بقلم : نقولا ناصر* ... 18.01.2010
(**الإدارة الأميركية تصر على إطالة عمر حصار غزة والانقسام الفلسطيني، وكلاهما يهدد بنسف أي اتفاق قد تتوصل إليه أي مفاوضات إن استؤنفت)
أمام مبادرة أميركية دبلوماسية مكثفة وضاغطة لاستئناف المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية قد يبدو القول إن العقبة الرئيسية أمام الاستجابة العربية لهذه المبادرة هي عقبة أميركية قولا ينقضه ظاهر الواقع، لكن العامل الثاني الأهم الذي يحول دون استئناف هذه المحادثات -- بعد العامل الأول المتمثل بالشروط التي أعلنتها حكومة دولة الاحتلال التي يرأسها بنيامين نتنياهو لاستئنافها والتي قادت الرئاسة الفلسطينية إلى موقفها الحالي الرافض لاستئنافها -- هو الشروط الأميركية – الإسرائيلية التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية لإنهاء الانقسام الفلسطيني الراهن الذي لا يمكن لأي محادثات سلام ذات صدقية أن تنطلق دون إنهائه، بقدر ما يستحيل إنجاز المصالحة الفلسطينية طالما استمر الربط المجحف بين إنجازها وبين عملية التفاوض، كما أثبتت تجربة المفاوضات الفلسطينية مع حكومة إيهود أولمرت السابقة التي حاولت تحييد هذا العامل الثاني بعدوانها على قطاع غزة قبل سنة والذي فشل في تحييده.
ولا يفوت أي مراقب أن يلاحظ تصاعد التهديدات الإسرائيلية بعدوان جديد واسع آخر على قطاع غزة في تزامن مع انطلاق المبادرة الأميركية الجديدة لتحريك عملية التفاوض مجددا، وهي تهديدات تستمد جديتها من إعلان دولة الاحتلال عن استكمال بناء نظام "القبة الحديدية" لاعتراض صواريخ المقاومة خلال الشهور الستة المقبلة بعد إعلانها عن نجاح تجاربها على أنظمة اعتراض الصواريخ متوسطة المدى.
وإذا كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي بتواطؤ أميركي تسعى إلى إزالة عقبة الانقسام الفلسطيني بوسائل عسكرية، فإن هذه هي المعضلة التي تحاول الدبلوماسية العربية حلها بوسائل سياسية في محاولتها الاستجابة للمبادرة الأميركية قبل انعقاد مؤتمر القمة العربي المقبل، في سباق محموم مع أي حل عسكري إسرائيلي يدرك القادة العرب أن الصمود الفلسطيني سيفشله مرة أخرى، لكنهم يدركون أيضا أن أي عدوان إسرائيلي واسع جديد على قطاع غزة سوف يضعهم في موقف محرج قد يجعل من المستحيل عليهم الاستجابة للضغوط الأميركية عليهم للضغط بدورهم على طرفي الانقسام الفلسطيني لإنهائه، مما يعني وأد المبادرة الأميركية الجديدة في مهدها، غير أن الأهم من وجهة نظر شركاء السلام العرب هو أن أي عدوان كهذا سيؤجل استئناف أي محادثات فلسطينية – إسرائيلية يأملون في استئنافها إلى أجل غير مسمى في المدى المنظور، وهذا هو ما تسعى إليه دولة الاحتلال الإسرائيلي للتنصل من استحقاقات "عملية السلام"، كما يقولون.
وهذه هو ما يفسر رفع الاهتمام العربي بالمصالحة الفلسطينية إلى مستوى القادة، ويفسر القمم العربية المصغرة التي انعقدت مؤخرا، والزيارات المحمومة للعواصم العربية والعاصمة الأميركية التي قام بها وزراء خارجية عرب، والجولات العربية التي قامت بها وفود طرفي الانقسام الفلسطيني، كما يفسر التشدد المصري مع حركة حماس في قطاع غزة حد المخاطرة بالظهور كمن يشارك في حصار القطاع ببناء الجدران الفولاذية تحت الأرض وفوقها وفي البر وفي البحر مما رفع وتيرة التوتر بين الجانبين وهدد بانفجار أزمة يبدي الطرفان حاليا كل الحرص على احتوائها، مما يعطي خطأ لهذه الحركة العربية الدبلوماسية المكثفة عنوان المصالحة الفلسطينية بينما العنوان الحقيقي لها هو إزالة عقبة الانقسام الفلسطيني من طريق الاستجابة العربية للمبادرة الأميركية الضاغطة من أجل تجنيد شبكة إسناد عربية لتراجع الرئاسة الفلسطينية عن شروطها المعلنة لاستئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية "دون شروط".
