بقلم : نقولا ناصر* ... 22.01.2010
تفرض الكارثة الطبيعية للزلزال الذي ضرب دولة هاييتي في البحر الكاريبي في الثاني عشر من هذا الشهر مقارنة لا مهرب منها مع كارثة إنسانية من صنع البشر يعيشها قطاع غزة الفلسطيني منذ سنوات، وهي مقارنة تسلط أضواء ساطعة على ازدواجية المعايير في المواقف السياسية والإنسانية للدول الكبرى التي تصنع القرار الدولي اليوم، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية.
وليس مبعث الاهتمام الفلسطيني بخاصة بمقارنة كهذه -- كما ظهر في مبادرة اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار في القطاع إلى إطلاق حملة لجمع التبرعات لمساعدة منكوبي زلزال هاييتي يوم الاثنين الماضي -- هو وجود جالية فلسطينية صغيرة في هاييتي لا تتوفر أي معلومات توثيقية عنها غير كونها جزءا من جالية عربية يقدر تعدادها بخمسة وأربعين ألفا نظرا لعدم وجود أي تمثيل دبلوماسي فلسطيني في هاييتي، بقدر ما هو مبعثها المفارقات الإنسانية والسياسية الكامنة في مقارنة كهذه.
وأول هذه المفارقات فلسطينية، فالانقسام الفلسطيني غلب العصبية السياسية لتطغى على قرار حكومة مفاوض منظمة التحرير في رام الله بحيث أعمى بصيرتها عن حقيقة أن الوضع الإنساني الكارثي في القطاع أكبر من أي خلاف سياسي وأكبر من أي "عملية سياسية" ما زالت شروطها الأميركية – الإسرائيلية تمنع هذه الحكومة وقيادتها من التعامل مع رفع الحصار عن القطاع كأولية تستحق أن تكون الشرط المسبق الأول لاستئناف أي عملية تفاوض سياسي. وتتضح هذه المفارقة في مبادرة حكومة رام الله إلى تأليف "لجنة خاصة" لجمع وتوزيع المساعدات لضحايا الزلزال في هاييتي بينما لم يشهد القطاع أي مبادرة "دائمة" مماثلة من هذه الحكومة حتى بعد الزلزال العسكري الذي ضرب القطاع بعدوان دولة الاحتلال الإسرائيلي عليه قبل عام والذي ما زال ضحاياه بعد مضي أكثر من سنة ينتظرون ولو قطرة من غيث التضامن الإنساني الدولي الذي انهال على هاييتي.
وثاني هذه المفارقات عربية، فالمساهمة العربية في غيث التضامن الدولي مع هاييتي تجاوزت خلال أيام أعقبت الزلزال الملياري دولار أميركي، بينما ما زال القطاع المحاصر ينتظر في الأقل فرق إنقاذ متخصصة وفريقا طبيا عربيا موحدا كالفرق التي سارعت جامعة الدول العربية إلى إرسالها إلى هاييتي، في الوقت نفسه الذي حذرت الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المتشاركة معها قبل أيام من الخطر الذي يمثله الحصار المتواصل على صحة مليون وأربعمائة ألف فلسطيني في القطاع، وبينما المليارات العربية والدولية التي تعهد المانحون بها العام المنصرم لإعادة إعمار القطاع بعد الزلزال الإسرائيلي الذي ضربه ما زالت رهينة العجز العربي عن إدخال ولو جزء يسير منها، وهو عجز يفسره كثيرون بالتواطؤ السياسي الذي يغمض الأعين عن سابق قصد وتصميم عن الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع.
