أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
خيانة المثقف!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 16.12.2009

من جوليان بندا الفرنسي، إلى أنطونيوغرامشي الإيطالي، إلى إدوارد سعيد الفلسطيني وبينهم وحولهم قائمة تطول من الكتاب والمفكرين والنقاش محتدم حول دور المثقف في مجتمعه. يختلفون في أشياء كثيرة، لكنهم يتفقون في أن المهمة الأساسية للمثقف تكمن في "النقد". المثقف الحقيقي هوالمثقف الناقد، وأولا الناقد لذاته ولجماعته الأولية. نقد العدوهوأسهل أنواع النقد وأرخصه. نقد الذات، الفردية والجماعية، هوالمهمة والتحدي. التخلي عن هذه المهمة هو، تبعا لوصف بندا وتوكيد سعيد، "خيانة المثقف" — حيث يخون المثقف دوره النقدي الأساسي.
كلما تجتاح أمورنا السياسية أوالثقافية عاصفة شعبوية تتطلب من المثقفين وأصحاب الرأي والكتاب والمفكرين والإعلاميين وقفة عقلانية ورصينة وشجاعة ضد التيار نرى كثيرا منهم يقومون بعكس ما هومتوقع منهم. يستسهل هؤلاء ركوب موجات الهيجان الشعبي وتصدرها بل وتسعير نارها، على حساب المنطق والموضوعية وتعميق الوعي. بعضهم يحول مؤسسات كاملة إلى آليات تدغدغ عواطف الناس وتزيد من إغراقهم في الجهل والتمنيات. أحد الزملاء تسلم إحدى كبريات المؤسسات الإعلامية في العالم العربي تحت شعار "تنوير لا تثوير" فكان أن حولها ما كان فيها من تثوير إلى تهييج شعبوي ناهيك عن الانتقال بها إلى التنوير الفعلي. في الأسابيع الماضية تلاحق سقوط مثقفين كثر وفنانين ومبدعين في بركة الشعبوية الآسنة، خلال متابعة قضيتي التلاسن المصري الجزائري على خلفية مباريات كرة القدم، والتصويت السويسري على حظر المآذن.
في القضية الأولى رأينا إعلاميين كبارا وقرأنا لمثقفين مرموقين ما لم نصدقه من انحدار في مهاوي الشعبوية، والتحريض، والتعميم، والاتهام، وصولا إلى العنصرية. عوض أن يكون موقف هؤلاء جميعا هواستسخاف الانجراف الشعبي العام وإدانة افتعال عدوات تنبش من حقب ما قبل التاريخ المدون، استمرأ كثيرون لوثة الجنون العام وامتطوها. حوادث الشغب والاعتداءات بعد مباريات كرة القدم الحساسة صارت من الأمور المعتادة في العالم. وهي يجب أن لا تخرج من سياقاتها المحددة: اعتداءات جنائية من اختصاص الشرطة المعنية في البلد الذي تُقام به المباراة. لا يجوز لأي سياسي انتهازي، أومثقف متسلق، أوإعلامي باحث عن شهرة على حساب تسعير العداوات أن يخرج بتلك الاعتداءت من إطارها الجنائي. كيف يقبل مثقف أوربع مثقف تعميمات وإطلاقات على كل الشعب المصري أوعلى كل الشعب الجزائري انطلاقا من مباراة كرة قدم، ومواقف جماعات الغوغاء من المؤيدين الذين لا يتقنون سوى الصراخ والشتائم؟ كيف يقبل ربع فنان أوربع روائي، ناهيك عن روائي فاز بجائزة عالمية للرواية العربية، أن ينحط إلى استخدام تعبيرات عنصرية تصف شعباً بأكمله بالدونية والتخلف وعدم الأهلية؟ الفنان والمُبدع والمثقف الحقيقي هوراعي القيم الإنسانية السامية، والمُدافع (افتراضا) عن الجوهر المُتعالي عند البشر، الرافض للتقسيمات الإثنية، أوالدينية، أوالعنصرية، والمُنحاز للعدل والمنطق والموضوعية من دون اعتبارات مُسبقة. المثقف الحقيقي هوالضد الموضوعي لـ" مثقف قبيلة غزيّة" — ما أنا إلا من غزيّة إن غوتْ غويتُ، وإن تعدل غزيّةُ أعدلُ. جحافل المثقفين والإعلاميين والمبدعين المصريين والجزائريين الذين أنحازوا لـ "غزيّة" من دون تفكير، وبالغريزة القبلية لا يستحقون الأوصاف التي يحملون، وهم أمثلة لـ "المثقف الخائن".
