بقلم : سهيل كيوان ... 28.01.2010
بلا شك أنك تنتبه للموسيقى التي يبثها هاتف صديقك أو أحد أفراد أسرتك، ولا شك أن هناك علاقة ما بين مزاج الشخص والموسيقى التي اختارها لهاتفه، وشئنا أم أبينا فإننا نأخذ فكرة أولية عن شخصيته من خلال رنة هاتفه، قد تكون صائبة أو خاطئة..فمن يختار موسيقى..(موطني موطني) بعزف حزين على الكمان..ليس كمن يختار بوس الواوا أح..! ومن يختار (ألف ليلة وليلة) لأم كلثوم ليس كمن يختار 'الشيشة يا معلمة' أو...'بحبك يا حمار'...مع احترامنا لكل ألوان الفنون والفنانين!
لهذا السبب كان الأستاذ محمد العلوان الذي يدنو من الخمسين منزعجاً جدا من الأغاني التي تختارها ابنته لهاتفها، فهي بمعظمها من الأغاني التي لا يعرف عنها وعن أصحابها شيئاً، ويصنفها في باب (السخافة والهبل)، وكان يتنغص وهو يستشف من خلالها فراغاً وسطحية مفزعة لدى ابنته حبيبته التي يحلم بأن تكون مختلفة عن الأخريات بوعيها ونضجها وجديتها وذوقها! ورغم أنه انسان منضبط ويحاول بإخلاص عدم المساس بمشاعر ابنته الغالية فقد اضطر لأن يقول لها أكثر من مرة...
- ما الذي تحبينه بهذا النهيق!
- نهيق! ترد فاتحة عينيها على وسعهما!
- وماذا نسمي هذا الجعير! حسناً فليكن جعيراً...!
تكشر ابنته وتتمتم وتتبرم، ولكنها لا تلبث أن تغير الأغنية التي قال إنها نهيق!
وما أن يسمعها حتى يقول ساخراً- ماذا فعلت! استبدلت النهيق بالخوار!
وطبعا تزعل ابنته مرة أخرى وتتبرم ولا تفهم لماذا يسخر والدها مما تعتبره روائع الموسيقى والغناء! أكثر من مرة حاول التأثير والتدخل في صياغة ذائقتها الفنية ولكن موجة ما يسميه (الهشك بشك) غلبته، فقد كانت عالية وكثيفة وساحقة جدا، حتى أنه يئس من الإصلاح وسلم أمره للزمن لعله يعيدها الى رشدها، واعترف أن الجيل الجديد وبمن فيهم أبناؤه يعيشون ذوقاً غير ذوقه، وزمانا غير زمانه، وتذكر وهو يهز رأسه متأملاً مقولات وحكماً كثيرة في هذا المجال من الإمام علي إلى جبران خليل جبران وغيرهما من المفكرين والباحثين....'أبناؤكم ليسوا لكم...'.
في يوم ما فوجئ بهاتف ابنته يبث لحناً يعرفه، بعد هنيهة تأمل تذكر أنها مقدمة 'نبتدي منين الحكاية' لعبد الحليم حافظ، فابتسم وغمرته غبطة كبيرة، انشرح صدره، نظر إلى ابنته بحنان وإعجاب، بل ان عينيه كادتا تدمعان تأثراً...وحدث نفسه قائلاً.....ها هي أخيرا اهتدت إلى شيء مقبول، لقد ردها أصلها، صحيح أن هذه ليست من روائع عبد الحليم حافظ، ولكنه عبد الحليم العملاق، وهذه ألحان عبد الوهاب صاحب الروائع.. موسيقار الأجيال...!
كلما سمع اللحن من هاتف ابنته خفق قلبه وشعر بحنان يتدفق في صدره، أحس بطمأنينة ما....لقد قالت له هذه الجملة الموسيقية شيئاً كثيراً....إنه التواصل.. الميثاق أو العهد...بين الماضي والمستقبل! وعندما لاحت له الفرصة قال لها: يابا أنا مبسوط منك كثير كثير ...
- ليش يابا! ردّت وقد لمعت عيناها بفرح طفولي..
- لأنك اخترت عبد الحليم!
- أي عبد الحليم!
- أقصد اختيارك لأغنية 'نبتدي منين الحكاية' رنة لهاتفك!
