بقلم : نقولا ناصر* ... 27.12.2009
عشية الذكرى السنوية الأولى المشؤومة للعدوان الذي شنته دولة الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يبدو المشهد الفلسطيني قاب قوسين أو أدنى من لحظة انتفاضة وطنية ضد الحصار العسكري المفروض كرها على القطاع بقدر ما هو ضد الحصار السياسي الذي اختارته طوعا القيادة المفاوضة في منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية، بينما المجتمع الدولي، الحريص على استئناف "عملية السلام" باعتبارها آلية لا غنى عنها لضمان أمن الاحتلال ودولته، يبدو متفرجا وكأنما يشجع وقوع انفجار كهذا تتخذ منه دولة الاحتلال ذريعة لشن عدوان جديد على القطاع يأملون جميعا أن ينجح في ما فشل فيه عدوان العام الماضي ولاستثمار نتائج العدوان الجديد "المأمولة" لإكراه مفاوض منظمة التحرير على استئناف عملية التفاوض بشروطها التي يرفضها الآن.
وفي مواجهة الخطر المحدق، يبدو المشهد الفلسطيني عبثيا، وعدو نفسه.
فالقيادة المفاوضة تتعهد علنا بمنع أي انتفاضة كهذه، وكما قال محمود عباس رئيس المنظمة وسلطة الحكم الذاتي وحركة فتح المفترض أنها تقودهما في مقابلة له مع صحيفة الوول ستريت جورنال الأميركية في الثاني والعشرين من الشهر الجاري: "طالما أنا في منصبي، فإنني لن أسمح لأحد ببدء انتفاضة جديدة. أبدا، أبدا. أما إذا رحلت، فإنها لن تعود مسؤوليتي، ولا أستطيع أن أقدم أي ضمانات."
وبينما تحاول حكومة دولة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو جهدها لتحويل أنظار الرأي العام العالمي بعيدا عن الوضع الفلسطيني المتفجر إلى خطر عسكري نووي إيراني ما زال يفتقد الحد الأدنى من الأدلة لإثباته ، وبينما نجح نتنياهو في تجنيد إدارة باراك أوباما الأميركية لصالح أجندته التي تضع هذا الخطر المفترض على رأس جدول أعمال المجتمع الدولي، يسارع عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس كتلتها في المجلس التشريعي، عزام الأحمد، إلى محاولة حرف أي انتفاضة حذر منها عباس وتعهد بمنعها وتختمر تحت السطح حاليا ضد الاحتلال بالدعوة بدلا من ذلك إلى "انتفاضة ضد حماس" في القطاع المحاصر، ليتسرع القيادي في حماس يحيى موسى في الانجرار إلى فخ الاحتلال الذي وقع فيه الأحمد بالدعوة إلى "انتفاضة" ضد السلطة بالضفة، ليبدو الوضع الراهن الفلسطيني، إعلاميا في الأقل، وكأنما يساهم في مجموعه، بوعي أو دون وعي، في "تآمر" على انتفاضة وطنية واقعية محتملة ضد الاحتلال، كمخرج وحيد لانسداد الأفق السياسي تفاوضيا وللخروج من الحصار الذي يهدد مشروع بناء الجدار الفولاذي الذي يبنيه سلاح المهندسين الأميركي تحت الأرض على الحدود المشتركة مع مصر بتحويله إلى حصار محكم يطبق على القطاع.
وتزداد عبثية المشهد الفلسطيني عبثا لا يدل إلا على تدنى الإحساس بالمسؤولية الوطنية عندما يلاحظ المراقب المحايد أن بناء هذا الجدار الفولاذي بدل أن يتحول إلى حافز لرص الصفوف الوطنية فإنه تحول إلى موضوع جديد للخلاف يعمق الانقسام الوطني. فبينما يرفض العقل والمنطق ناهيك عن الحرص على مصلحة الشعب الفلسطيني أن يكون بناء هذا الجدار موضوعا لأي جدل وطني لما يمثله من إحكام الحصار على القطاع وتشديد العقوبة الجماعية المفروضة على أهله، بغض النظر عن الجهة المسؤولة عن ذلك، نجد حماس والمنظمة في موقفين متناقضين، فالأولى ترفضه بينما الثانية تدافع عن "السيادة الوطنية المصرية" التي تساق لتسويغ بنائه، في وقت يتطلب الوضع الراهن المتفجر وخطر العدوان المحدق المسارعة إلى توفير الحد الأدنى من الوحدة الوطنية.
