بقلم : رنا جعفر ياسين ... 21.12.2009
[**الحقيقة مطابقة للأشياء ذاتها , و أن القضايا حقيقية ما دامت تتطابق مع الأشياء ذاتها...أرسطو]
الحاجة أمُّ الاختراع .. هذا ما سمعناه و مارددته الأجيال لعهود طويلة.
و مع تجاوزنا لبداية الألفية الثالثة من التقويم الشرعي المسبوق بقرون شكلت ملامح البشرية الأولى في النضال من أجل البقاء, أجد أننا نمتلك من العلوم ما يدعو للفخر ابتداءً من تحديد ملامح الزراعة في أرض ما وصولاً الى اقتلاع السرطان من الجسد الحي و لا انتهاء طبعا عند معرفة طبقات الصخور المحيطة بمركز المريخ.
أحب الانسان بفطرته كشف العوالم المحيطة به و كان ذلك وسيلته الوحيدة لردم قلقه من النهاية , فاكتشف ما يحميه من الجوع و أوجد القوانين في الزراعة و الصناعة و علاج الامراض و الفلك , و مثلما أحب الحياة أراد التطور .. فبحث أكثر, و وجد.
اختراع العلوم بدأ من حاجة الانسان الى الاكتشاف , فاكتشف علوماً فكت رموز بيئته المادية المحيطة و اخترع فيما بعد علوماً ً تدخلت في تفصيلات و تكوينات تلك المادة المحيطة من الذرة حتى أقصى الكون. ولم يغفل عن تسمية علوم أخرى فسرت الظواهر المحسوسة و غير المرئية .
فقامت المجمتعات بعلومها .. و تطورت مع تطور أبحاثها و مكتشفاتها و كلما ظهرت الحاجة الى معرفة شئ أو ترويضه أو القضاء عليه ظهر الاختراع و انبثقت الاجابات التي بمثابة عقاقير الشفاء باكتشاف علوم جديدة.
و لكن مع تطور هذه المجتمعات و قدرة الانسان على تربية بيئته مثلما أراد لتسد جوع غريزته الأولى في البقاء و الرغبة أهمل الانسان اكتشاف علوم دواخله و لم يستطع تدجين سلوكياته المتضاربة بين خير معلن كلما اقترب من التحضر و شر يضمر بتراكم المدنية و تزايد المغريات .. تلك غريزة الانسان الأول , طوع الاكتشاف خيرها و أخفى بعض الشر في النفوس.
ما وصلنا اليوم من المجتمعات هو انعكاس ثقافتها المتشكلة في كل بيئة , فما وصلنا هو ما علمناه , و ليس بالضرورة ما حاولنا الاستعلام عنه.
المجتمع نواة الحياة في كل بيئة , و بمدى تأثره بتلك البيئة و تأثيرها عليه تتشكل ثقافته و يبدأ الاختلاف في تحليل سلبيات و ايجابيات علاقة التأثر بالتأثير . و يكون الواصل الينا من هذا السجال و أخبار الشعوب مادتهم الاعلامية التي نتلقاها بتكشفاتها و خباياها.
يتأثر العالم اليوم بالمجريات معتمداً بذلك على ثالوث تفاعلي قائم على المجتمع و الثقافة و الاعلام , و ما انتخبناه من علوم ظل قاصراً على معاينة ظواهر اجتماعية كامنة , كانت الأجدر بالبحث و التنقيب عن علوم تحاول ايجاد الحلول الناجعة بعد مكاشفة تلك الظواهر على الملأ , اذ كلما انتشر وباء سارعت البشرية لتدشين علاجات و رصدها و الادمان عليها.
و اذا ما اعتمدنا فكرة هذا الثالوث التفاعلي سيكون علينا تحليل العلاقة بين عناصره والتي تبدأ من قاعدة الهرم الثالوثي و المتمثلة بالمجتمع و مدى ارتباطها بالضلعين الاخرين ( الثقافة و الاعلام ), فالبشرية هي مركز الكون و منها تتشكل كل العلاقات و تعكس حال ذلك المجتمع في ثقافته على مستوييها الخاص والعام و تقود بذلك الى خلق سبل اعلامية معبرة عن تلك الثقافة و بالتالي ذلك المجتمع.
