بقلم : نقولا ناصر* ... 01.02.2010
(**المقاومة العراقية، لا التردد العربي، هي التي تمنع تطبيع العلاقات العربية العراقية)
مرة أخرى، سوف تسلط الأضواء على علاقة جامعة الدول العربية بالعروبة، ليطرح السؤال مجددا عما إذا كانت عروبة أي أي دولة عضو شرطا مسبقا لعضويتها، وذلك عندما يبحث وزراء الخارجية العرب جدول أعمال يتضمن بند استضافة العراق للقمة العربية الثالثة والعشرين في بغداد العام المقبل، مع أنها تجهر ليلا نهارا بكفرها بالعروبة، عندما يلتقي الوزراء في الثالث والرابع من شهر شباط / فبراير الجاري في الدورة ال 133 للجامعة ليمهدوا لانعقاد القمة العربية الثانية والعشرين في السابع والعشرين والثامن والعشرين من آذار / مارس المقبل في ليبيا التي تجهد على قدم وساق لتوفير المقدمات لخروج القمة بحد أدنى من التضامن المفقود بين الدول الأعضاء، بالرغم من يأس القيادة الليبية المعلن من العرب ودولهم وجامعتهم الذي دفعها في السنوات الأخيرة إلى البحث عن انتماء إفريقي تستقوي به بديلا للانتماء العربي المفقود.
إن تشكيك الأمين العام للجامعة عمرو موسى في استضافة بغداد للقمة العام المقبل عندما قال إن "من المبكر الحديث عن إمكان" ذلك إثر اختتام زيارته لليبيا التي استمرت ثلاثة أيام أواخر الشهر الماضي للإعداد لقمة الشهر المقبل لم يبد مقنعا بعد أن أوفد موسى الأمين العام المساعد أحمد بن حلي إلى بغداد أواسط الشهر الماضي ليؤكد الأخير أن بغداد سوف تستضيف القمة فعلا وأنه سيقدم "تقريرا شاملا" عن العراق لوزراء الخارجية والقادة العربي في قمة ليبيا، وبعد أن أوفد ناجي شلغم قائما بأعمال مكتب الجامعة في بغداد أوائل كانون الثاني / يناير الماضي، وهو الثالث الذي يمثل الجامعة هناك منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
وكون شلغم عربيا ليبيا يذكر بأن ليبيا التي سوف تستضيف قادة الحكم العراقي المنبثق عن الاحتلال في القمة المقبلة كانت قد أغلقت سفارتها في بغداد عام 2005 لكنها فتحت ثلاث مكاتب علاقات لها في أربيل ودهوك والسليمانية في إقليم كردستان العراق حيث قام وفد ليبي رفيع المستوى برئاسة وزير التطوير الاقتصادي محمود جبريل بزيارة هي الأولى من نوعها أواسط الشهر الماضي قال عنها فؤاد حسين رئيس ديوان رئاسة الإقليم إنها كانت "ردا على زيارة رئيس الإقليم مسعود البرزاني العام الماضي إلى ليبيا"، وقال محللون إنها تنسجم مع الدعوات الصريحة للرئيس الليبي معمر القذافي طوال سني حكمه الأربعين إلى منح الأكراد في أماكن تواجدهم جميعها حقوقهم الكاملة، وقد جاءت زيارة الوفد الليبي بعد عام فقط من امتناع ليبيا عن المشاركة في المؤتمر الثالث عشر للبرلمانيين العرب الذي انعقد في أربيل بحجة وقوع العراق تحت الاحتلال مما قاد رئيس مجلس النواب في بغداد آنذاك محمود المشهداني إلى شن هجوم عنيف على ليبيا متهما إياها بتمويل أعمال المقاومة التي سماها "أعمال الإرهاب".