إن عوامل الجغرافية السياسية، إن لم تكن الجيرة وصلة الرحم العربية والأخوة الإسلامية، تسوغ إجماع طرفي الانقسام الفلسطيني على صيانة العلاقة الاستراتيجية مع مصر، وانتهاج سياسة احتواء أي خلافات معها، وعدم تهديد أمنها، واحترام سيادتها، كما أكد طرفا الانقسام في سياق الجدل حول بناء الجدار الفولاذي.
غير أن هذه العوامل وهذا الحرص لا يسوغان لقيادتي منظمة التحرير وفتح الاكتفاء بالتأكيد على احترام السيادة المصرية دون أي إشارة من قريب أو بعيد إلى مضاعفات بناء الجدار ليس على السيادة الفلسطينية بل على الوجود الإنساني لمليون ونصف المليون من أبناء الشعب الفلسطيني، وإلى كون بنائه يخدم الأهداف العسكرية والسياسية للاحتلال، ويعتبر جزءا من آليات الاحتلال لإحكام الحصار على القطاع، وحلقة من حلقات العقوبات الجماعية المفروضة على أهله، وإضعافا للقدرات المحدودة لأهل القطاع في الصمود والدفاع عن النفس والاستعداد لعدوان جديد واسع النطاق ينتظر الوقت الملائم فقط، لأن عدم الإشارة إلى كل هذه المضاعفات وغيرها يصور الجدل وكأنما يدور حول ما إذا كان أو لم يكن لمصر الحق في السيادة، مع أن هذا الحق ليس موضع جدل فلسطيني بالتأكيد، وليس هو بالتأكيد أيضا موضوع الجدل الدائر.
كما أن بناء هذا الجدار في مواجهة الشعب الفلسطيني في القطاع وليس في مواجهة دولة الاحتلال يصور اكتفاء القيادتين ب"الدفاع" عن الحق المصري في ممارسة السيادة وكأنما ينطوي على موافقة ضمنية على أن القطاع وأهله وحكومته والمقاومة فيه هم الذين يهددون سيادة مصر وأمنها وليس الاحتلال ودولته، وفي ذلك لي للحقائق، وقلب للحقيقة، وترويج لادعاءات الاحتلال، ناهيك عن كونه تنكرا لعذابات أهل غزة يسوغ الاتهامات السياسية الموجهة للقيادتين بالاستعداد للتضحية بهم من أجل تحقيق أغراض حزبية فصائلية ضيقة. وكان في وسع القيادتين في الأقل أن يقرنا دفاعهما عن السيادة المصرية بمطالبة الأشقاء في مصر بفتح المعابر "الشرعية" فوق الأرض بديلا للأنفاق التي اضطر شعبهم إلى اللجوء إليها بديلا "غير شرعي" لتلك المعابر تحت الأرض كشريان حياة يبقيه على الرمق إلى أن يفرجها الله.
في الحادي والعشرين من الشهر قالت ستة عشر منظمة حقوق إنسان عالمية من العاصمة الفرنسية باريس إن "المجتمع الدولي قد خان" الشعب الفلسطيني في غزة، وإن "القوى العالمية قد خانت أيضا حتى مواطني غزة العاديين"، وإن "تعبيرات المجتمع الدولي عن عدم الموافقة على حصار غزة لم تعد كافية". لكن هذه المنظمات استنكفت عن إبداء رأيها في ظلم ذوي القربى في الحكومات العربية وفي قيادة منظمة التحرير، تاركة هذه المهمة كما يبدو لنظيراتها العربية والفلسطينية التي تتكاثر كالفطر بفضل تمويل ذاك المجتمع الدولي إياه الذي اتهمته ب"خيانة" الشعب الفلسطيني.