فما ألفناه اليوم من ثالوثنا التفاعلي العربي يعكس تبايناً ملوحظاً بين ما نحن عليه في الواقع و ما نريد أن نكونه أو الأصح ما اعتدنا القول اننا فيه. اذ ان المجتمعات العربية ما زالت ترزح تحت لواء التناقض في محاولة لردم الهوة بين تحقق السطح و ارباك عمق الهوية مما خلق تناقضات شتى بين ما نقول و ما نفعل , أيضا بين ما نفعل و ما نفكر فيه, و هذا بدوره عكس احتداماً ملوحظاً في الثقافة العربية على مستوييها العام و الخاص أيضا مثلما عكس تناقض هذه المجتمعات في حربها الداخلية بغية قبول الاختلافات.. والاحتفال بالنجاح الذي لم يتعود عالمنا العربي الاحتفال به و تدعيمه.
و ما ينقله الاعلام العربي اليوم دليل واضح على فعل التأثر بهذين العنصرين و يعكس رغبته الطفلة في التأثير على هذين العنصرين ببعض المكاشفات التي تحتاج الى غوص أكثر في كنه المشكلة لتصل الى نضوج مطلوب يداوي صدوع العمل الاعلامي في التنفيذ و الرسالة المطلوبة.
بهذا سيكون لهذا الثالوث التفاعلي دوره الأكبر في اختصار المسافة بين الداخل و الخارج العربي فيكون له فعل التغيير الذي يبدأ بتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية و كسر كل مرايا الذات بهدف الرؤية من خلال الآخر.
نحن اليوم ,و في مجتمعاتنا العربية نواجه خطر أوبئة كثيرة تدعونا للبحث. أوبئة تلوث الشعوب و تضرب خارجنا بداخلنا. أوبئة تعكس ثقافة مربكة (بفتح الباء) و مربكة (بكسر الباء) و تقودنا الى اعلام يحتاج الى اعادة النظر.
صورة عالمنا العربي اليوم مضببة جداً و في أحيان كثيرة داكنة , تحتاج الى مصارحة مسؤولة تعتمد في الطرح على عزيمة المواجهة.. ان لم نكن نملكها الآن فلنسعى الى اكتشافها و تعلمها.
الكشفولوجي.. علم كشف المخبوء و الذي سيغوص في كشف علوم الظواهر السلبية في المجتمع و الثقافة و الاعلام العربي , منطلقاً من أهمية هذا الثالوث التفاعلي و مدى تأثير أي عنصر فيه على الآخر, منطلقاً من صدق قول: الحاجة أم ُّالاختراع.
فخلال احتكاكي اليومي بالآخر في الحياة و الثقافة و الاعلام رصدت بعض التشوهات و التآكلات فقررت توثيق هذا في كتاب بنفس عنوان هذه المقالة أدون فيه هذه المشاهدات بمقالات فرعية , لكنني اخترت مشاركتكم فيه قبل أن يطبع من منطلق كسر المرايا الذاتية و لنكن جميعنا عين للآخر , نواجه بعضنا و نسمي الحقائق.. علنا نستطيع النيل من هذا الوباء.
و من حاجتنا للعلاج بحثت , فاخترعت علوما تعنى بتلك الظواهر السلبية في المجتمع و الثقافة و الاعلام العربي و ستكون لكل ظاهرة مستشرية علم يعنى بتشخيصها و مواجهتها بعد تفشي البلاء.
ليست هناك الا الأخطاء الأولى .. هكذا قال باشلار.
يا ليتنا نواجه فننجو.
الكشفولوجي .. هو أكثر ما نحتاجه اليوم لحماية نوعنا البشري من الانقراض و الانقضاض أيضاً.