- شو...! مش فاهمة...شو قصدك!
- الأغنية التي يبثها هاتفك عند الاستقبال.. تذكرني بأيام العزوبية! بالأيام الجميلة التي كنت أرقص فيها ساعات بلا تعب.. هذه موسيقى راقية!
- أنا لا أفهم مما تقول شيئاً! ما علاقة هذا بهاتفي..!
- أقصد القول إن الموسيقى التي اخترتيها لهاتفك هذه المرة على مستوى راقٍ وليست من موسيقى الأغاني التافهة..
- أنت تقصد أغنية (زوهر)...طبعا هي جميلة..بتجنن..
- أقصد أغنية عبد الحليم ..
- أي عبد الحليم ..!
- ولو!...عبد الحليم حافظ!
- يبدو أنك لا تتحدث عن هاتفي ..
- بل عن هاتفك..! ورغم حالة الاختناق التي شعر بها، فقد ضغط على رقمها من هاتفه، وما هي سوى لحظات حتى بدأت موسيقى 'نبتدي منين الحكاية' تنبعث من هاتفها فراح يدندن معها ثم قال: أقصد هذه الموسيقى.
ردت ابنته مصححة- انت غلطان...هذه أغنية (زوهر أرغوب) وليس عبد الحليم حافظ..
- زوهر ..مين؟! رد مذهولاً..وهو يكاد ينفلق...
ردت مؤكدة - زوهر مين يعني! (زوهر أرغوب..)
أحس برغبة بأن يضع كفيه في عنقها ويخنقها، ولكنه ما لبث أن شعر بشفقة عليها، ما ذنب هذه المسكينة! وراح يلوم نفسه...يا إلهي كم نحن مقصرون بحق الأجيال الجديدة! ولكن هذه المرة شعر أن ابنته على حافة الضياع وقال- يا بنتي الله يرضى عليكِ ..هذه أغنية لعبد الحليم حافظ اسمها 'نبتدي منين الحكاية' وملحنها الموسيقار عبد الوهاب، ولا يمكن أن أخطئ فيها أبداً، حتى أن فيها رتماً هندياً..وراح يدندن باللحن ثم بالكلمات..
- يابا انت غلطان هذه أغنية عبرية (لزوهر أرغوب)..اسمها (عيناك العسليتان.....)..
فقاطعها بغضب - يلعن أبوكي على أبو زوهر...خلص...إفهمي...لا تسمّي بدني ...هذا لحن سرقه (زوهر أرغوب) من عبد الحليم..
وكما يعهدها ردت بعناد ـ ولماذا لا يكون عبد الحليم هو الذي سرق هذا اللحن من زوهر!
- يا بنتي الله يرضى عليكِ..معظم ألحان الأغاني العبرية الشرقية في الأسواق هي بالأصل ألحان عربية أو تركية..وهذا اللحن لعبد الوهاب يغنيه عبد الحليم..هل فهمت الآن!
- يابا ... إنت مـتأكد؟
- ولو...العمى..! إفتحي الإنترنت على عبد الحليم وستجدينها، إنها منذ الثمانينيات.. بل منذ السبعينيات لأن عبد الحليم توفي في الثلاثين من آذار عام سبعة وسبعين في الذكرى الأولى ليوم الأرض....
- يعني عبد الحليم غنى للأرض!
- عبد الحليم غنى للأرض والثورة والسد العالي والفدائيين ولفلسطين ولمصر وللعرب..وطبعا للحب....العندليب الأسمر...
- آه فهمت..
- شو فهمتي..؟
- هذه أغنية عبد الحليم حافظ عن يوم الأرض وزوهر أرغوب سرقها منه!
رد وهو يزفر بحرارة - صحيح...صحيح يابا..سرقوا الأرض والموسيقى...والدبكة والطعام....لم يبقوا لنا شيئاً! ثم أردف متمتماً كأنما يحدّث نفسه...حتى مصر سرقوها منا...
فتبعته ابنته - يابا..قل لي مصر معانا ولا معاهم؟
صدمه السؤال فتردد ثم قال وهو يتلعثم- مصر! شو هالسؤال...!! مصر أكيد معنا....طبعا معنا.....ولكن....
- ولكن شو...!
- ولكن..بعدين بحكي لك..'دي احنا قصة حبنا ليها أكثر من بداية'....