أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
صــهـر الــوعـي أو في إعادة تعريف التعذيب!!..[الجزء الثالث]

بقلم : وليد دقه* ... 10.12.2009

**الإجراءات بعد الإضراب..الوفرة المادية كأداة تعذيب:
لقد تم فردنة الأسرى وخصخصة نضالهم الجماعي، كما خصخصت إسرائيل عبر إجراءاتها في الأراضي المحتلة المشروع الوطني الفلسطيني. ففيما الأقسام الخاصة بأسرى نابلس مثلاً أصبحت تطالب بزيادة عدد الزائرين وزمن الزيارة. فإن نضال أهالي نابلس تحول أيضًا مطلبيًا خاصًا بظروف حياتهم كفتح الحواجز أو غيرها من المطالب. إن معاناة الفلسطيني، كما هي معاناة الأسير الفلسطيني، قد قُسمت لمشاهد يرى منها الفرد وينشغل بها، مواطنًا أو أسيرا، بمقاطع خاصة بمنطقته الجغرافية. ولا يتاح له رؤية أو الإنشغال بمجمل المشهد إن كان ذلك عبر الإجراءات المباشرة التي تستهدف تقسيم مجال الرؤيا كالجدار والحواجز. أو عبر السيطرة على زمن الناس ليقعوا تحت وطأة الأعباء اليومية والقهر الدائم الذي يمارسه عليهم الإحتلال.
ولتحقيق المراقبة والسيطرة على الأسرى بشكل شامل بعد الإضراب عن الطعام في إطار تطبيق خطة صهر الوعي قامت إدارة السجون الإسرائيلية باستخدام نموذج التجهيز المكشافي-البانوبيتي عبر مجموعة من الإجراءات، مستغلة حالة التذمر والإحباط الشديد من الإضراب ونتائجه بهدف تكريسها وتوسيعها وتعميق خيبة الأمل التي سادت أوساط الأسرى. لكن الأهم هو استثمار حالة الإحباط الشديد من القيادة وانهيار البنى التنظيمية الوطنية والفصائلية الخاصة، وتوظيف ما أصاب فكرة التحرك والنضال الجماعي من زعزعة واهتزاز قويين في الإجهاز على القيم الوطنية الجامعة.
**وقد كان من أبرز هذه الإجراءات التي اتخذت عقب الإضراب هي:
1. فصل أو تعميق الفصل بين الأقسام داخل السجن الواحد وعزلها عن بعضها البعض وفقًا لتقسيمات واعتبارات جغرافية. بعد أن تم تقسيم السجون إلى مجموعات وفقًا لمناطق جغرافية أكبر. هكذا مثلاً أصبح سجن "الجلبوع" سجنًا يضم أسرى شمال الضفة من نابلس حتى جنين، هذا بالإضافة إلى قسمين يحتجز بهما الأسرى من حملة بطاقة الهوية الإسرائيلية، قسم غالبيته من القدس وآخر من فلسطينيي الـ48. ويقدم هذا التقسيم دومًا على أنه خدمة للأسرى، واستجابة لمطالب لجان حقوق الإنسان التي تطالب إدارة السجون بأن يحتجز الأسرى في سجون قريبة لأماكن سكن أسرهم وذلك للتخفيف عليها في الوصول للزيارة. وهذا الإدعاء الذي يبدو منسجمًا مع مطلب الأسرى وحاجاتهم يخفي الهدف الحقيقي، فالأسرى ليسوا موزعين عشوائيًا على أقسام السجن، وإنما هم مقسمون على معازل وأقسام جغرافية أصغر داخل السجن الواحد. مثلاً قسم خاص بأسرى مدينة جنين لا يقطنه أسرى من مخيم جنين فلهؤلاء قسمهم. وقسم آخر لقباطيا وقراها وآخر لطولكرم وقسم لقلقيلية وقراها.. وهكذا تتطابق هذه التقسيمات والمعازل داخل السجن الواحد مع المعازل التي أقامتها إسرائيل في الأراضي المحتلة بحيث يصبح التقسيم الجغرافي إلى انتماء جغرافي يستبدل الإنتماء الوطني، مما يجعل عملية السيطرة أسهل وأكثر شمولاً، هذا بعد العمل من خلال ضباط الإستخبارات على خلق التناقضات وتأجيج الخلافات الوهمية بين هذه "الإنتماءات" البلدية والجغرافية.