بصراحته ووضوحه المعهودين لم يترك رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جابر آل ثاني أي مجال للشك في الارتباط الوثيق بين إنجاز المصالحة الفلسطينية وبين "عملية السلام" الفلسطينية – الإسرائيلية عندما قال بعد محادثاته مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في واشنطن مؤخرا إن "الأمر الأهم هو كيف يمكن خلق حكومة وحدة بين الفلسطينيين بحيث يمكنهم التركيز على كيفية التعامل مع عملية السلام".
وهذا الارتباط الوثيق المجحف بين المصالحة الفلسطينية وبين استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية هو على الأرجح السبب الرئيسي في رفع الاهتمام بالمصالحة الفلسطينية إلى مستوى القادة العرب عشية انطلاق الحملة الدبلوماسية الأميركية لتحريك هذه المفاوضات بإرسال مستشار الأمن القومي جيمس جونز والمبعوث الرئاسي للسلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل إلى المنطقة لهذا الغرض، فهؤلاء القادة يواجهون استحقاق الرد على المبادرة الأميركية في مؤتمر قمتهم في ليبيا في شهر آذار / مارس المقبل، وهم يدركون تماما أن استمرار الانقسام الفلسطيني يمثل عقبة رئيسية أمام توافقهم على رد موحد، ويدركون كذلك أنه حتى لو استجابت إدارة باراك أوباما إلى طلب رسالة الضمانات الذي تقدمت به قطر باسم جامعة الدول العربية بصفتها الرئيس الدوري للقمة العربية فإن أي "رسالة ضمانات" أميركية إن كانت كافية لكي تتراجع الرئاسة الفلسطينية عن شرطها المعلن لاستئناف المفاوضات المتمثل بتجميد كامل للاستيطان الإسرائيلي "لفترة مؤقتة"، كما قال الرئيس محمود عباس يوم الثلاثاء الماضي، فإنها لن تكون كافية دون إنجاز المصالحة الفلسطينية لإسقاط الاتهام الإسرائيلي لعباس بأنه غير مؤهل للوفاء بأي اتفاق تتمخض المفاوضات عنه طالما استمر الانقسام الفلسطيني الراهن.
ولم يكن المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية السفير حسام زكي مقنعا عندما نفى أن تكون المصالحة الفلسطينية شرطا لاستئناف المفاوضات الفلسطينية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي (الشرق الأوسط في 15/1/2010)، لا بل إنه أكد الارتباط الوثيق بين الأمرين عندما قال إن "المفاوض الفلسطيني هو الممثل في منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها محمود عباس (أبو مازن)"، فهذه الحقيقة وحدها تؤكد الارتباط ولا تنفيه كون هذا المفاوض طرف أساسي في الانقسام وبالتالي في المصالحة وهو طرف مثقل ومقيد بالشروط الإسرائيلية – الأميركية التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية والتي ما زالت تمثل العقبة الرئيسية أمام إنجاز المصالحة الفلسطينية منذ انطلق الحوار الفلسطيني لإنجازها في القاهرة قبل خمس سنوات، كما أكد زكي الارتباط بين الأمرين عندما أوضح بأن "عملية المصالحة مرتبطة بعملية السلام على أساس أنها تعزز الموقف الفلسطيني الداخلي" وبالتالي تعزز صدقية المفاوض الفلسطيني كممثل لشعبه، كل شعبه، في المفاوضات وتنفي عنه التهمة الإسرائيلية المتكررة بأن الانقسام الفلسطيني الراهن لا يجعله مؤهلا للوفاء بأي اتفاق تتمخض المفاوضات عنه. وكان زكي في تصريح سابق أكثر وضوحا في الربط بين المصالحة الفلسطينية وبين استئناف المفاوضات عندما قال إن إنجاز المصالحة الفلسطينية وصفقة تبادل الأسرى بين حماس وبين دولة الاحتلال يمكن أن يقود إلى رفع الحصار عن قطاع غزة وفتح حدوده مع مصر.
