بقلم : نقولا ناصر* ... 04.01.2010
إن موضوع الجدل السياسي الذي يثيره الجدار الفولاذي الذي يبنيه سلاح المهندسين الأميركي تحت الأرض على الحدود المصرية – الفلسطينية المشتركة مع قطاع غزة هو حصار القطاع، لكن الأزهر الشريف عندما أفتى حول الموضوع الأسبوع الماضي تهرب من الإفتاء حول الحصار بفتواه حول السيادة المصرية، وهي ليست موضع الجدل ولا موضوعه، ومثل الأزهر فعلت الكنائس العربية عندما لجأت إلى التعميم في موقفها الرافض للاحتلال الإسرائيلي لكي تتهرب من التخصيص بإعلان رفضها لإحكام الحصار على القطاع بجدران جديدة، عربية هذه المرة.
ففي "وقفة الحق" التي أعلنتها القيادات الروحية للكنائس المسيحية في الأراضي المقدسة في وثيقتهم المعنونة "حانت لحظة الحقيقة والعمل في فلسطين" التي أصدروها من مدينة بيت لحم، مهد المسيح عليه السلام، في الحادي عشر من كانون الأول / ديسمبر الماضي لم يتطرقوا إلى "الجدار الفولاذي" في إشارتهم القصيرة التي لم تتجاوز سطرين إلى غزة و"الحصار المستمر" لها بعد "الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل عليها"، وكأنما ليتجنبوا أي احتكاك بالسلطات السياسية الفلسطينية والمصرية والإسرائيلية وغيرها تحت باب ترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وهو السبب نفسه الذي قاد قداسة البابا بنيدكت السادس عشر إلى إسقاط غزة من برنامج "حجه" الأخير إلى الأراضي المقدسة مما قاد بدوره إلى احتجاج علني شجاع لراعي الكنيسة الكاثوليكية في غزة الأب منويل مسلم وقاد بالتالي إلى "تقاعده" في ما بعد.
أو ربما توقعت القيادات المسيحية فتوى الأزهر اللاحقة فأرادت أن تتجنب أي اختلاف مع الأزهر قد يؤثر في "حوار الأديان" الذي تسارع التركيز عليه في السنوات الأخيرة في سياق "عملية السلام" العربية الإسرائيلية، وكانت تلك الفتوى قد انتقدت معارضي بناء الجدار الفولاذي لأن "الذين يعارضون بناء هذا الجدار يخالفون بذلك ما أمرت به الشريعة الإسلامية"، كما جاء في البيان الذي أصدره يوم الخميس الماضي مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف بموافقة خمسة وعشرين عضوا من علمائه الأفاضل، مدافعين فيه عن "حق الدولة (المصرية) في أن تقيم على أرضها من المنشآت والسدود ما يصون أمنها وحدودها ومصالحها"، وهو الموقف الذي "استهجنته" في بيان رسمي قبل يومين حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
من حيث المبدأ، ووفقا للقانون الدولي، فإن ما تفعله أي دولة داخل حدودها وفي نطاق سيادتها الإقليمية هو قرار سيادي وطني لها، غير أن كثيرا من قضايا الصراع الدولي المعاصرة تؤكد بأن هذا المبدأ في التطبيق العملي ليس صحيحا على إطلاقه، وأن ممارسة الدول لسيادتها الوطنية لها حدود سياسية واستراتيجية تقيدها، بخاصة إذا كانت هذه الممارسة تمثل خطرا أو تهديدا حيويا يتجاوز الحدود الوطنية، فالقانون والعرف الدوليين، وكذلك شرع الله أيا كان عنوان التوحيد له، جميعها تقيد ممارسة السيادة الوطنية بالتزامات أهمها عدم الإضرار بالدولة أو بالشعب أو بالكيان المجاور كما يمثل احترام القانون الإنساني الدولي قيدا آخر على هذه الممارسة. وهنا يكمن جوهر الجدل الحقيقي حول قيام مصر ببناء جدار من الفولاذ على جانبها من الحدود مع قطاع غزة الفلسطيني.
ولا يحتاج الأمر إلى خبراء في القانون الدولي أو إلى جهابذة في الدبلوماسية لإثبات أن ما تفعله مصر في نطاق سيادتها الإقليمية هو قرار سيادي مصري، وينطبق ذلك طبعا على الجانب المصري من الحدود المشتركة مع فلسطين في قطاع غزة. لكن "الدفاع" المصري -- في معرض تفسير بناء جدار الفولاذ وتسويغه -- عن حق مصر في ممارسة سيادتها، وحماية حدودها، واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمنع انتهاك سيادتها وحدودها، يصور الجدل وكأنما يدور حول ما إذا كان أو لم يكن لمصر الحق في ذلك، غير أن ذلك بالتأكيد ليس موضع جدل، وليس هو موضوع الجدل الدائر، والتركيز على هذا الحق المصري الذي لا جدال فيه إنما هو محاولة غير موفقة دبلوماسيا لأنها فشلت حتى الآن في التغطية على الموضوع الحقيقي وفي التهرب منه.