2. تم إلغاء العمل بلجنة الحوار.. أو لجنة ممثلي الأسرى. فقد كان لكل سجن لجنة تمثل كل الأسرى المتواجدين في السجن وتتألف من مندوبي الفصائل المنتخبين، ومهمتها الإجتماع مع المسؤولين في السجن أو ضباط إدارة السجون لطرح قضايا ومطالب الأسرى المشتركة. وقد تحقق العمل بهذا الفهم وثبت بعد نضالات وتضحيات قدمتها الحركة الوطنية الأسيرة، واستبدلت هذه الآلية من العمل بفرز ناطق باسم كل قسم، وهو عمليًا ناطق باسم منطقة حيث يمثل قسما لمنطقة جغرافية. ويُحدد هذا المندوب من قبل إدارة السجن وبموافقتها بعد أن يسمي الأسرى إسمين أو ثلاث لتصادق إدارة السجن على واحد منهم. ويتم الإجتماع بمندوبي الأقسام ليس جماعيًا وإنما كل مندوب على انفراد. ويحق للمندوق طرح قضايا قسمة – منطقته فقط. وهي في الغالب مطالب فردية وفي نفس الآن يقوم هذا المندوب بنقل تحذيرات وتوجيهات وضوابط إدارة السجن للأسرى. وبهذا فرغت إدارة السجون التمثيل الإعتقالي للأسرى من محتواه الوطني الحقيقي. بحيث أصبح أقرب إلى "الكابو"[24] منه لممثل أسرى. وهذا الحال بعكس لجنة الحوار التي كانت مهتها تقديم مطالب جماعية لأسرى، بل وتقديم مطاب عامة تخص كل الحركة الأسيرة في كافة المواقع.
3. إنزال العقوبات الشديدة، فردية أو جماعية، بحق الأسرى في حال اتخذوا خطوات نضالية حتى وإن كانت رمزية وبسيطة، كأن يعيدوا وجبة طعام احتجاجًا على أمر ما يبدو حتى في نظر السجان بأن الأسرى محقّون بشأنه حتى لا تعود الثقة لفكرة النضال الجماعي، أو يحتل مبدأ التضامن مكانته كما كان قبل الإضراب عن الطعام.
4. منع أي مظهر جماعي مثلاً التعزية في حالة الوفاة.. استقبال أسير جديد.. أو توديع أسير في حالة الإفراج، ورغم استمرار إدارة السجون السماح للأسرى بتأدية صلاة الجمعة كجزء من الشعائر الدينية وكمظهر جماعي، إلا أنها لا تسمح بأن تتعدى الخطبة الحلال والحرام. إما أن تتناول الخطبة شأنا عاما حتى وإن كان المطروح معتدلاً، كأن تتناول الأوضاع الفلسطينية أو ذكر فلسطين، فهذا إبداء رأي وحرية الرأي ممنوعة.
5. إنزال العقوبات الشديدة بحق أسرى ضبطت بحوزتهم صور لقادة فلسطينيين أو شهداء، وصلت هذه العقوبات إلى الزنازين والحرمان من الزيارات وغرامات مالية، وفي غالب الأحيان تكون الصور مأخوذة عن صحيفة عبرية وقد تكون صورة الشهيد بحوزة صديقة أو قريبة أو حتى شقيقة. ومن الجدير ذكره بأن هذه الصور ليست معلقة في غرف الأسرى أو معروضة للمشاهدة وإنما مطوية ومخفية في ألبوم الصور الخاص بالأسير، الأمر الذي يؤكد بأن ملاحقتها ليس نابعًا من ملاحقة إبداء الرأي أو منعًا للتحريض فقط، وإنما ملاحقة الإعتقاد والتفكير. فملاحقة صورة قائد مثل صورة أبو عمار مطوية في ألبوم له علاقة بما يحسّ به الأسير أو يعتقده بشأن ما يمثله هذا القائد من انتماء لفكرة نضالية أو شعب أو قيم وطنية ما.