إن ميتشل الذي يسعى إلى تنفيذ "مبادرة السلام العربية" يدرك هو وإدارة أوباما قبل غيرهم أن حل الصراع العربي – الإسرائيلي في فلسطين هو حجر الزاوية لأي ترتيبات سلام عربية – إسرائيلية، وأن نجاح أو فشل مسعاه يعتمد في نهاية المطاف على الوحدة الوطنية الفلسطينية كضمانة أساسية لأي تسوية سياسية قد يتوصل إليها، لذلك فإن تعويم المفاوض الفلسطيني سياسيا واقتصاديا وأمنيا بالدعم الخارجي في معزل عن التوافق الوطني الفلسطيني ليس ضمانة كافية لنجاح مساعيه.
والدعم الأميركي الأكبر الذي يمكن تقديمه للرئاسة الفلسطينية والذي يعتبر مقدمة لا غنى عنها لاستئناف أي محادثات للسلام هو تعزيز صدقيتها الوطنية أولا برفع الحصار عن قطاع غزة، وثانيا بمنع أي "حل عسكري" إسرائيلي في القطاع، وثالثا بتقديم ضمانات أميركية ومن المجتمع الدولي بأن "شريك السلام" الفلسطيني لن ينقلب على نتائج أي انتخابات فلسطينية جديدة كما انقلب على نتائج انتخابات عام 2006 بتحريض وتهديد ودعم منهم، وذلك قبل أي استئناف للمفاوضات، ثم رابعا برفع "فيتو" الشروط الأميركية – الإسرائيلية عن المصالحة الوطنية الفلسطينية، في الأقل عملا بتوصيات المجموعة المحايدة التي تمثل الحزبين الجمهوري والديموقراطي والتي ضمت مستشار أوباما الاقتصادي بول إيه. فولكر ومستشاري الأمن القومي السابقين برنت سكاوكروفت وزبينيو بريزنسكي ومبعوث اللجنة الرباعية الدولية السابق جيمس وولفنسون، وهي المجموعة التي أوصت أوباما بتسهيل المصالحة الفلسطينية واحترام نتائج الانتخابات الفلسطينية وعدم تجاهل "حماس" كقوة فلسطينية منتخبة وفك الحصار عن القطاع.
لقد طغى التركيز على تراجع الرئيس الأميركي عن مطالبته في بداية عهده بتجميد الاستيطان الاستعماري اليهودي في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن كشرط لاستئناف أي محادثات فلسطينية – إسرائيلية على تراجع أوباما عن وعوده للفلسطينيين الخاصة بقطاع غزة، عندما قال إن "الأزمة الإنسانية المستمرة" في القطاع واستمرار إغلاق معابره وعدم تمكين الفلسطينيين هناك من العيش بكرامة وفقدانهم "الأمل" يتعارض مع متطلبات إسرائيل الأمنية ولا يسمح بتقدم أي مسار بناء للسلام مضيفا أنه "يجب على إسرائيل أن تتخذ خطوات ملموسة تجعل هذا التقدم ممكنا"، لكن أوباما بعد سنة من هذه الوعود يبتز مصر بالمعونات الأميركية لها لكي تضيف بعدا عربيا إلى الحصار الإسرائيلي، ويضغط الآن على شركاء السلام العرب لكي يضغطوا على الرئاسة الفلسطينية كي تستأنف التفاوض مع دولة الاحتلال على أرضية إحكام حصار غزة وتعميق الانقسام الفلسطيني، مما يعني فقط إصرارا أميركيا على إطالة عمر الحصار والانقسام معا، وكلاهما يهدد بنسف أي اتفاق قد تتوصل إليه أي مفاوضات إن استؤنفت، وليس لهذه الإصرار إلا واحدا من تفسيرين: إما أن الإدارة الأميركية ليست جادة حقا في التوصل إلى أي اتفاق وأنها تواصل "إدارة الصراع" العربي – الإسرائيلي فحسب كما فعلت طوال أكثر من ستين عاما مضت، وإما ضوءا أخضر أميركيا لعدوان إسرائيلي جديد واسع على قطاع غزة، مما يؤكد بأن العقبة أمام استئناف أي "عملية سلام" لها صدقية ما زالت عقبة أميركية.