يمكن اختراقه أو قطعه أو صهره يبلغ سمك ألواحه أربع سنتمترات مضادة للقنابل على عمق (18 – 20) مترا بطول يتراوح بين (7- 8) أميال مع معدات متطورة للمراقبة منها أجهزة تعمل بالأشعة تحت الحمراء وأخرى تتبع الحرارة وكاميرات تصوير إضافة إلى طريق محظور على غير الدوريات العسكرية السير فيها بمحاذاته فوق الأرض.
وقالت الأميركية كارين أبو زيد المفوضة العامة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن الجدار الفولاذي "صنع في الولايات المتحدة" وإنه أقوى من جدار "خط بارليف" الذي بنته دولة الاحتلال على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس بعد احتلالها لشبه جزيرة سيناء المصرية عام 1967.
وليس هناك أي مسوغ لبناء هذا الجدار الحربي "الدفاعي" إلا أن يكون قطاع غزة قد أعلن الحرب على مصر، أو يكون بناؤه بمثابة إعلان حرب مصرية على القطاع.
ولأن الاحتمال الأول ينقضه واقع أن القطاع بالكاد يقوى على الدفاع عن الوجود الإنساني فيه، ناهيك عن شن الحرب على الآخرين، ولأن الاحتمال الثاني ترفضه الفطرة الوطنية المصرية والفلسطينية بقدر ما ترفضه صلة الرحم القومية والأخوة الإسلامية، فإن الاحتمال الواقعي الأقرب إلى التصديق هو أن دولة الاحتلال قد نجحت في نقل خط دفاعها الأول جنوبا إلى الحدود المصرية الفلسطينية لتحكم حصارها على القطاع من الجهات الأربع، وأن الجدار هو جدار إسرائيلي في أهدافه السياسية وأغراضه العسكرية لكنه صنع في الولايات المتحدة، حتى لو كانت الأيدي العاملة فيه مصرية وحراسه من الجنود المصريين، وأن السيادة المصرية على هذه الحدود غير مكتملة إن لم تكن منقوصة.
في الأقل، هذا هو التفسير الذي يحبذه الشعب الفلسطيني، ولو كان تفسيرا مجافيا للواقع ويدخل في باب التمني، لأن التفسير البديل لا يخجل مصر والمصريين وحدهم، بل يخجل كل من يحب مصر والمصريين من العرب والمسلمين.