6. لقد راكمت الحركة الوطنية الأسيرة على مدار عقود من الإعتقال تقاليد تنظيمية تستند إليها في حال التعارضات الداخلية، وقيادتها للعمل الوطني في مواجهة إدارة السجون وسياساتها، كما راكمت تقاليد تعتمد القيادة الجماعية وعززت مبدأ الترشيح والإنتخابات داخل كل فصيل، وسعت دومًا لتعزيز الروح الديمقراطية وقد تبلورت هذه التوجهات بلوائح عامة تنظيم علاقات الفصائل ولوائح خاصة لكل فصيل تستند إلى مبادئ تدوير القيادة وتجديدها وتقديم التقارير الدورية لضمان الشفافية أمام القاعدة. ولمواجهة هذا الواقع الذي قد يفرز آليات تعيد ترميم ما أصاب فكرة النضال المشترك في الأسر، عمدت إدارة السجون بعد الإضراب إلى إجراء تنقلات وترحيلات مكثفة للكادر التنظيمي والوطني، لإرباك العملية الديمقراطية والحيلولة دون مراكمتها كتجربة أو نقلها للأسرى الجدد، وقد أبقت الأطر واللجان بعد أن فرغتها من محتواها وحولتها إلى عبء.
7. عمقت إدارة السجون نظام الصلة الفردي مع الأسرى عبر تقديم الطلبات الخاصة، ولم تعد طلبات الأسرى تقدم وتنجز جماعيًا إلا فيما ندر وفي قضايا شكلية ليست ذات قيمة، الأمر الذي جعل الكثير من الحلول فردية وخاصة بالشخص والحالة نفسها، ما خلق تفاوتا بين الأسرى من حيث شروط حياتهم والتعامل معهم من قبل إدارة السجن، ومنحها أداة ضغط وسيطرة إضافية تستخدمها في التلاعب على التناقضات الوهمية وخلقها بين أفراد وجماعات من مناطق مختلفة. وفي نفس الآن تستخدم العقوبات الجماعية في حال المخالفات الفردية. وهدف هذا التعميم هو تحويل ضغط الأسرى وضبطهم باتجاه الحالة -الشخص المخالف. الأمر الذي يحولهم إلى أداة ترويض لرفاقهم الأسرى وإلى حاملي السلطة بدل السجان.
إن مجمل هذه الإجراءات هدفها تحويل الأسير الفلسطيني من ذات فاعلة لها شخصيتها وقناعاتها، إلى موضوع سلبي ومتلق يعتمد بالأساس على حاجات مادية يتلقاها وفقًا لإرادة السجان، وتتحول بالتدريج إلى جوهر حياته واهتمامه اليومي خصوصًا عندما يعيب أي انشغال أو اهتمام آخر في واقع مغلق كالسجن. هذا بالإضافة إلى أن إدارة السجون تمنح الأسرى تسهيلات بل وتخلق الضرورات لاقتنائهم المواد الغذائية على نطاق أوسع بكثير مما يمنح للسجين الإسرائيلي الذي في الغالب توفر له شروط حياة تفوق شروط حياة الأسير الفلسطيني إلا في الطعام[25]. وكأن حال إدارة السجون يقول للأسرى الفلسطينيين كلوا واشربوا وانشغلوا بمثل هذه الإحتياجات، المهم أن لا يتحول الأسير إلى ذات يدرك واقعه ونفسه ويفكر بمصيره أو مصير رفاقه.
يحدد ميشيل فوكو، بأن الزنزانة في نظام السيطرة والمراقبة لا تحتفظ إلا بوظيفتها الأولى وهي الحبس، وتلغي وظائفها الأخرى وهي الحرمان من الضوء والإخفاء. فالضوء القوي والرؤية الدائمة يصفهم على أنهم شرك[26] والضوء هنا يمثل بالنسبة لنا في السجون الإسرائيلية هي الحياة المادية المعقولة نسبيًا التي تحولت إلى شرك، وهذا الشرك بالذات هو ما يجب تحليله وكشف آليات عمله. حيث تحولت البحبوحة المادية إلى أداة تعذيب من جهة، ومن جهة أخرى تقدمها إسرائيل على أنها استجابة لخطاب حقوق الإنسان، لتعرض احتلالها أمام الرأي العام على أنه احتلال نير.
إن الأسرى الفلسطينيون باعتقادنا، هم الأسرى الوحيدون في تاريخ حركات التحرر الذين يتلقون مخصصات شهرية تغطي مصاريفهم داخل السجن بانتظام ودون انقطاع تقريبًا[27] ويتلقون معاشات شهرية كأي موظف في السلطة الفلسطينية[28]. فنحن كما يبدو الأسرى الوحيدون من بين كل أسرى حركات التحرر الوطني الذين أصبح لنا وزارة في حكومة ليس لها دولة.