وبالتالي فإن الإعلام الليبي الموغل في معارضته لاحتلال العراق -- مثل إشادة محمد مدني الحضيري رئيس الوفد الليبي إلى الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة الذي انعقد في بيروت مؤخرا ب"المقاومة العراقية الباسلة في مواجهة الاحتلال الأميركي" -- لن يكون عمليا عائقا أمام الدعوات، الأميركية بخاصة، إلى تطبيع العلاقات العربية العراقية أو أمام حضور العراق وهو ما زال تحت الاحتلال للقمة المقبلة أو أمام استضافة بغداد للقمة التالية العام المقبل، قبل زوال الاحتلال وإفرازاته السياسية.
إن المراقب لن يحسد مدير التلفزيون الليبي والشاعر المعروف علي الكيلاني مؤلف الأغنية التي تشيد بالرئيس العراقي الشهيد صدام حسين وتدين مشهد إعدامه على الموقف الذي سيكون فيه وهو مضطر الشهر المقبل إلى تغطية أخبار استقبال بلاده لقتلة صدام ممن أدخلوا الاحتلال الأجنبي إلى حرمات وطنه.
ودون نكأ الجراح العربية للعراق وعرب العراق بالتذكير بموقف الجامعة العربية من احتلال العراق قبل سبع سنوات أو من حصاره طوال سنوات قبل ذلك، فإن أي رصد للنبض الشعبي العراقي يظهر بما لا يدع مجالا لأي شك بأن هذا الجرح ما زال نازفا خلال سنوات الاحتلال.
وفي أحسن الأحوال فإن هذا النبض قد يرحب بانعقاد قمة عربية في بغداد فقط كما قال شاعر عراقي لوسيلة إعلام أجنبية "دعوا القادة العرب يأتون إلى بغداد ليروا ما حدث لبغداد العظيمة، فقد حولت إلى أطلال مدينة عظيمة".
أما أسوأ أحوال هذا النبض فقد عبر عنها د. صباح محمد سعيد الراوي في القدس العربي اللندنية في التاسع والعشرين من الشهر الماضي عندما كتب: "والله... ثم والله... وبعد التحرير إن شاء الله، وبعد تطهير العراق من دنس الاحتلال ... وفيما لو أجرت الحكومة العراقية الوطنية استفتاء للمواطنين العراقيين - في الداخل أو الخارج - حول سؤال يقول: هل تؤيد بقاء العراق ضمن منظومة ما يسمى جامعة الدول العربية فلسوف أصوت بغير ندم وأسف على كلمة لا... ولسوف أطلب من كل شخص أعرفه أن يصوت أيضا بكلمة لا"!
أما على صعيد "العراق الرسمي" الذي سيحضر القمة العربية المقبلة ويستضيف تلك التي تليها على الأرجح، فإنه كالمريب يكاد يقول خذوني. ففي القمة العربية العشرين بدمشق قبل عامين أثار عضو مجلس رئاسة النظام المنبثق عن الاحتلال الذي تتحدث أخبار هذه الأيام عن ترشيحه لرئاسة الحكومة بعد انتخابات الشهر المقبل، عادل عبد المهدي، عش دبابير كل الطائفيين المعادين للعروبة ولأي دور عربي للعراق، وبخاصة الكرد منهم، ممن جاء الاحتلال بهم حكاما بالوكالة في بغداد عندما حاول تجميل وجههم القبيح عربيا بقوله مخاطبا عمرو موسى: "اطمئن معالي الأمين العام الأخ الصديق عمرو موسى إن العراق قلعة العرب الأقحاح ورافد حضارتهم الإسلامية العربية، وهويتهم القومية المعاصرة، العراق يُعرِب غيره ولا يُستعجَم.. هذا دوره تاريخياً وحاضراً وعروبته وهويته فوق أية شبهة".