أما عن المفارقات الدولية في المقارنة بين كارثة طبيعية في هاييتي وبين كارثة من صنع البشر في غزة فحدث ولا حرج، وليس أولها طبعا أن الأسباب التي تتخذ ذريعة للتدخل العسكري والسياسي الدولي في هاييتي اليوم هي أسباب إنسانية، بينما يحرص المجتمع الدولي نفسه على تغييب كل ما هو إنساني لتسويغ استمرار الحصار العسكري والسياسي والاقتصادي المفروض على القطاع، وبينما تتوفر في القطاع المحاصر كل "الأسباب الإنسانية" لتدخل عسكري وسياسي دولي ملح وعاجل مماثل لما يجري حاليا في هاييتي ضد من يفرض الحصار وهو السبب الأول والأخير في الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع، ليس منذ تولت "حماس" المسؤولية عنه، بل منذ الاحتلال عام 1967، إذ متى لم يكن القطاع محاصرا؟!
وثاني المفارقات الدولية أن الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا التي أطاحت بالحكومة "المنتخبة" في هاييتي في شهر شباط / فبراير عام 2004 -- مما قاد إلى وضعها تحت وصاية اسمية لقوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة ومنع بناء دولة فيها واكتفى ببناء حكومة بلا دولة على نمط الحكومات بلا دول التي يحاول الاحتلال الأميركي إقامتها في العراق وأفغانستان والصومال وغيرها، والتي يفتقدها اليوم ضحايا الزلزال بعد أن اجتاح هذا الزلزال هياكلها الكرتونية، ومما يقود اليوم إلى احتلال عسكري لهاييتي يملك كل مقومات الاحتلال إلا الاسم (عشرة آلاف جندي أميركي وألف جندي كندي)، وربما لهذا السبب على وجه التحديد تمت الإطاحة بحكومة هاييتي المنتخبة -- هي نفسها دول "المجتمع الدولي" الذي أطاح بالحكومة الفلسطينية "المنتخبة" عام 2006.
وثالث المفارقات الدولية أن كندا التي سوف تستضيف مؤتمر مانحين دوليا لهاييتي هذا الأسبوع، لم يتقرر موعده النهائي بعد، قد اتخذت قرارا متزامنا تقريبا مع استضافتها لمؤتمر كهذا بوقف دعمها المالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، بحجة أن أموال الدعم هذه تتسرب إلى فصائل المقاومة التي تصنفها الحكومة الكندية "إرهابية"، وتحويله إلى "دعم غذائي"، وهو قرار رحبت به المنظمات الصهيونية واليهودية الكندية والأميركية بخاصة، ووصفته المعارضة الكندية بأنه خطوة أولى نحو تخلي كندا عن دورها التاريخي في تحمل مسؤولياتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين تمهيدا لتصفية الأونروا وتحويل صلاحياتها إلى المندوب السامي للاجئين التابع للأمم المتحدة كما تطالب دولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن أهدافها لتصفية القضية الوطنية الفلسطينية برمتها، علما بان حوالي ثلثي قطاع غزة هم من اللاجئين الذين في أمس الحاجة إلى خدمات الأونروا.
ومن الواضح أن نكبة هاييتي كانت فرصة علاقات عامة إعلامية ذهبية للاحتلالين الإسرائيلي والأميركي لتحويل الأنظار بعيدا عن الكوارث الإنسانية التي يتحملان مسؤوليتها في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان. ولأنها أصبحت قاعدة أنه حيثما ذهب الجنود الأميركان فإن تابعيهم الإسرائيليين سيكونون في أعقابهم بالتأكيد، لم يكن مستغربا أن يحتمي الميجر الإسرائيلي زوهار موشى قائد فريق الإنقاذ الإسرائيلي في هاييتي بالمارينز الأميركيين في مطار بورت أوبرنس ليتخذ من ملعب كرة قدم مجاور قاعدة لفريقه المكون من 250 عضوا، ليحقق خلال اقل من أسبوع دعاية تحسن صورة دولة الاحتلال عجز خبراء دعايتها عن تحقيقها طوال سنوات، كما كتب أحدهم في "فوروورد" اليهودية الأربعاء الماضي، لكن هذا "الإنجاز الإعلامي" يؤكد فقط المفارقة بينه وبين مسؤولية دولة الاحتلال عن "معاناة الناس المستمرة في غزة" كما كتب أكيفا إيلدار في هآرتس الإثنين الماضي.