إن ما يثير الريبة من هذه الأموال المصروفة للأسرى هو أن إسرائيل التي تحرص دومًا على ملاحقة الأموال والأرصدة بحجة ملاحقة "الأموال الداعمة للإرهاب" فإنها في حالة الميزانية الضخمة المصروفة على الأسرى، لا نجدها تبدي نفس الملاحقة أو تبدي معارضة جدية، الأمر الذي يدعو لتساؤل حول دور هذه الأموال والهدف الحقيقي من تقديمها وتأثيرها وتداعياتها على الأسرى ودورهم النضالي.
إن المبالغ التي تصرف على الأسرى المتواجدين حاليًا في السجون (فهناك صرف خاص بالأسرى المحررين) يصل ما بين صرف كانتين ومعاش شهري إلى ما يقارب عشرة ملايين دولار شهريًا. وهذه مبالغ كبيرة في المقاييس الفلسطينية.
إن الخلل ليس في أن يصرف لأسر وعوائل الأسرى، وأن تؤمن لهم حياة كريمة، بل وليس هناك أي خطأ في أن يوفر للأسرى بعض الإمكانيات المادية، لكن عندما يصرف نصف هذا المبلغ على الأسرى مباشرة داخل السجون، فإننا بذلك نموّل احتجازهم، بل ونجعل هذا الإحتجاز مربحًا لاسرائيل. فشركاتها هي التي توفـّر المواد الغذائية ومواد التنظيف للأسرى في إطار اتفاقية وقعت مع وزارة شؤون الأسرى الفلسطينية. لا يوجد هناك مادة يستهلكها الأسرى إلا ويشترونها على حسابهم. فإدارة السجون توفر كميات رمزية من هذه المواد، بينما أصبح احتجاز الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية على حساب السلطة الفلسطينية، التي تتلقى لهذا الغرض ميزانيات خاصة من الإتحاد الأوروبي والدول المانحة [29]
لقد أعفيت إسرائيل من الأعباء المالية لاحتجازها واحتلالها للفلسطينيين، بل ومن نتائج سياساتها ضد الأسرى، فالسلطة الفلسطينية بالإضافة لتغطيتها الغرامات المالية المفروضة بحق الأسرى[30] فإنها تغطي احتياجات الأسرى من سكان قطاع غزة بصرف خاص في ظل منع أسرهم من زيارتهم. هذا بدل أن تـُحمل اسرائيل تبعات هذه السياسة وأن تلاحقها في المحافل الدولية وأن تحملها مسؤولية هذا الخرق القانوني (الإجراءات بمنع زيارات أهالي غزة سبقت خطف الجندي شليط) المتمثل في احتجازها أسرى من أراض محتلة ونقلهم إلى داخل أراضيها من وجهة نظر القانون الدولي.
إن ما هو حاصل في الواقع هو العكس تمامًا حيث مكن إسرائيل من أن تحتجز أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين بأقل ما يمكن من تكلفة سياسية ومالية وأن تستخدم الوفرة المادية للأسير، والمقدمة أصلاً من الإتحاد الأوروبي، كواجهة تعرضها كدولة تمارس احتلال حضاريًا. هذا بالإضافة إلى أن هذا الحال ميع إمكانية حدوث انتفاضة أو صدام جدي بين الأسرى والسجان، لا سيما وأن الوفرة المادية والبحبوحة النسبية "تطفئ" أسباب المواجهة المباشرة وتميعها.
لقد تحول الأسير الفلسطيني الذي كان لا مصلحة له سوى النضال وتحرير الوطن إلى عضو في قطاع كأي قطاع في السلطة الفلسطينية، كقطاع الموظفين مثلاً، له مصالح مالية ومطلبية، وبمثل هذا المناخ ولجانب مجموعة من العوامل الأخرى ذات التأثير. بالإضافة إلى سياسة التفريغ الممنهجة تتطور ديناميكيات ويتشكل مناخ نفسي وتربوي يقود الأسير إلى الإنتقال بسهولة من النضال التحرري الوطني إلى النضال المطلبي، لكن نضاله في هذه الحالة لن يكون موجهًا بالضرورة ضد سلطة الإحتلال وإدارة سجونها، وإنما ضد السلطة الفلسطينية كـ"مشغل" له!! إننا وبكلمات أخرى، نمول وبإرادتنا مشروعًا إسرائيليًا لإخراج الأسرى، نواة النضال الصلبة، من دائرة الإنشغال بالهم الوطني والنضال التحرري إلى دائرة الغرق بالهمّ المطلبي الخاص. الأمر الذي ينسجم مع الهدف والخطة الإسرائيلية العامة، لا سيما الإجهاز على القيم الجامعة لهذا القطاع والتي تمثل أساس مقولة الشعب.