إن مجموعة من الأسئلة التي وجهتها إحدى جماعات المقاومة لكاتب هذا المقال ربما تعبر عن "الموضوع" الحقيقي للجدل الدائر حول بناء هذا الجدار. سأل المكتب الإعلامي لألوية الناصر صلاح الدين: في أي سياق يأتي بناء الحكومة المصرية للجدار الفولاذي؟ وهل يساهم بناؤه في الحصار على القطاع؟ وهل يعتبر بناؤه مقدمة لحرب عدوانية جديدة على غزة؟ وهل يمثل بناؤه ضربا لسياسة التضامن العربي المعلنة مع الشعب الفلسطيني أم أن غزة خارج سياسة التضامن الرسمي؟ وهل يؤثر بناؤه في أداء المقاومة الفلسطينية؟ وهل تتضرر سمعة مصر جراء بنائه؟
ومن الواضح أن القلق الفلسطيني من بناء جدار الفولاذ مشروع من الناحيتين الإنسانية والوطنية، فبناؤه إنسانيا يقطع شريان الحياة الوحيد المفتوح من أجل البقاء، وهو وطنيا سيغلق المنفذ الوحيد المفتوح لامتلاك الحد الأدنى من وسائل الدفاع عن النفس. وفي الحالتين يتحول بناؤه إلى ممارسة للسيادة المصرية تتجاوز حدودها السياسية والاستراتيجية والإنسانية الحدود الإقليمية لمصر، خلاصتها إحكام الحصار على القطاع من المنفذ العربي الوحيد الذي ما زالت الآمال معقودة عليه كباب خلاص وحيد ممكن من الحصار الإسرائيلي المطبق على القطاع، وفي الحالتين يمثل بناؤه تهديدا حيويا لمن يعيشون على الجانب الآخر من الحدود، ومن المؤكد أنه لا يوجد أي دولة أو شعب في العالم لا يعتبر مثل هذا التهديد عملا حربيا عدوانيا، اللهم إلا إذا وفرت مصر بديلا شرعيا فوق الأرض لشريان الحياة غير الشرعي المفتوح تحتها والذي يندرج تحت باب "الممنوعات تبيح المحظورات" وينطبق عليه المثل القائل إن "الحاجة أم الاختراع."
ومن الواضح كذلك أن بناء الجدار لم يأت في سياق ممارسة مصر لسيادتها فقط، بل جاء في سياق "مذكرة التفاهم" الأميركية – الإسرائيلية التي وقعت بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع -- الذي يعيش أهل غزة ذكراه السنوية الأولى المشؤومة هذه الأيام – في السنة الأخيرة من عهد إدارة جورج بوش الأميركية السابقة، والتي استهدف توقيعها تحقيق الأهداف التي فشل ذاك العدوان في تحقيقها، والتي لم تتحقق حتى الآن بعد توقيع المذكرة ويأمل موقعوها أن يقود بناء الجدار الفولاذي تحت الأرض إلى تحقيقها.
ويجد الفلسطينيون في القطاع أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن يتصدوا لمشروع الجدار الفولاذي "المصري" أو يعودوا إلى تصعيد المقاومة ضد الجدران المدرعة "الإسرائيلية" التي تحكم الحصار على القطاع لفتح ثغرات فيها تعوض عن الثغرات التي فتحوها تحت الأرض من أجل البقاء على قيد الحياة ويجري إغلاقها اليوم، وهو ما لا ترفضه مصر وحدها بل كل المعنيين باستئناف "عملية السلام". ويجد المصريون أنفسهم في مأزق مماثل يمزقهم بين صلة الرحم القومية والأخوة الإسلامية التي تجعل قلوبهم ضد الجدار ومع المتضررين منه على الجانب الآخر من الحدود وبين قيود معاهدة السلام التي تلتزم حكومتهم بها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تجعل سيادتهم غير مكتملة على كامل حدودهم مع فلسطين، سواء "الفلسطينية" مع القطاع أم "الإسرائيلية" مع النقب، وقيود التزام حكومتهم ب"عملية السلام" التي تتذرع بها لعدم ممارستها للسيادة المصرية بفتح حدود مصر مع قطاع غزة كمخرج وحيد ممكن من المأزق الراهن الذي يجد المصريون أنفسهم فيه، ويزجون الفلسطينيين فيه.