القضية الثانية كانت في تناول كثير من المثقفين والكتاب العرب مسألة حظر المآذن التي صوت عليها الشعب السويسري. مرة أخرى كانت الهبة الأكبر هي في مناصرة "غزيّة" من دون التمحيص في جوانب المسألة قبل الخروج بالتعميمات والإطلاقات والتهويلات الجامعة. قراءة بعض ما كُتب تحيل إلى الاستنتاج بأن المسلمين في سويسرا أصبحوا على مقاصل الموت، ويساقون إلى مذابح جماعية. بشعبوية بالغة ولاقتناص التصفيق وركوب موجة الغضب تغافل كثير من أولئك عن أن بناء المساجد وحرية العبادة فيها وحرية لباس الزي الإسلامي مصانة في سويسرا وفي أوروبا عموما أكثر بكثير من بعض البلدان الإسلامية. كما أن حرية العمل السياسي الإسلامي وخاصة للتنظيمات الإسلامية التي لا تحلم بأن تجد موطئ قدم في أي بلد عربي أوإسلامي مُصانة وكاملة، بما في ذلك حزب التحرير وبعض الجماعات السلفية التي تؤيد بن لادن والقاعدة، ناهيك عن جماعات الأخوان المسلمين وغيرها. مع ذلك فإن التصويت على حظر المآذن كان خطأ مرفوضا وينم عن تصاعد عنصرية وخوف كامنين إزاء الإسلام والمسلمين. ووقفت الحكومة السويسرية وكثير من الأحزاب ضده، كما تقف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضده أيضا. ما كان مطلوبا من المثقفين والكتاب الذي ركبوا موجة الغضب الشعبوي وسعروها هومعالجة الموضوع بالمنطق والموضوعية والحجم الذي يستحق، وليس بالتعميم والتهويل. مسلموأوروبا يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية فيما آلت إليه أمور النظرة إليهم والخوف منهم من قبل المجتمعات الأوروبية العريضة. الجاليات المسلمة تعيش في معازل سكنية وثقافية وغير منخرطة في مجتمعاتها، وتترك للرأي العام أن يتشكل وفق ما يصوغه الإعلام الشعبوي الأصفر الباحث عن الإثارة. هذا كله من دون التذكير بالحالة الرثة والعنصرية السائدة في بلداننا إزاء حرية أتباع الديانات الأخرى في بناء معابدهم.
المثقف الحقيقي هوالذي يواجه مجتمعه بالحقيقة، ولا يبحث عن التصفيق الشعبوي. قول الحقيقة تمرين صعب، وبلعها أمر مرير، لكن التغاضي عنها، ودفنها تحت السطح هوخيانة مزدوجة: خيانة الدور وخيانة الحقيقة نفسها. عندما كان الإعلامي سيئ الصيت أحمد سعيد خلال الحقبة الناصرية يبيع الوهم للمستمعين ويبشرهم بأن الطائرات المصرية تقصف تل أبيب فيما كان الجيش الإسرائيلي يحتل كامل سيناء في حرب 1967، كان يقوم بتلك الخيانة المزدوجة. كان يهيج الناس ويكذب عليهم. كانت النتيجة هي تكوين أساس عريض من الثقافة الشعبوية مبني على الكذب والوهم والتهويل والتعميم، وتلك كلها أعداء العقلانية والعقل والتنوير. في الساحة العربية الآن هناك نوعان من المثقفين: المثقف الشعبوي، الانتهازي وبائع الوهم، والمثقف العقلاني، التنويري وقائل الحقيقة حتى لوكانت ضد قومه وجماعته، ومهما بلغت مريرة.