كما أن الواقع المادي الذي يعيشه الأسرى يخلق حالة من التشوّه الإجتماعي والنفسي للأسير. حيث تعيش قطاعات من الأسرى واقعًا ماديًا أفضل بكثير مما تعيشه أسر كثيرة في الأراضي المحتلة، وعلى كل حال فإن الأسرى يعيشون مستوى من الحياة المادية تفوق قطعًا ما يعيشه الأهل في قطاع غزة في ظل الحصار. الأمر الذي يخلق توترًا نفسيًا جراء التناقض بين ما يعيشه الأسير من واقع، وبين ما يدركه حول واقع شعبه وما كونه من وعي لذاته بشأن دوره تجاه هذا الشعب الذي يناضل من أجل تحرره. ويصبح هذا التشوّه أكثر عمقًا وشمولاً عندما يتفاعل في ظل مناخات تسود بها ثقافة إنسانية تتحدث عن نسبية الحقائق القيمية والأخلاقية. ويرتبك الإنسان العادي والمتوسط منهم، فلا يعد مفهومًا وواضحًا له أين يبدأ أو أيبن ينتهي السجن أو الحرية في الخارج حيث الكنتونات والمعازل.. أم هنا داخل المعتقلات الإسرائيلية.
وعندما يرافق هذا الواقع خطة وسياسة موجهة لتفريغ وفردنة الأسرى، وتحطيم كل ما من شأنه أن يحولهم إلى جماعة، عبر مواجهة التفكير أو مجرد الإعتقاد بفكرة العمل والنضال.. أو الهوية المشتركة من خلال إنزال العقوبات الصارمة جدًا بحق الأسرى. فإن إمكانية استثمار هذه البحبوحة المادية لرفع مستوى الأداء الوطني والإرتقاء بالوعي والإنتماء تصبح إمكانية ضئيلة وصعبة. فهي لم تـُوفر كما وضحنا، ببراءة ولوجه الله.
إن الخشية من فقدان الوفرة في ظل الحرمان من الحياة والحرية حولتها، أي الوفرة، إلى جهاز داعم للسلطة وصانع لها تلقائيًا، بمعزل عن شخوص ممارسيها من شرطة السجون. حيث حولت الأسرى أنفسهم لحاملي السلطة التي يمارسونها على أنفسهم لئلا يفقدوا وفرتهم المادية. بل ومع مرور الوقت يتحول إلى عجز مكتسب لدى الأسرى حتى في ظل غياب التهديد الفعلي بمصادرة مكتسباتهم المادية.
وفي واقع مغلق كالسجون سرعان ما يعمم هذا العجز على الأسرى حديثي التجربة ليغدو عجزًا متوارثًا، الأمر الذي يضمن استمرارية السلطة عمليًا حتى في ظل غيابها فعليًا.
لقد اكتفت إدارة السجون بإضعاف البنى التنظيمية للأسرى وأفرغتها من محتواها عبر استخدامها الوفرة وشروط الحياة المعقولة التي حولتها لأداة ذاتية الضبط الداخلي لهم. فهي وإن أتاحت شكلاً معينًا من الحياة المنظمة إلا أن هذا "الكرم" الإسرائيلي يبدو شركـًا. حيث هي شعرة التي تفصل بين الحياة المنظمة والإنضباط وبين الخنوع والإمتثال. وهذا الشرك شأنه شأن أي "ضوء" – وفرة أخرى تقدمها ما دام توفيرها يوفر لها "إخفاء" أكثر من أي "ظل" – حرمان، خصوصًا وأن الإخفاء في الظل سيكون من السهل التحريض عليه والعمل ضده أمام لجان حقوق الإنسان والرأي العام.