لكن "الاجتثاث" الدموي للهوية العربية الجاري في العراق اليوم تحت الاحتلال تحت مسميات وادعاءات مختلفة صريحة ومبطنة، والنص في قوانينه الأساسية التي سنها الاحتلال على أن العرب العراقيين هم فقط الجزء الذي لا يتجزأ من الأمة العربية، والدفق الذي لا يتوقف من التصريحات التي تحمل "الجيران" العرب، لا الاحتلال الأميركي وذاك الإيراني الذي يستظل به، المسؤولية عن المقاومة الوطنية للاحتلالين -- وهو فضل لا يدعيه هؤلاء الجيران لأنفسهم، لا بل إنهم يبذلون قصارى جهودهم لإثبات دعمهم المادي والإعلامي والأمني والدبلوماسي والسياسي ل"استقرار" النظام المنبثق عن الاحتلال بقدر ما تبذل المقاومة العراقية من جهود لاستمالة ودهم كي يقفوا في الأقل على الحياد بينها وبين الاحتلال والنظام المنبثق عنه – هي أدلة لا تبقي مساحة لأي شك في أن العداء للعرب والعروبة هو واقع ملموس في عراق اليوم لا مجرد "شبهة"، كما ادعى عبد المهدي.
ومع ذلك فإن المرة الأولى التي طالب القادة العرب فيها "جماعة" بخروج قوات الاحتلال من العراق كانت بعد ثلاث سنوات من الاحتلال في مؤتمر قمة الخرطوم عام 2006. إن تزامن هذه المطالبة مع تصاعد وتيرة المقاومة العراقية للاحتلال ومع إدراك كل المراقبين أن هذه المقاومة باقية إلى أن يزول الاحتلال، وليست ظاهرة عابرة، يقود إلى الاستنتاج المنطقي بأن هذه المقاومة على وجه التحديد، لا تردد معظم دول الجامعة العربية في تطبيع العلاقات العربية العراقية، هو السبب الرئيسي في منع هذا التطبيع من أن يأخذ مداه الكامل، بدليل أن هذه المقاومة تحديدا ما زالت هي السبب الرئيسي في "توتر" العلاقات العربية – العراقية.
إن المراقب لا يسعه إلا المقارنة بين حال القمة العربية التي عزلت مصر بعد عقدها الصلح منفردة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، دون أن تتنصل من عروبتها، وبين القمة العربية التي تؤسس اليوم لسابقة عدم عزل دولة عضو في الجامعة وقعت تحت الاحتلال، وتتنصل علنا من عروبتها، قولا وممارسة، كالعراق، مما يؤسس بدوره، في الأقل من حيث المبدأ، لقبول دول غير عربية في الجامعة العربية، وهذا هو بالضبط المقدمة اللازمة لمنظمة إقليمية غير عربية تحل محل الجامعة العربية، وعسى أن يكون هذا مجرد شطط في التحليل!
لقد أنشئت جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية عربية تحت مظلة الاستعمار البريطاني المباشر أو انتدابه أو وصايته لتؤسسها في الظاهر دول عربية لم تكن قد نالت استقلالها الوطني الكامل بعد لامتصاص خيبة أمل شعوبها في التحرر الوطني والوحدة العربية بعد أن انكشف لهذه الشعوب الخداع البريطاني الذي قدم خلال سنتين وعودا متضاربة ينقض أحدها الآخر عندما وعد مؤسس المملكة العربية السعودية بدعم جهوده لتوحيد شبه جزيرة العرب ووعد شريف مكه المكرمة الهاشمي بمملكة عربية موحدة مقابل دعم جهود الحلفاء الحربية ضد دول المحور التي كانت تضم الخلافة العثمانية التي كان الوطن العربي الكبير في ظلها موحدا لا تفصل الحدود الحالية بين أقطاره، في الوقت نفسه الذي كان سايكس البريطاني يوقع مع نظيريه الفرنسي بيكو والروسي (قبل الثورة البلشفية) سازانوف على ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية العربية ب"اتفاقية سايكس – بيكو" التي جزأت الوطن العربي بدل أن توحده، وفي ذات الوقت أيضا الذي كانت بريطانيا "العظمى" تعطي للحركة الصهيونية ما أصبح يعرف في هذه الأدبيات ب"وعد بلفور" لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، قلب الوطن العربي.