إن حالة العجز التي يعيشها الأسرى في قدرتهم على تشخيص واقعهم تجلت بصورة فجة في السنوات الأخيرة وفي الحالات القليلة والموسمية النادرة التي أقدموا بها على التحرك والنضال الجماعي. حيث لجأوا لذات الوسائل ولذات الحلول التي لجأوا إليها في الماضي مشتقين وسائلهم من قراءات لواقع متخيل لم يعد قائمًا، واقع استهداف الجسد بالهراوة والتعذيب المباشر.
إن الشعور بالمعاناة حقيقي، لكن تشخيص ما يراه الأسرى في الواقع كمصدر للمعاناة ليس حقيقيًا، فهم كمن اعتاد تشخيص الواقع "مسامير"، فيرى الحلول أمامه بالضرورة "شواكيش".. وكلما كانت معاناتهم أشد كلما كانت الرغبة في تفسيرها أقوى، مما يقودهم هذا الإلحاح النفسي لتفسير مصدر عذابهم، إلى التهويل والتضخيم، وسرعان ما تتبين الصورة ويصطدمون بحقائق الواقع مما يزيد من عذابهم ووحدتهم.
لم يعد الأسير بجسده هو المستهدف، ولا يعذب بالحرمان المادي والتجويع وإنما الروح والعقل هما المستهدفان، والوفرة المادية هي وسيلة من وسائل التعذيب الحديث. وبالتالي فقد بات من الضروري إعادة تعريف التعذيب والقهر والإضطهاد وكشف تفاصيله الحداثوية المركبة. إن الأسير يطحن ويعذب بين شكل الزمن الثابت في علب المكان داخل السجن، وبين محتوى الزمن الذي تحرر من أعباء المكان وأصبح في زمن ما بعد الحداثة بسرعة الألكترون.
فالمتغيرات في واقع المكان والحضارة والناس، التي كانت تحدث خلال عام من الأسر قبل عشرين عامًا، هي أقل بكثير مما لا يقاس عما يتغير خلال عام في عصرنا الحالي. وما يفقده الأسير من صلة بواقعه خارج الأسر خلال أشهر قليلة أصبح كارثيًا يجعله فاقد الصلة بالحضارة والناس وقيمهم وعلاقاتهم الإجتماعية.. بحيث يتحول خلال أعوام قليلة في السجن إلى متخلف قياسًا للواقع خارجه. إن هذا الفارق يحول بزمن قياسي الأسير الفلسطيني إلى فاقد الصلة بالواقع ويستغله الإحتلال بكل أجهزته بما فيها إدارة السجون لتكريسه وتعميقه من أجل فصله كليًا عن أي مشروع وطني أو تفكير جماعي ويدفع به للإغتراب كليًا، كافرًا بالنضال أو في أحسن الأحوال يحوله إلى عبء على شعبه وقضيته الوطنية... يتبع
.........................
[24] . هي التسمية التي تطلق على الشخص الذي كان الألمان يختارونه أثناء الحرب العالمية الثانية من بين سكان الجيتو من اليهود ليمثل حلقة الوصل بينهم وبين باقي السكان وكثيرًا ما كانوا هؤلاء يتعاونون مع القوات الألمانية لينقلوا الأخبار وأماكن المخابئ السرية وذلك مقابل امتيازات مادية وأحيانًا مقابل عدم نقلهم كالباقين إلى محارق الحل النهائي.
[25] . يسمح للأسرى وبالإضافة لطعام السجن اقتناء ½ 2 كيلو لكل أسير خضار وفواكه شهريًا. هذا بالإضافة لنفس الكمية من الدجاج واللحوم والسمك.
[26] . ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990)، ص 210.
[27] . يتلقى كل أسير تغطية لمصاريفه في السجن 500 شاقل شهريًا من السلطة الفلسطينية.
[28] .تتراوح المعاشات التي يتلقاها الأسير من السلطة ما بين 1500 شاقل لغاية 6000 شاقل شهريًا.
[29] . أنظر تقرير وزارة شؤون الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية المنشور في صحيفة "القدس" عدد 14378، ص 12.
[30] . غرامات تفرضها المحاكم الإسرائيلية على الأسرى، وصلت في إحدى دفعات السلطة وفق التقرير المنشور (بنفس المصدر السابق) لغاية اثنين مليون شاقل